ومن هذه الموشحات خرجت الفدود التي جاء بها شاكر أفندي الحلبي إلى مصر في المائة الأولى بعد الألف على ما ذكر في باب حياة عبده الحمولي فليراجعه من يشاء.
الفصل الرابع
عبده الحمولي
تاريخ حياته، ومجهوده الفني، ومعاملته في المجتمع، وما جرى له
عبده الحمولي بين الأزهار.
ولد المغفور له عبده الحمولي سنة 1262 هجرية (تقريبا) بمدينة طنطا، وكان والده الملقب بالحمولي (نسبة إلى حمول أو حامول من أعمال مركز تلا مديرية المنوفية) يمارس تجارة البن. وكان للفقيد أخ أكبر منه سنا، وما عتم أن وقع بينه وبين أبيه شقاق حتى فر به من وجهه، وهام كلاهما في الخلوات مشيا على الأقدام. ولما تعب المرحوم عبده من السير لصغر سنه حمله أخوه على كتفيه واستمرا على هذا المنوال إلى أن صغت الشمس إلى الغروب، وضعفت نفساهما من التعب دون أن يجدا أحدا يأنسان بصحبته، أو يلجآن إلى ضيافته. وقد هدتهما أخيرا خاتمة المطاف إلى رجل اسمه شعبان لبى طلبهما بكل ارتياح، وآواهما على الرحب والسعة. وكان المضيف من حسن الصدف يشتغل بصناعة الغناء والعزف على القانون، وما لبث أن سمع صوت عبده الرخيم حتى افتتن به وعاد به إلى مدينة طنطا حيث اشتغل معه مدة وجيزة، وحضر به آخرا إلى مصر واشتغل معه بقهوة عثمان أغا المشهورة التي كانت في وسط غابة من الأشجار موضع حديقة الأزبكية حالا. ولما استقر بهما المقام في مصر زوجه بابنته طمعا في الانفراد عن مواقف المنافسين له بمزية استغلال مواهبه العبقرية وحده، وكان من وراء علمه أن المرء لا يخلو من أضداد على حد قول الشاعر. لأن «المقدم» الرجل الطائر الصيت في فن الغناء ظهر له منافسا، وذلك بعد أن علم بعبده وأعجب بصوته، وانتهز الفرصة التي فيها كان يغلظ شعبان لعبده في الكلام ويسيء معاملته استنادا إلى رابطة المصاهرة وتوصل بدهائه إلى توسيع شقة الخلاف بينهما مما أدى إلى تطليق ابنته ثلاثا، فألحقه بتخته واستمر يغني على الطريقة المعروفة عند محترفي هذا الفن من المصريين وقتئذ، وأصلها يرجع إلى رجل اسمه شاكر أفندي من حلب الشهباء ألقى عصا التسيار في هذه الديار في المائة الأولى بعد الألف حيث كان فن الألحان فيها مجهولا، فنقل إليها عدة تواشيح وبعض قدود كانت البقية الباقية من التلاحين التي ورثها أهل حلب عن الدولة العربية، بدليل أن الحلبيين الأذكياء ينزعون إلى الموسيقى، وتهفو قلوبهم في أثر الطرب، ولذا لا تخلو دورهم ومجامعهم لغاية الآن من الآلات الموسيقية التي يحسنون غالبا العزف عليها، ولما تلقاها عنه بعض المحترفين من المصريين ضنوا بها طمعا وحرموا غيرهم من الانتفاع بها دون أن يذيعوها على الملأ طلبا للتفرد بها، ولو تأذى الفن بمثل هذا الاحتكار، وكانت مقصورة على أمهات المقامات وبعض ما تفرع عنها مما يقارنها ولا يشرد عنها، فأخذ المرحوم عبده بما حباه الله من مواهب فذة في صقلها وتهذيبها مضيفا إليها ما عن له من النغمات تمشيا مع نواميس الرقي والإصلاح، ونفحها بروح مصرية، وكساها بجلباب عربي، ووسمها بطابع بهيج وذوق سليم فرماه لذلك المحترفون الرجعيون بالزندقة، وقاطعوه بشدة لشروده عن البالي من غنائهم وتبديل نبره الحلبي بالأنغام المصرية، فأفرغها في قالب على أسلوب رشيق ضاربا عرض الحائط بكل الأغاني التي تعتورها الركاكة، ويشوهها اللحن، أو يتجاذبها التنافر مما تنقبض منه الصدور، وتسأمه النفوس. فانتهى به الأمر أن انتصر عليهم جميعا واضطروا إلى الجري على منهاجه بعد أن باءوا بالذل والخسران. فأخذت الموسيقى في ذلك الوقت تتدرج وترتقي بعد أن أنعشها من كبوتها حتى بلغت ذروة الكمال؛ لاحتوائها على أنواع من السحر وعوامل من التطريب بما أدرجه في صلبها من نغمات النهوند والحجاز كار والعجم عشيران التي تلقنها عن مشاهير المطربين في الأستانة طيلة الرحلات المتعددة التي قام بها وهو بمعية ساكن الجنان أبي الأشبال الخديو إسماعيل، محيي الفنون الجميلة في وادي النيل الذي يرجع إليه كل الفضل في إنماء مواهب عبده الفنية، وتوجيهها للنهوض بفن الغناء العربي إلى المستوى اللائق به؛ لما وجد فيه من ميل فطري وسعة تصرف في النغمات. فكان يتنقل من نغم إلى نغم، ثم إلى أنغام أخرى ويحيط بكل فروعها ويعود إلى النغم الأساسي بطريقة فنية، وتصرف غريب، ولم يدع في الغناء القديم شواذا إلا ردها إلى قواعدها، أو مسموعا قبيحا إلا طرح معايبه، وألبسه أنصع جلباب متحاشيا اللغو والحشو والتعمية مرتفعا عن مقام التلفيق والتحدي، منزها عن النسج في التلحين على منوال المحدثين بخروجهم عن جادة الصواب، ومسخ محاسن الغناء العربي الصحيح.
وبالجملة فإنه استطاع علاوة على تهذيبه التواشيح والقدود التي تلقاها على الطريقة الحلبية الوصول إلى التوفيق بين المزاجين المزاج التركي والمزاج المصري، بمعنى أن أهل الطبقة الحاكمة في مصر كانوا لا يطربون من الغناء العربي لكونهم يرجعون إلى محتد تركي، فأصبحوا بفضل ما أدمجه من النغمات التركية التي سمعها وهو في الأستانة - على ما سبق الإيماء إليه - يميلون إلى سماعه ويفضلونه على سواه على حد ما حدث للمصريين أنفسهم، فإنهم أعجبوا بالنغمات الجديدة التركية التي عدلها ومزجها بالنغمات المصرية بما يلائم أذواقهم، ونفحها بروح العروبة، وعجنها من طينة الحرية، فدرجت من مهد السيادة الشرقية، والمجد المصري الأصيل، ونالت استحسانهم بالإجماع بعد أن كانوا ينفرون منها ولا يرتاحون إلا إلى نغمات الأنين والتوجع التي اقتصروا عليها في محيطهم الضيق.
على أننا إذا تأملنا عمله هذا وما نجم عنه علمنا أنه لم يقتصر على التوفيق بين أنغام الجنس المصري والجنس التركي فحسب، بل تجاوز هذا الحد وفات هذه النتيجة الفنية وصعد إلى ذروة العلى من الوجهة الاجتماعية؛ بإيجاد صلات بين الشعبين متينة الأسباب حتى تقاربت قلوبهما بعد التباعد، وامتزجت أراحهما امتزاج الماء بالراح، وتمكنت بينهما الألفة ردحا طويلا تمكنا لا يشوبه كلال أو يعتريه ملال.
وكثيرا ما كان يذكر في «بشارفه» وأدواره عبارة (آمان يا لللي)، والآهات التي أخذها عن الموسيقى التركية. وكان ينقل ترجمة الأغاني التركية إلى العربية وينظمها الشعراء، مثال بشرف «بلبل الأفراح غنى آمان في الرياض السندسي» ببعض التصرف تمشيا مع الغزل العربي وتفكهة للقارئ أروي الواقعة الآتية للدلالة على ما كانت ترمي إليه الأغاني من الأنين السائد على العقول، وهو أن سائحة أمريكانية سمعت رجلا يغني بالقرب من فندق الكونتيننتال بشكل غريب الدور الآتي «حبيبي حبيبي شوفوه لي يا ناس شرد مني وبيده الكاس أترجاك تعمل معروف» فأوعزت من فورها إلى ترجمانها بأن يعطيه بالنيابة عنها دولارا ليستعين به على شراء أي دواء من أقرب أجزاخانة طلبا لإسعافه بالعلاج؛ ليتخلص من مغص كلوي كانت تتوجس منه خيفة، وترى بسببه أنه لم يبق من عمره إلا اليسير؛ فضحك الترجمان لكلامها وقال لها يا سيدة: «ليس المغني بمريض. إنما هو عاشق ومغرم صبابة»، فدهشت من قوله وسألته عن معنى غنائه، وما كادت تقف على كنه ما احتواه من معاني البلادة والخمول حتى ضربت برجلها الأرض قائلة: «دم فول» إنه حقا عاشق كسول وعليه أن يبحث عن حبيبته، وليس للناس شأن في ذلك. ولقد قالت الحق الذي لا ريب فيه لأن المرء أحق بأن يعين نفسه من أن يعينه الغير، ولا خير فيمن لا يعين نفسه، والكسول كالميت لا فائدة ترجى منه، والأدهى أنه يشغل مكانا أوسع من مكان الميت، وليست أغاني الأمة إلا رمز أمانيها، ومحك نفسيتها، ومجس قوميتها وثقافتها، وقد قام المرحوم إلياس الأيوبي بإيراد هذه القصة في تاريخه (عن الخديو إسماعيل) ونسب ما جاء بها من النقد إلى لورد كرومر. ففي الاستشهاد بما قالته السيدة الأمريكانية هنا، أو بما قاله الأخير في الموضوع استنتاج واحد، ولو اختلفت النسبة.
على أن تأثير الوحشة المؤلمة والتعب المضني والجوع والظمأ في ظهيرة اليوم الذي خرج فيه عبده من بيت أبيه طريدا شريدا كانت لا تزال مرسومة في مخيلته، حتى أنك كنت تراه في آخر أيامه يقطب وجهه وينقبض صدره ويتقلص بشره كلما دخل عليه وقت الغروب، ويعزى كما لا يخفى انقلابه الفجائي من السرور إلى الكدر والانقباض في نفس ذلك الميعاد إلى ما كان منتقشا في صفحة ذهنه من ذكراها المؤلمة، وذلك دليل واضح على قوة ذاكرته، وما كان في نفسه من الشمم والإباء، وحرصه على كرامته الشخصية بالرغم من صغر سنه حتى أمام والده الصادر عنه الضيم المسيء والعذاب الأليم اللذين كان يوجههما إلى ابنه الأكبر دون عبده الصغير الذي لم تفرط منه هفوة. ولذا كان في أثناء تكدره ينام على التخت وقت الغناء، حتى إذا استيقظ رجع إلى النغمة التي وقف عندها قبل نومه من غير مراجعة آلة ما، أو استنفاض التخت، أو الاسترشاد بأحد العازفين فيه، كأن الطبقة قد انتقشت في صفحة ذهنه وأنها في كن من تأثير جميع الأصوات التي مرت عليه وهو في نومه أو غيبوبته، وأغرب ما في هذا الأمر أن الحضور كانوا يمهلونه وينتظرون تيقظه بكل سرور، حتى إذا ما استأنف غناءه بعد نصف ساعة أو ساعة يهزون أعطافهم، ولو حدث مثل ذلك البطء من أي مطرب آخر لغادر السامعون أماكنهم وانصرفوا إلى منازلهم.
Bog aan la aqoon