108

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Noocyada

مصطفى النحاس.

ولقد نشأ مصطفى على احترام الواجب، وتقديمه على كل اعتبار سواه، مهما جل خطره، وعظم شأنه، وكبر حسابه، وإن له في الحرص على الواجب مثل عقيدة «مازيني» واستمساكه، فلا يتردد في تأديته، ولا يؤثر عليه لوازم المجاملة، وتكاليف الآداب، وإملاءات التقاليد.

ولعل أبرز مثل على احترامه للواجب، وتقديمه على المجاملة، وعلو خلقه عن صغار الازدلاف، ومهانة النزوع إلى التقرب أو التماس الحظوة - ما حدث له في أسوان قبل أن ينقل إلى ميت غمر حيث تعارف بسعد كما أسلفنا عليك. فقد كان قاضيا في أسوان، ومكلفا بجانب ذلك نظر قضايا محكمة الدر؛ ففيما هو عائد ذات يوم منها، وآخذ طريقه إلى محكمة أسوان، إذ نبئ أن المستشار القضائي - وهو يومئذ سير أ. مكلريث - قد قدم بطريق النيل لزيارة المحكمة؛ فتلقى مصطفى النبأ بكل هدوء، وتابع سبيله إلى المحكمة دون أن يعطف على الشاطئ لتحية المستشار، وعقد الجلسة كعادته وكانت مدنية، وانكمش في نظر قضاياه.

وما لبث أن حضر المستشار ومعه محمد توفيق رفعت بك - الآن باشا - وكان يومئذ مفتشا بالمراقبة القضائية، وكانت الجلسة منعقدة، فلم يفكر مصطفى في رفعها لاستقبال الزائرين الكبيرين، ولكنه ظل ينظر القضايا في هدأة وسكون كعادته.

وجاء الرجلان فجلسا وراء القاضي بعد استئذانه، وجلس معهما وكيل النيابة وكان يترجم للسير مكلريث ما يدور في الجلسة، حتى فرغ القاضي من نظر أربع قضايا أو خمس، فانسحب المستشار ومن معه إلى غرفة القاضي حيث لبثوا في انتظار فراغه من عمله.

لقد فعل ذلك القاضي مصطفى النحاس في لقاء المستشار القضائي، وهو ما لم يؤلف من القضاة في أمثال هذه المناسبات، إذ كان المتبع أن يرفع القاضي الجلسة في الحال، ويلحق بالمستشار أو المفتش لتأدية التحية له والترحاب به، وسماع أية تعاليم يروقه أن يصدرها، أو ملاحظات يطيب له أن يبديها.

ولكن القاضي مصطفى النحاس - كما رأيت - لم يفعل شيئا من ذلك، بل لم يرفع الجلسة عقب انصراف المستشار، وإنما استمر على عمله حتى فرغ من القضايا المعروضة عليه جميعا. وطال انتظار المستشار فانصرف إلى الباخرة التي أقلته، وكانت ملقية مراسيها بالشاطئ، وأسرع وكيل النيابة إلى مصطفى يقول له معاتبا: «أهكذا تدع الرجل ينتظرك طويلا حتى مل الانتظار فانصرف؟!»

ومن ثم رأى مصطفى أنه - وقد فرغ من تأدية واجبه - يصح أن يذهب لزيارة المستشار والسلام عليه، فانصرف إلى داره حيث تناول الغداء واستراح بعد الطعام، وقبيل المغيب ذهب إلى حيث ينزل المستشار على شاطئ النيل، فلما رآه استبق السلم للقائه، وتلطف غاية التلطف في تحيته واستقباله، وقدمه إلى جليسه، وكان هذا هو الطبيب الخاص لجلالة ملك إنجلترا، وقد جاء إلى مصر لزيارتها والطواف بها ومشاهدة ربوعها وآثارها، فجلس الثلاثة يتحدثون مليا، فأبدى المستشار إعجابه بمصطفى النحاس في عبارات إطراء لم يقتصد فيها، وكلمات مديح كثير.

وفي اليوم التالي دعاه لتناول الشاي معه، وتقابل توفيق رفعت بك مع مصطفى النحاس، فنبأه بأن المستشار كان قد قرر نقله من أسوان إلى الوجه البحري، إذ علم أنه قد قضى في أسوان عاما ونصف عام، ولكنه سمع من السياح ثناء عاما على محكمة أسوان وقاضيها الشاب، وعرف أن المحكمة أصبحت بين الأماكن التي يزورها السياح لمشاهدة سير القضاء المصري، وبلغه أن هيبة هذا القاضي الشاب في نفوس المتقاضين قد تركت أجمل الأثر في نفوس السائحين، فقرر لهذه الاعتبارات بقاءه في محكمة أسوان إلى آخر موسم السياحة؛ لأن في بقائه عنوانا حسنا للقضاء المصري، ومثالا رائعا على عدالته ونزاهته ورفعة مستواه.

وقد بر المستشار بوعده، فلم يكد ينتهي شهر مارس وتخف حركة السائحين حتى نقل مصطفى إلى محكمة ميت غمر - التي أسلفنا حديثها إليك - مكتسبا احترام الإنكليز بجانب احترام مواطنيه، بارزا في عالم القضاء بخليقته القوية، وشخصيته النزيهة، وكرامته العالية.

Bog aan la aqoon