102

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Noocyada

يجب أن يكون المحامي بحاثا عن الحق والعدل، فلا يترافع ضد ضميره، ولا يغلبه الطمع في الكسب على التطلع إلى الفوز بإزهاق الباطل، وجعل كلمة الحق هي الغالبة. ولا يصح أن يكون المحامي مداجيا، فيعمد إلى التعمية أو يلجأ إلى إخفاء الحقائق، كما أن بلاغته ولسنه وقوة منطقه وكفاءته وبراعته ينبغي أن تنصرف جميعا لخدمة الحق والعدل دون أي اعتبار آخر، أو تفكير في شيء سواهما بأية حال من الأحوال.

وهذا لا يتعارض - بلا ريب - مع واجب الدفاع باعتباره حقا مقدسا لكل متهم، وإنما يجب أن يلبس المحامي كل حالة ثوبها الحقيقي، ويصورها في صادق صورها، ويصرف همه وعنايته إلى شرح الظروف الصحية المحيطة بالقضية وملابساتها، فإن هذه قد تكون عوامل تقتضي الرحمة، أو ظروفا توجب التخفيف.

على هذه المبادئ السامية جرى مصطفى النحاس في المحاماة، وهو يومئذ شاب مبتدئ يتطلع إلى النجاح في الحياة، وقد نجح فعلا ذلك النجاح الوثيق المكين القائم على أمتن القواعد، الرفيع كأمتن البنيان، على حين يذهب كثير من الشباب غير ذلك في فهمهم لمطالب النجاح ووسائله، إذ يعتقدون أن الاستقامة على طريق الحق والصدق قلما تجدي على صاحبها في هذا المعترك الصاخب المزدحم العنيف، وأن على قدر ما يكون المرء مصانعا كبير الحيلة أخا مداجاة ملتمسا الكسب بكل وسيلة، يدنو من النجاح وشيكا، ويوفي على الغاية منفرج الخطوات.

نجح مصطفى النحاس في بداية حياته العملية كمحام من طراز بديع، أو محام مثال على النزاهة ورفعة المبادئ؛ حتى راحت القضايا تتدفق عليه، وكان يمرض من كثرة العمل وطول الدأب والانكماش في قضاياه.

وكان نجاحه في المحاماة سبيلا في خطة الطبيعة إلى البروز في ميدان آخر غيرها، وكان هذا البروز مقدورا أن يأتي سريعا، فاقتضى ذلك أن يروح النجاح الأول عظيما بالغا، مترامي الخبر في المجامع، متناقل الأحاديث مع الدهشة والإعجاب في مختلف الأوساط.

لقد أرادت العناية الإلهية أن يكون مصطفى النحاس قاضيا ليحكم بالحق والعدل، بعد أن كان المدافع عنهما تحت المنصة وأمام السياج، ويكفي أن يكون محاميا في الرابعة والعشرين أو قرابتها فيختار لوظائف القضاء، يكفي هذا ليكون دليلا على النبوغ السريع، والتفوق النادر، والنجاح الباده، من المطالع، بل لقد كان انتقال مصطفى من المحاماة إلى سلك القضاء ظاهرة جديدة في الوسط القضائي لم يشاهد لها مثيل ولا شبيه؛ لأنه كان أول محام، أو المحامي الوحيد الذي عين قاضيا ولم يكن قد مضى على إدراج اسمه في المحاماة أكثر من ثلاث سنين!

ولم يحاول مصطفى هذا التعيين، ولم يسع إليه بنفسه، ولا استعان فيه وساطة الوسطاء؛ بل لقد أباه واشتد في إبائه، ورفضه معتزا بمحاماته، قانعا بحريته، معتدا بنجاحه في صناعته، لا يبتغي عنها تحويلا؛ ولكن الحكومة هي التي سعت إليه، وهي التي طلبته للقضاء، مكبرة ما كان في المحاماة منه، وما زالت به تحاول إقناعه بالقبول من هاهنا وهاهنا حتى رضي أخيرا، احتراما لإرادة من لم يستطع لمشيئته عصيانا، وهو والده، إذ خوطب في الأمر ليستعان به عليه.

كان ذلك في يناير سنة 1904، ومدير الإدارة القضائية في وزارة الحقانية يومئذ هو المغفور له عبد الخالق ثروت باشا. وكانت الوزارة بحاجة إلى قاض جديد، فكتب ثروت باشا إلى محام قديم في المنصورة يدعوه إلى لقائه، فلما اجتمعا قال مدير الإدارة القضائية: «إننا نريد أن نعين أحد المحامين في سلك القضاء، وقد سمعت ثناء كثيرا على الأستاذ مصطفى النحاس، ولكني علمت كذلك أنه رجل صلب يكره الوظائف، ويعتز بحريته، وقد دعوتك لتخاطبه في هذا الشأن، فلعلك مستطيع إقناعه بالقبول.» ولكن الزميل القديم أجاب بأنه يخشى ألا ينجح إذا هو سعى وحده في هذا السبيل، وأنه يرى أن يلجأ إلى والده ليحمله على الرضا؛ فاستصوب ثروت باشا الفكرة وحسنت لديه.

وسافر الزميل إلى المنصورة، ثم قصد منها إلى سمنود لمقابلة الشيخ محمد النحاس، وقص عليه نبأ لقائه لثروت باشا والحديث الذي دار بينهما؛ فأرسل الوالد إلى ولده يستقدمه سريعا إليه، فقدم مصطفى إلى سمنود ليرى ما الخبر، وما كاد يلتقي ووالده، حتى ابتدره هذا بقوله: «إنني أقسم يا مصطفى أنك لن ترفض ما سأطلبه إليك.» ثم راح ينبئه بما كان بين ثروت باشا وزميله. وسمع مصطفى القصة وهو في صمت، حتى إذا فرغ والده من الحديث، راح يظهر الرفض والتأبي، ولكن ما زال به والده يلح عليه حتى وعده القبول.

وجاء مصطفى إلى القاهرة وذهب لمقابلة ثروت باشا، فأراد أن يمتحن مبلغ خلقه وقوة نفسه، فقال له: «لقد دعوناك لكي نتحدث في أمر تعيينك إما قاضيا، أو وكيل نيابة.» فلم يكد مصطفى يسمع ذلك حتى استوى ناهضا من مجلسه وهو يقول: «إنني لم أقبل المجيء هنا إلا بإلحاح شديد، وبعد أن قيل لي إن الاتفاق قد تم على دخول سلك القضاء، أما والأمر كما تقول، فإني أرفض بتاتا الوظيفة التي تعرضونها، وإني راض كل الرضا بحالتي في المحاماة، وبالحياة الحرة التي أدعو الله أن يديم علي نعمتها.» فأعجب به ثروت باشا أشد الإعجاب، وقال له: «أقسم لك إنني إنما أردت بهذا امتحان أخلاقك.» ثم مد يده إلى درج مكتبه، فأخرج منه المرسوم القاضي بتعيينه، فدفع به إليه.

Bog aan la aqoon