106

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Noocyada

وترامى نبأ هذا الخلاف إلى سعد وهو وزير للحقانية، فأمر بدعوة الأستاذ النحاس إلى لقائه، فذهب مصطفى فدخل على سعد مكتبه، فسأله عن تفصيل ما جرى بينه وبين رئيس الدائرة، فقال إنه قد اصطلح معه وزال ما كان من خلاف بينهما، ومن ثم لا يرى وجها لإثارة تلك المسألة من جديد، فقال له سعد: «إني كوزير للحقانية من حقي أن أطلب إليك بسط التفاصيل لي.» فلم ير مصطفى غير النزول على رغبته، فمضى يقص عليه ما جرى.

وحين فرغ من ذلك أخذ سعد يناقشه في المسلك الذي اختاره، ويسأله ألم يكن من سبيل أمامه غير ذلك السبيل الذي سلكه في هذا الخلاف صونا لكرامة القضاء، وحرصا على جلال سلطانه وهيبته بين الناس.

فراح مصطفى يشرح الموقف من جميع نواحيه، ويبين الظروف والملابسات التي أحاطت به، حتى سلم سعد أخيرا بأن تلك الظروف لم تكن لتسمح بسلوك غير ذلك المسلك الذي لجأ مصطفى إليه كارها.

وعند ذلك حدق سعد بصره في هذا الشاب الجديد المستوى حياله في شجاعة الرأي، وقوة الاعتداد بالذات، والحرص على الكرامة، والثقة بالنفس في أرهب المواطن، وأنشأ يقول: «الآن، وقد انتهيت من البحث معك كوزير للحقانية، فإن لدي نصيحة أبوية أريد أن أسديها إليك، وهذه النصيحة هي ألا تكون شديدا مع زملائك.» فأجابه مصطفى غير متردد: «إنني لا أستطيع أن ألين فيما أعتقد أنه حق وعدل!» فقال له سعد: «إني لا أنصح لك بأن تلين في الحق، فحاشا لله أن يكون هذا هو مرادي، ولكني إنما أطلب إليك ألا تكون شديدا في معاملة زملائك، ولا تحسبن أنني أبرئ نفسي بهذا القول، فأنا مثلك شديد في معاملة زملائي، ولكم بلغت مني الحدة أحيانا حتى لكدت أهم بضرب زملائي المستشارين، ثم إذ أخلو إلى نفسي بعد ذلك وأفكر فيما بدر مني، لا ألبث أن أحس الندم على حدتي، والأسف على شدتي في معاملة الزملاء ... فلا تكن مثلي.»

وقد ظل سعد يذكر ذلك اللقاء على كرة السنين، حافظا في خاطره استقامة مصطفى النحاس، وشدة تمسكه بالحق، وحرصه على كرامة القاضي الشجاع الأبي العادل النزيه، ولسنا نرى شيئا أجمل من هذا التماثل الخلقي بين هذين الرجلين اللذين اجتمعا في تلك المناسبة العجيبة: وزيرا للقضاء، وقاضيا شجاعا شهما شديد الإباء؛ ليتحدثا فيما بينهما عن الحق والشدة فيه، والغضب له، والحرص عليه، وهما يومئذ لا يدريان أنهما على الأيام مجتمعان للحق ذاته ولكن في أتم معانيه، متلافيان عند التشدد فيه وبالغ الاستمساك به، ولكن تشدد المجاهد المكافح، واستمساك المناضل عن حق أمته كاملة، بقوة الإيمان وثبات اليقين.

وما أعجب حديث سعد وهو يومئذ أكبر من مصطفى سنا! إذ ينصح له بألا يشتد هكذا مع زملائه، وهو في الوقت ذاته معجب به، مكبر لموقفه، راض عن مسلكه، بل ما أروع انتقال سعد من الكلام كوزير، إلى الحديث كصديق ذي نصيحة، ناسيا الفارق الكبير بين الموضعين، غير ملق بالا إلى شيء غير موقف هذا القاضي المبتدئ الذي يسلك نفس مسلكه، ويعامل زملاءه في الحق عين معاملته، ناصحا له بأن «لا يكون مثله»، وهو لا يعلم يومئذ أنه سوف يكون غدا مثله حتما، بل سيروح أقرب شبها منه، وأدنى تماثلا إليه، وأنه سوف يحل محله، ويخلفه على تراثه الوطني العظيم.

لقد تلاقى الرجلان يومئذ بالروح، واجتمعا يومئذ في أشرف معاني الفضيلة، وأجمل مكارم الخلق، وأبلغ مظاهر العظمة التي كانت الطبيعة قد هيأت لها أكبر فرص الظهور عند نضجة الحوادث، واكتمال الظروف، وقيام المناسبة الصالحة.

وقد اعترف سعد وهو وزير للحقانية بأنه لا يملك أن يكون «متسامحا» مع زملائه في الحق، وأنه على هذه الخليقة باق، ولهذه النزعة ملازم؛ ولكنه لا يحب أن تكون في مصطفى متمكنة منه، شديدة الأثر في نفسه، مقترنة بمعاملته وتصرفاته، كأنما هو لا يخشى على نفسه من نتائجها، ويشفق على القاضي المبتدئ منها، ولا تكون هذه الخشية السريعة عليه إلا وليدة الإعجاب، ونتيجة الغيرة والحرص وحسن التقدير.

على أنه مع سياق الحوادث، وعلى مر السنين، بقي الرجلان على تلك الشدة المتناهية في الحق، هي سياج دفاعهما عن بلادهما، وموضع مناعتهما ضد كل فتون أو إغراء، وحيال كل إرهاب أو وعيد.

وقد تجلى حرص مصطفى على الحق وحفاظه للعدل وهو في مركز القضاء، في كثير من الحوادث، وعديد من القضايا، وكانت هناك اعتبارات كثيرة تحيط بتلك المسائل، حتى لو أن قاضيا آخر يومئذ في موضعه لسلم على الأرجح بما أبى هو فيه التسليم.

Bog aan la aqoon