115

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Noocyada

واتصل بسعد وصحبه عقب تلك المقابلة أن سير ونجت تساءل عن الصفة التي تخول لهم هذا المظهر، فأجيب بأن سعدا هو وكيل الجمعية التشريعية المنتخب، وأن رفيقيه نائبان فيها، وأن لهم بهذه الصفة حق التكلم باسم الوفد، فرأى سعد وإخوانه أن يضيفوا إلى وكالة الأمة النيابية وكالة خاصة منها للمهمة العظمى التي أخذوا على أنفسهم القيام بها، فكونوا وفدا منهم يضم أربعة آخرين من إخوانهم، وأعدوا صيغة لتوقيعها من أفراد الأمة وبنيها بتوكيلهم ومن يضمونهم إليهم في السعي إلى استقلال البلاد، حيثما وجدوا إلى السعي سبيلا.

وما كادت تظهر تلك التوكيلات حتى أقبل الناس عليها جماعات ووحدانا، وانتشرت في طول البلاد وعرضها انتشارا أزعج السلطة العسكرية؛ فأمرت بمنع التواقيع ومصادرتها. وقد قال سعد في مذكراته بسبيل ذلك الحادث التاريخي العظيم الذي يرتبط بمولد أكبر هيئة وطنية في سجل قيادات الحركات الوطنية في العالم الحديث:

أقبل الناس على التواكيل يمضونها، وأخذ وفودهم يردون علينا من كل الجهات ... ثم علمت بأن مستشار الداخلية المستر هينز أخذ يستحضر الأعيان ويهددهم بألا يشتركوا في هذه الحركة، وأن يمتنعوا عن توقيع التوكيلات ... وكتب المستشار للمديرين يأمرهم بأن يمنعوا الناس من التوقيع على التوكيلات، فباشر حكام الأقاليم هذا المنع وصادروا ما وجدوه منها بأيدي الناس، وقد كتبت في هذا الخصوص خطابين متتابعين إلى وزير الداخلية، فرد عليهما بأن المستشار إذا كان أصدر هذه الأوامر بالمنع والمصادرة؛ فإن ذلك لأن البلاد تحت الأحكام العرفية، ولأن هذه التوكيلات اعتبرت مخلة بالنظام العام.

ولست أريد أن أتحدث عن الحركات الخفية التي بدت يومئذ في ناحية أخرى لأجل تكوين وفد آخر يرأسه الأمير عمر طوسن. وكان بعض الأشخاص ممن ينفسون على سعد مكانه، ويغارون من سعد أن يكون ذلك في الأمة موضعه، هم الذين يغذون تلك الحركة الانقسامية، ويدسون على سعد عند الأمير ليوغروا عليه صدره، لست أريد الحديث عن تلك الحركة العارضة، فقد فشلت وهي في بدايتها، وحبط ما صنع فعلتها، وانفرط عقد الوفد الآخر من تلقاء ذاته، وتداعى هيكله القائم من رمال.

ولكني أحب أن أقف هنا لحظة أمام عاملين كبيرين كان لهما أكبر الأثر في تكوين الوفد وشد بنيانه، وإنجاح شأنه وإبراز سلطانه، ولست بواجد أبلغ في وصفهما، ولا أروع سحرا في بيانهما، من كلمات مكرم عبيد سكرتير الوفد نفسه، بسبيل تكوين الوفد وسر عظمته، فهو في ذلك يقول:

أما العامل الأول فهو أن سعدا لم يكن وحده صاحب الرأي في تكوين الوفد وقيادة الحركة، بل كان له شريك فيهما معا، وهذا الشريك هو الذي خلقه الله للرجل عونا وإلهاما وحنانا؛ هي الزوجة التي حظيت من سعد بقربه، وتسمعت همسات قلبه، هي صفية زغلول أم المصريين.

لم تكن صفية زغلول لتجهل الخطر المحدق بزوجها كزعيم لهيئة ثورية تعمل تحت سلطان الأحكام العرفية، ولم يكن سعد ليخفي عنها شيئا من ذلك وهي التي اقتسمت معه الحياة بما فيها من خير ومن شر، فلما بدا له أن يقود حركة الاستقلال، ويؤلف وفدا للمطالبة به، فاتح زوجه في الأمر، وقال لها في صراحة قاسية دامية إنه بذلك إنما يضع رأسه في يمينه، فما كان منها إلا أن قالت: «ضع إذن رأسي في شمالك.»

وإني لأذكر فيما أذكر أننا عندما كنا في السويس في طريقنا إلى المنفى وصلت إلى سعد رسالة قرأها متجهم الوجه دامع العين، فلما لحظت منه ذلك هممت بالقيام حتى لا أتطفل على مكنون شعوره، فاستبقاني قائلا: «هذا خطاب من صفية، وهي تقول إنها عولت على البقاء في مصر حتى لا يخلو محلي في بيت الأمة، وإنها مطمئنة إلى وجود أولادي معي ليعنوا بصحتي.»

قال ذلك في صوت متهدج، فلم أقدر - علم الله - على النطق بكلمة، بل لاحت أمام عيني صورة هذين الزوجين الشيخين اللذين لم يبق لهما إلا حبهما لبعضهما، وقربهما من بعضهما، فهي له وهو لها الوالد والولد، وهي له وهو لها الساعد والسند ...!

جالت هذه الصورة المفزعة في نفسي، وعجبت للعاطفة التي تجعل من الحب والحياة شيئا يسيرا، وعجبت للوطن كيف يطغى حبه على كل حب فيرتضيه الإنسان حلوا أو مريرا، ولكني عجبت وما عجبت، فقد كنت أنظر إلى الوطن بملء نفسي، فأحسبني به كبيرا، ولم أكن إلا صغيرا!

Bog aan la aqoon