125

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Noocyada

نظرنا إليه ونحن لا نكاد نملك حواسنا، ونظرنا فإذا بالضباط الإنجليز مطرقو الرءوس خاضعون أمام هذا البكاء الطاهر المليء بالمعاني.

بكى الرجل فسرى البكاء منه إلى نفوسنا، حتى ذهبت شعاعا وانحدرت دموعا ...

فوالله لقد أحسسنا أن مصر، وقد رأت قائدها وأركان حربه مأسورين، قد بكت في هذا الرجل أسرها، وتوسلت به إلى الله تطلب نصرها.

بكى الرجل فاقترب إليه أحدنا، وحاول أن ينفحه مبلغا من المال يعينه على عيشه، فرمى الرجل بالمال من يده وكأنه نار تحرقه، رافضا أن يأخذ لبكائه ثمنا، وأن يستعيض عن شعوره مالا أو بدلا.

لا أذكر من اسم هذا الرجل إلا أنه محمد، ولكني أعرف أنه الوطن تجسد في محمد، وأني ما حييت سأذكر أن محمدا بكاني، وأن محمدا آخاني!»

وفي عدن، على الطريق إلى سيشيل، أراد الإنكليز أن يعجموا عود سعد، ويمتحنوا مبلغ وطنيته وجهاده، ويستطلعوا مدى رباطه وعناده وجلاده، فبعثوا إليه في الثالث عشر من شهر فبراير سنة 1921، وهو محتبس في حصن عدن، من يحادثه في الشئون الشاغلة، والمطالب القومية، ويمنيه بأسمى المقامات في البلاد. فلم يجد أمامه إلا قناة صلبة لا تغمز، وعودا ثابتا لا يهز، بل لم ير حياله غير حفاظ للأمانة كامل، ووفاء لمصر جليل، وقول صريح لا تردد فيه؛ فقد أعلن سعد محدثه، في شجاعة وصدق، وجهرة وإيمان ويقين، أنه لا يبحث إلا عن شيء واحد، وهو استقلال بلاده!

لقد لجئوا إلى «مساومة» حقيرة مع رجل صادق في وطنيته، فكان ذلك جوابه على مساومتهم، جواب عظمة وشرف وطهارة ونزاهة وقوة إيمان. كان ذلك جواب زعيم أمة لا يعرف مساومة في حقها، ولا يشتري راحة نفسه ببيعها، ولا تخيفه المخاطر المجهولة التي يساق إليها، فيسلم على أول الطريق، ويذعن عند أول تلويحة، وتتمثل له المكاره، وتتخيل لديه الغوائل والآلام وألوان العذاب التي تنتظره، وهو شيخ تجب له الراحة، مريض تنتابه العلل، ضعيف البنية عرضة للسقام، فيشتري نفسه ببيع بلاده للمساومين.

لم يكن سعد هذا الرجل الذي يجرب هذه التجربة، ويغرى هذا الإغراء، ولكنهم كانوا حائرين في الواقع حياله، فعمدوا إلى هذه المساومة وهم عارفون نتيجتها، مدركون على الأرجح كيف ستروح الفاشلة المحطمة. وقديما رأينا الحيرة تذهب بأهلها أعجب المذاهب، وتسلك بهم أبعد ما يكون السلوك من النجاح.

وكان منزل سعد وصحبه بعدن في الرابع من شهر يناير سنة 1922، وكان مقامهم بحصنها مقام الأسرى والسجناء، وكذلك لبثوا حتى الثامن والعشرين من شهر فبراير، فساروا بهم إلى سيشل، وكان ذلك هو يوم إعلان استقلال مصر، بتصريح من الإنكليز، تصريح 28 فبراير المشهور، الذي ألغى الحماية، ووعد بإلغاء الأحكام العرفية ريثما تصدر الحكومة الملكية الجديدة قانون التضمينات، بل التصريح السياسي العجيب الذي جاء من جانب واحد، ثم أحيط في الوقت ذاته بأربعة تحفظات، كان كل تحفظ منها سخرية كافية من ذلك الاستقلال.

لقد أقاموا هذا التوفيق المصطنع بين يوم الاستقلال ويوم الأسر، فكان توفيقا في معناه، ساخرا من معانيهم، وكان صغارا على هامش جدهم، وأضحوكة بجانب مرارة عملهم وشناعة تصرفهم؛ ليكون في القاهرة معالم زينة، وفي عدن سفرة أليمة، ورحلة حزينة، وتشريد بعيد.

Bog aan la aqoon