وكفاه في العار فخرا، وما أبهى جمال القلب، جمال التضحية، وما أعظم حبه للفقراء والأشرار، وما أعظم تضحيته للحزنى ومضطربي البال، بدليل أنه في ليلة غنى الملك الجواد الخديو إسماعيل، ولما أجاد سأله الخديو قائلا يا عبده اطلب تعط، فأجابه لفوره وطلب بأن يعفو عن نشأت باشا، مدير القليوبية آنئذ، الذي كان صدره واغرا عليه ويبعث إليه رحمة ومغفرة لا لعانا وسبا، فعفا عنه وكان ارتياح عبده للعفو عنه أعظم من ارتياح الأخير له؛ لأن العطاء خير من الأخذ، ولو طلب عبده من الخديو إسماعيل مالا جزيلا لنفسه دون سواه لناله حتما؛ لأن كلام الملوك ملوك الكلام، ولكنه آثر الخدمة العاملة على خدمته الخاصة.
على أني أرى ما يماثل ذلك وأكثر منه بدليل أن في الأوساط المسيحية أشخاصا من رجال وسيدات كرسوا حياتهم لخدمة المجتمع يبذل النصح للساقطات في محالهن لينزعن عن عيشتهن الفاسدة، وهم لا يأبهون لما قد يلحقهم جميعا من غضاضة بغشيانهم منازلهن؛ لاعتقادهم في أنفسهم بأنهم في ذلك يؤدون واجبا إنسانيا شريفا ذهابا إلى أن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، حتى أن منهم من يتناول من جيبه مبلغا من المال يدفعه إلى من يراها في حاجة ماسة إليه؛ لتكف عن غوايتها وتقيم به أود معاشتها موقتا إلى أن تحترف مهنة شريفة، وكثيرا ما نرى جمعيات مؤلفة من فضليات النساء الغرض منها منع تعاطي الأشربة الروحية، والسموم المعروفة بالمرفين والهيروين؛ إبقاء على حياة مدمنيها، وحفظا لإحساساتهم ووجداناتهم الشريفة، فلا يرمى بذنب من يفعل مثل ذلك، بل يشكر عليه، ولو لابسهم في بيئتهم. هذه هي ضالة المصلحين والمصلحات المنشودة، وتأييدا لها لا بأس من إيراد ما قاله أدون مركهام الشاعر الأميركي، وهو «أن المتعصب رسم دائرة صغيرة لنفسه وجعلني أنا الجاحد الضال خارجها، ولكني والحب عوني غلبته، وقد رسمت معه دائرة كبيرة وجعلت الضال داخلها»، وكم كان يرتل القديس فرنسواي داسيز أناشيده عن الشمس والطبيعة، إذ أنه عظم الشمس وغنى قائلا: الشمس أختنا، والقمر أخونا، والريح أختنا، والماء أخونا، والنار أختنا، والأرض أمنا، والعصافير أخوتنا الصغار، والزهور أخواتنا الصغيرات، وهو لا يعتبرها غريبة أو دخيلة؛ لأنها تمثل جزءا من العائلة البشرية، وتعبد إلاها واحدا مثله، وكان حقا علينا نحن المصريين أن نعتبر عبده الحمولي الموسيقار العربي مصلحا قوميا ومربيا اجتماعيا استطاع بما حباه الله من الشعور وقوة الإلهام أن يفتح لنا ما تنكر من ذرائع الإصلاح، واتخذ من الذين تاهوا في شعاب الباطل، وكثيرا ما هم، وأثابهم إلى هداهم أنصارا وأصدقاء حريين بأن يكونوا أعضاء للعشيرة البشرية، نافعين في البلاد، وعاملين على إحياء مجد مصر وأقدر من سواهم على إدمان تعاطي العلم والصناعة والتفرغ لهما عن ركوب متن غرورهم.
كرمه الحاتمي
ويحكى عنه أنه بينما كان يلعب النرد (الطاولة) مع خليل بك إبراهيم من كبار موظفي مصلحة الكمارك بدكان المدعو أبسطولي تاجر الطرابيش بالإسكندرية (وهو الدكان الوحيد الذي اعتاد أن يغشاه عبده دون المقاهي - على ما أكد لي صاحب المعالي سعيد ذو الفقار باشا بالسراي الملكية يوم 10 يوليو سنة 1935 - وكان يكلمه عبده بالتركية لعدم معرفته العربية) لمح رجلا أمسك عن ذكره لي الأستاذ جاك رومانو صديق عبده - يرقب انتهاءه من اللعب بفارغ الصبر، فاستبطن عبده كنهه في الحال وترك الطاولة وتوجه نحوه، وكان عبده يلبس بإصبعه خاتما ثمينا من الزمرد منشوري الشكل المعروف اصطلاحا بال
Capuchon
لا يقل ثمنه عن ألف جنيه، ولما انتهت المقابلة عاد إلى مجلسه وأراد استئناف اللعب فتنبه أحمد أفندي عبد المنعم الباشكاتب بالمحافظة إلى عدم وجوده بأصبعه، فلفت نظر جاك أفندي رومانو الجالس بجانبه إلى ذلك، وأخذ كلاهما يلومانه على تصرفه به، فاعتذر إليهما مما جرى بحجة أن النقود التي معه لم تكن كافية لسد حاجته فاضطر إلى تسليمه إليه ليتصرف به، كما يتراءى له واحتج لنفسه قائلا لهما:
دوام الحال من المحال فالدنيا غدور والدهر عثور وذكرهما القول المأثور «اكرموا عزيز قوم ذل».
مواساته للفقير
بينما كان ساكنا بحارة التمساح (بقسم عابدين) بجوار منزل صديقه حضرة مخائيل بك تادرس طلب ذات يوم من أيام شهر شعبان من الأخير أن يذهب معه إلى جهة الحنفي بشارع الشيخ: صالح حيث كان يوجد دكان بقالة «ويميش» للمدعو علي أفندي النمر - المخزنجي سابقا بسراي الجزيرة للمغفور له الخديو إسماعيل - ليشتري منه ما يلزمه في شهر الصوم المبارك فاشترى بالفعل أرزا وسكرا وفواكه ناشفة، وحلويات متنوعة بستة عشر جنيها دفعها إليه مما كان معه، ولم يبق في جيبه سوى 275 قرشا صاغا، وقفل راجعا مع صديقه إلى منزله، وقال له في الطريق «ربنا أكرم من كل كريم فالذي رزقني مصروف شهر رمضان ليس بعسير عليه أن يرزقني مصروف العيد»، وما كاد ينتهي من حديثه هذا ويقترب من منزله حتى أقبل عليهما رجل رث الثياب وسلم عليهما، وأخذ يقبل يد عبده، فما كان من الأخير إلا أن أخرج من جيبه مبلغ ال 275 قرشا وأعطاه إياه، فاعترضه مخائيل بك ولامه على إعطائه كل المبلغ بدون أن يبقى لنفسه شيئا منه، فأجابه عبده قائلا: إنك لو وقفت على حقيقة حال هذا الرجل لعذرتني فيما أتيت، لأنه كان من أكابر فراشي العاصمة، وكان يملك مفروشات وسجاجيد وفضيات ثمينة، وهو الآن كما تراه لا يملك شروى نقير، فقد تجاوز بصنيعه الحد الصحيح المعقول الذي اختطه السيد المسيح الذي قال: «إذا كان لك ثوبان فاعط واحدا منهما لأخيك» تلك الحكمة المأثورة البليغة لجديرة بأعلى اعتبار، ولي أن أعتبره هنا غبين الرأي ولا يبرأ في هذا التهور من الملام.
حقا إن مثل هذه التضحية ينطبق عليها قول أحد علماء النفس من الإنكليز ومفاده معربا كما يأتي: «إن الماء الذي لا يسمع أنين البؤساء، وآلام المرضى هو غير طاهر، ولو باركه كل قديس في السماء، أما الماء الذي انصب في آنية الرحمة فهو طاهر، ولو تلوث بالرمم وتأذى بالجراثيم».
Bog aan la aqoon