وكيد زمانك واتهنى وافرح وطيب
وانفي همومك بالأكواب - سعدك قمر
ودور (راست) تلحينه «المطر يبكي يا ناس لحالي» إذا غناه رفرف السامعون عليه بأجنحتهم ورءوا المطر ينهمر عليه، ودور (بياتي) تلحينه أيضا«بسحر العين فيذكرهم فتور الجفون وسحر العيون وما يليه من نحول الخصور وابتسامات الثغور وسريان الريح بريا الزهور إلخ إلخ، على ما وقفت عليه بنفسي وسمعته بأذني وأيده حضرة الأستاذ قسطندي منسي الموسيقار من معاصريه.
ولما كنت أعرف المرحوم عبده حق معرفته من حيث أطواره ونفسيته وعبقريته؛ لما كان بينه وبين والدي من قوى الجمعة، وتمكن الألفة بينهما فضلا عن كثرة غشيانه الزقازيق عاصمة الشرقية، حيث كانت له عزبة بناحية الشولية على ترعة الإسماعيلية بمركز بلبيس يبلغ مقدارها 711 فدانا من الأطيان المرملة التي كان قسم منها يبلغ نحو 86 فدانا يؤجر بثمانية جنيهات، والبقية منها كانت تحت التصليح، كان عهد إلى المدعو إبراهيم حلمي أخي معاون محطة حلوان في إدارة شئونها، وبعد وفاته قام المرحوم باسيلي بك عريان صديقه الحميم بالإشراف عليها بنفسه وتولى دفع الأقساط المستحقة عليها للبنك، وهو الذي اشترى منزله الكائن بالعباسية بشارع «عبده الحمولي» المسمى باسمه، وكان معدودا من أكابر ملتزمي الأسماك هو وحسن عيد وعويس الذين اعتادوا التزام حلقات الأسماك في القطر المصري من وزارة المالية، وقد تولى باسيلي بك أمر ولده الدكتور محمد الحمولي الذي فاته والده وهو في الرابعة من سنيه، واهتم بشأن تربيته اهتمامه بولده الخاص وفاء لوالده بعهده، أرى واجبا علي وخدمة للتاريخ أن أذكر كلمة موجزة عن حياته الخلقية والفنية، وأبين للقارئ الكريم كيف وقع إلقاؤه الأغاني في النفس موقعا جليلا، وأربى على الأكفاء من المحترفين لفن الغناء من أبناء عصره تذكيرا لمعجبيه بأساليبه الحسنة، وحبه الشديد للإتقان، وإتحافا للمحدثين الذين لم يسمعوه بما رق وراق من سلامة ذوقه وكمال ترتيبه وقوة ابتداعه؛ ليقفوا على حقيقة أمره، وما كان له من القدح المعلى في جميع فنون الغناء، فأقول كشاهد عيان سمع صوته الرخيم وسبر غور نفسه النبيلة بتمثيله للعواطف أحسن تمثيل، فإنه كان يغني وهو مشروح الصدر عن عاطفة ووجدان ألحانا وأدوارا تعبر عن نفسيته فيدركها السامع متأثرا بمثل تأثره. ولم يمتز عن سائر المغنين في عصره، ليس بصوته القوي الرخيم وتلحينه الشجي الخاص به فحسب بل بما حباه الله من روح يسيطر عليه في إبان «السلطنة» على جميع النغمات، فيأتي من غرائب التفنن في الغناء، والإلقاء البديعين ما يحمل أفكار سامعيه على أجنحة تصوراته الساحرة، فيخيل إليهم أنهم ارتقوا إلى المراتب العلوية ورأوا أشياء لم يروها ولم يحلموا، بها فضلا عما له من لطيف الحس وشديد الحب للجمال الذي أمكنه بهما أن يبث في نفوسهم روح الغيرة والعظمة ومتانة الأخلاق والحماسة العربية، وكافة المحامد والفضائل ذلك سر تفوقه على نحو ما حدث لكل من بتهوفن الموسيقي الغربي الأوحد، وجون ملتن الشاعر الإنكليزي الكبير، وأبي العلاء المعري الشاعر العربي، فإن الأول كان أصم لم يمنعه الصمم عن التلحين ولو لم يسمعه، وكان الثاني والثالث أعميين لم يبصرا من حولهما فقام كل واحد منهما بوصف الجنة وجمالها وبهائها ورياضها ومائها والخلود وما ذلك إلا بما أوتوا من روح الإلهام وما تغلغل في نفوسهم من لطيف الحس، وحب الجمال، وروح الحب على نحو المثل القائل «أعطني حبا أعطك فنا» ومن أحكم ما يحسن إيراده بنصه الإنكليزي معربا بقدر الإمكان. ... Art is much but love is more,
Art symbolizes heaven, but Love is God
And makes heaven
إذا كان في الفن شيء كثير فإن في الحب شيئا أكثر، فالفن يرمز إلى السماء والله محبة وهي للسماء صانعة - وقيل أيضا «أحب وحلق»
Love and soar
وبالجملة فإن فقيدنا «عبده» كان للموسيقى معجزة وسيدا عليها يتحكم بها ولا يأتمر بأمرها كالموسيقيين السابقين واللاحقين الذين كانوا وأصبحوا عبيدا لها، ولا أبالغ إذا جاهرت قائلا بأن أريكتها ما زالت شاغرة بوفاته إلى وقتنا هذا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وهل يظن يا ترى أن تنجب مصرنا عبقريا آخر يماثله أو يدانيه؟
ومما يؤثر عنه أنه بينما كان يغني بالهياتم في منزل صاحب السعادة الفريق: أحمد زكي باشا ياور ساكن الجنان الخديو إسماعيل، وأمامه الأستاذ: نخله المطرجي (الحلبي) أكبر العازفين على القانون في مصر، وكان قانونجي السلطان عبد العزيز، افتتن الحضور بشجي ألحانه وساحر نغماته التي كان يغنيها براحة ودعة محركا بين أصابعه حبات المسبحة الكهرمان، ولما لم يسع المطرجي اللحاق به لقوة صوته وغريب تصرفه وسعة حيلته الفنية وبحته وقهقهته الماسة مقامات الموسيقى كلها انتهى، وانتهى به الأمر أن أمسك قانونه وطرحه أمام «عبده» دلالة على عجزه وقال له «خلاص ياسي عبده أجيب لك منين» إيماء إلى المقامات العالية التي كان يأتيها، ولا قبل لأعظم عازف بها على حد ما كان يقصر عنه باع الأستاذ محمد العقاد الكبير القانونجي الشهير حالما كان يحاول عفق أوتار قانونه الخالي من العرب التي لم يألفها طلبا لتصوير نغماته فكان يشير إليه عبده مبتسما بأن يكتفي بإمساك «بمب» على قانونه في أثناء لعبه بالنغمات.
Bog aan la aqoon