وأجل ما بدا حنان مصطفى، وأروع ما تجلى تقديره للصداقة والحب والود والبر بالصحاب، يوم أصيب صاحبه مكرم «بالملاريا»؛ فكانت تلك فترة جزع وروع ومخافة، وكان يعوده طبيب إنكليزي من أطباء الجيش البريطاني برتبة «الميجور»، وكان الرفقاء لا يفارقون سريره، ولما اشتدت العلة عليه، نقل إلى المستشفى، فعارض سعد وإخوانه في نقله، وقالوا إنهم لا يخشون العدوى منه، بل هم على استعداد تام للعناية جميعا به، والسير على تعاليم الطبيب وأوامره، ولكن الطبيب أصر على النقل، فلم يجدوا بدا من التسليم والإذعان.
ونقل مكرم إلى المستشفى فوق محفة يحملها أربعة من الجنود وعليه ملاءة بيضاء، نقل مكرم على تلك الصورة بين أصوات الألم من إخوانه والنوح والأنين؛ ولكن مصطفى أبى إلا أن يتبعهم، وأصر على أن يلزم أخاه مكرم في نقلته. وجرت مشادة بين الرفقاء وبين الطبيب في أمر السماح لمصطفى بالمسير مع القوم إلى المستشفى لملازمة سرير صاحبه، فلم يلبث الطبيب أن أذعن لصوت الجماعة، وأمام وحدة الشعور والحنان.
وظل مصطفى بجانب مكرم راعيا حانيا ممرضا مطببا، وجعل يكتب إلى أصحابه من المستشفى منبئا بسير صحة المريض العزيز، حتى قيض الله له النجاة من العلة، فتماثل وعاد إلى أصحابه ناجيا، وقد قص مصطفى بعد ذلك ما كان في المستشفى فترة إقامتهما؛ فقال إنهم وضعوهما في غرفة يقفل عليها باب ضخم من الحديد، وكانت تلك الحجرة معدة فيما مضى للمرضى من الأسرى الأتراك في الحرب الماضية الذين كان يؤتى بهم يومئذ إلى عدن. فلم يكد الصديقان ينزلان بها حتى هجمت عليهما جيوش جرارة من الحشرات والبعوض والهوام وما إليها، فجعلا يدافعانها بكل ما استطاعا فلم ينالا منها كثيرا ونالت هي من دمائهما، حتى اضطرا إلى الاستغاثة، ومن القسوة البالغة أنهم لم يصرحوا لهما باستخدام الكلل «الناموسيات»، إلا بعد أن بح صوتهما من فرط الصياح، خشية أن تبلغ أسماع المسترقين للسمع والمترصدين.
ولم يكن سعد وصحبه أحرارا في إحضار مال من القاهرة للنفقة على أنفسهم كما يشاءون، إذ كانت قد صودرت حساباتهم في المصارف قبل حملهم من وطنهم إلى ذلك المنفى البعيد، فكانت الحكومة الإنكليزية مقررة لسعد مصروفا شهريا قدره خمسون جنيها، ولكل واحد من رفقائه ثلاثين، وكانت أجرة المنزلين اللذين يسكنونهما في سيشل، ونفقات الطعام والشراب وأجور الخدم تدفع من تلك المرتبات!
إن قصة سيشل هي في الحق أسمى ما كان من مشاهد البطولة، وأرفع ما عرفت الدنيا من قيمة العظمة الإنسانية، وأنبل ما أظهرته الشجاعة الوطنية في مجاز المحن والآلام؛ قصة الشيخوخة المريضة وكيف تحملت أشنع المعاملة، واصطبرت لأسوأ الأذى ، وتجلدت للأسر والقيد والعنت والضيق والبغي والعدوان؛ قصة الرجولة التي نسيت حق نفسها في التفاني في البر بسواها، والحدب على غيرها، والإيثار لمن عداها؛ بل قصة الشباب في أروع ثباته وأرفع قوته ونبالته، وأكبر سخرية من الألم والعذاب ...
وسوف تظل ذكريات سيشل في التاريخ الإنساني للوطنية كمثل لأقسى ما كابدته، وأشنع ما قاسته، في سبيل قضاياها المقدسة، ومبادئها العالية، وإيمانها الوثيق، ويقينها بحقها المقرر، وشهامتها السامية، وجدها الرفيع المكين.
لقد نفي نابليون إلى جزيرة هيلانة منهزما مدحورا، فمرض فيها مرض الموت، وكان ذلك مطلب الذين نفوه، وأمنية الذين اعتقلوه. ونفي سعد إلى سيشل منتصرا قاهرا، في معارك نفسية، ووقائع روحية، هو المسلح فيها بأغرب الأسلحة، وهو الحق الأعزل، والقوات المخاصمة له لا تدري ماذا تستخدم من أسلحتها - على كثرتها - حيال هذا الجندي المسلح، ولكن على طراز غير طرازها، ومن دروع ولأمات غير ما ألفت هي من دروعها وتروسها وأسلحتها ومجناتها، وهي أخشى ما تكون عليه إذا مرض وإن رامت تعذيبه، وأخوف ما تكون على صحته وإن بغت إيلامه، وهي أحرص ما تكون على حياته وإن قست عليه. ولقد أرادت بنفيه مجرد الدرس الأليم لتكون العبرة البالغة؛ فتلقى هو الدرس وألمه، ولكن خيب الغرض منه، وفوت غايته، بل لقد انتفع هو بالدرس ونتيجته، إذ عرف منه مبلغ قوته، ومدى جلده وثباته، وأدرك بالتجربة أنه أقوى من خصمه على بطشه، وأجلد على آخر ما عنده من امتحان وبلاء.
وقد احتمل مصطفى النحاس بجانب سعد كل ذلك وأكثر منه؛ لأنه كان شابا محدودا، ورجلا ذا مسئوليات أبوية؛ فلم تنقطع مع احتماله تلك الآلام الشداد ومرارتها، مسئولياته تلك ومقتضياتها، فكانت نفسه موزعة بين سيشل النبيذة الطريحة في وسط المحيط، وبين ذلك البيت الصغير الهادئ في حي شبرا، حيث تقيم تلك القطع الصغيرة من الإنسانية، أولاد أخته الذين تولى تربيتهم، وأعطاهم جزءا من روحه لرعايتهم وتنشئتهم، وقد حمل من وسطهم ظلما وعدوانا إلى غربة قصية ومنفى بعيد، فلم يبق لهم غير معاشه القليل، وإلا أتعاب مكسورة لا تزال في ذمم المتقاضين.
ولكن مصطفى انتفع بالمنفى انتفاع سعد به؛ لأنه جرب قبل أن يصل إلى مكان القيادة العليا كافة لوازمها، وامتحن بأشد تكاليف عذابها وآلامها. وقد عجمت السياسة البريطانية عوده فخشيت مما عجمت. واطمأن هو إلى قوته التي اختبرت، وأدرك أن كل شيء في سبيل مصر محتمل، وكل تضحية من أجل وطنه هينة، وأن المقاومة الروحية هي في معركة القوة والمادة، المنتهية أبدا بالفوز المبين.
وفي مصر على أثر هذا الحادث العظيم، ظهرت قوة الوفد بأجلى مظاهرها، وبدا نظامه العجيب على أكمله، وتجلى تسلسل القيادة فيه باهرا يشده الخصوم، ويكبت الأعداء؛ إذ نهض الذين بقوا من أعضاء الوفد بأعباء الجهاد رافعين رايته، منظمين قيادته، وانضم إليهم آخرون، غير مشفقين من شبح السجن، أو منزوين من تصور الاعتقال، وظل بيت الأمة قبلة الوطنيين تبعث منه أم المصريين نداءاتها الصادقة إلى الشعب فتهز بها القلوب التي في الجنوب، وتوقد في الأرواح الشعل واللهب، وتضرم الحماسة في النفوس أي إضرام.
Bog aan la aqoon