Musiqa Al-Lacag
موسيقى العظم
Noocyada
إهداء
طفلان وباتريشيا
ضلاية
فيزياء اللون: إلى صلاح إبراهيم
أنا، الأخرى، وأمي
ذاكرة الموتى
موسيقى العظم
طائر، أسد، وجحوش
وصمة وطن
حناء ... الجسد
Bog aan la aqoon
زوج خريفية
طقس الذنب
الرجل الميت
فنطاسيا الشبح
الأم
إهداء
طفلان وباتريشيا
ضلاية
فيزياء اللون: إلى صلاح إبراهيم
أنا، الأخرى، وأمي
Bog aan la aqoon
ذاكرة الموتى
موسيقى العظم
طائر، أسد، وجحوش
وصمة وطن
حناء ... الجسد
زوج خريفية
طقس الذنب
الرجل الميت
فنطاسيا الشبح
الأم
Bog aan la aqoon
موسيقى العظم
موسيقى العظم
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى السيد المسيح وأمي مريم: لقد غنينا معا، جعنا معا، صلينا معا، صلبنا معا، وها أنا ذا أحتفل بقيامتي وحدي.
عبده بركة
طفلان وباتريشيا
1
كل من في الحي الصغير بقشلاق السجون في مدينة القضارف، تلك الأيام، يتحدث فقط عن السكان الجدد، الذين استغلوا البيت الفارغ المجاور لبيتنا مباشرة، بيننا باب جيران صغير فتحه الساكنون القدامى.
Bog aan la aqoon
أسرة صغيرة تتكون من زوج فقط، تعمل الزوجة جاويشا بالسجن، يقال إن الزوج يمتهن صناعة كراسي الخيزران، طالما لم يكن بالقضارف خيزران، فإنه لا يعمل شيئا، سيبقى عاطلا عن العمل، إلى أن يتم تجنيده بشرطة السجن.
2
أخي الأكبر وأنا، صغيران، هكذا يتم وصفنا من حين لآخر، ننصح دائما بألا نستمع لونسة الكبار وتعليقاتهم، مما يحرمنا الاستمتاع بالمعلومات القيمة عنهما؛ لذا كنا نحاول جهدنا أن نتحصل على الأخبار بأنفسنا، مباشرة من المصدر: الزوج سانسو وباتريشيا.
وذلك عبر الباب الصغير، التصنت من خلال صريف القصب القديم، عن طريق خرم الجرو، قدة الكديس أو كسرة الشباك.
3
الحوارات في الغالب، تجري بلغة محلية صعبة، عرفنا فيما بعد أنها لغة الباريا، لكنا دائما ما نجد معنى لما لم نفهم، معنى نفهمه، أما الأفعال فما كانت تحتاج منا جهدا كبيرا لفهمها.
4
التقط أخي بأذنيه الوطواطتين، قولا - لعطا المنان مقدرة خارقة في سماع حتى ما يهمس به - قال لي: الليلة باتريشيا عاملة شكلة مع سانسو. - كيف عرفت؟ - أمي قالت لأبوي: باتريشيا مشاكلة سانسو.
بإشارة نستخدمها دائما، نطلقها من عيوننا، مصحوبة بحركة من الشفتين ورفسة سريعة من قدم لقدم ، تعني: أرح نشوف، اتخذنا مواقعنا، أنا عند قدة الكديس، عطا المنان عند خرم الجرو؛ لأنه الأكبر فهو دائما ما يحتفظ لنفسه بالمكان الأفضل.
5
Bog aan la aqoon
البيت هادئ، لا ينتج شيئا مفيدا، لا، حتى مجرد همسات قد تؤول إلى مقصد لذيذ بقدر بسيط من إعمال الخيال، لا حياة، فجأة خرج سانسو من القطية، في فمه كدوسه، كدوسه الكبير الشهير، ظل واقفا يدخن في قلق، يرسل خيوطا من الدخان في الهواء بهدوء حذر إلى أن أتت باتريشيا، وضعت كرسي الخيزران خلفه مباشرة، جلس دون أن يطلق صوتا، وضع رجلا على رجل، استمر في مهمة إطلاق الدخان، جاءت باتريشيا بكوب ماء قدمته إليه بناء على طلبه - هكذا ظن أخي - أو من تلقاء نفسها - ظننت أنا - لي وله مبرران مختلفان، لنا شك واحد، عندما تناقشنا في الأمر وقد أصبحنا رجلين كبيرين: إنه طقس سري سحري، لم تتح لنا فرصة التعرف إليه إلى الآن.
أمسك بالكوب، نظر في وجهها، كان أسود لامعا به عينان كبيرتان، كبيرتان؛ كل الناس يقولون ذلك، ألقى بالماء كله في وجهها في دفعة واحدة، رمى بالكوب بعيدا، رطن جملة قصيرة أدخلت الخوف في نفسينا، لولا إصرار عطا المنان على البقاء ومتابعة الحكاية للآخر لهربت مهرولا، لم تقم برد فعل ما يظهر غضبها، دخلت القطية، عندما عادت كانت تحمل عودا غليظا، هب سانسو واقفا وبدأت المعركة، في سرعة البرق تجمعت نساء الجيران في متعة معروفة في تلك الأنحاء، كن يشاهدن العراك العنيف الذي يدور بين الساكنين الجدد، لم يقض على متعتهن في إصدار الأصوات التي لا تعني شيئا إلا حضور أبي وجارنا مرجان كافي إلى ساحة المعركة، قضيا على العراك بالفصل بين الزوجين، منقذين سانسو - كما بدا لنا - من جلدة ساخنة.
6
أخي عطا المنان وأنا انتظرنا بعيدا قرب المرحاض العام المهجور، بالرغم من خوفنا منه؛ حيث إنه مسكون بالشياطين، إلا أنه كان النقطة الأمثل لمتابعة ما بعد المعركة مع تجنب الوقوع في قبضة أحد الكبار، خاصة جارنا العم مرجان كافي أو أبي، وفوق ذلك كله يتيح لنا رصد تحركاتهما.
7
باتريشيا تغسل رجليها الطويلتين وهي جالسة على كرسي من الخيزران عال، تلبس ذات الفستان الذي أدارت به المعركة ضد زوجها، كانت صامتة تتجاهل تماما سانسو الجالس على كرسي الخيزران الآخر، قد اعتدل مزاجه فعاود إطلاق الدخان مرة أخرى، عندما فرغت من غسل ساعديها ووجهها مسحت شعرها، قالت لي: تعال.
دق قلبي بشدة، هرب عطا المنان إلى جهة لا أدريها، قد لا يدريها هو نفسه، أما أنا فقد تسمرت في مكاني من هول المفاجأة؛ لأنني ما كنت أظنها ترانا، قلت لها بفم جاف، لسان ثقيل وشفتين باردتين، ما معناه: أنا؟ - أيوا، إنت يا ود مريم.
ودون تفكير أدخلت رأسي كلها في قدة الكديس، زحفت إلى أن مر جسدي كله عبر الخرم، ثم نهضت، نفضت التراب والقش عن ملابسي أمامها فيما يعني: أنا تحت الطلب.
أخرجت من بين ثنيات شعرها جنيها، قالت لي: امشي الدكان، جيب لي حجار بتاع بطارية، يديك أبو كديس، أوعك تجيب أبو نمر سامع؟ أبو كديس.
انطلقت في سرعة البرق نحو دكان صالح اليماني، خلفي عطا المنان الذي لا أعرف من أي جب خرج، قلت له بين أنفاس متلاحقة: وقالت لي شيل الباقي كمان.
Bog aan la aqoon
8
أجلستنا على عنقريب عجوز تفوح منه رائحة حبال السعف، تحت الراكوبة، ليس ببعيد عن سانسو الذي كلما خلص تباكو كدوسه عبأه مرة أخرى، قدمت لنا طبقا مملوءا بالسمسم المطبوخ بالسكر، ثم أدارت الأسطوانة في أغنية جالو، اختفت لبعض الوقت ثم عادت تلبس فستانا جميلا قصيرا جدا وحذاء له كعب عال، قبل أن نتمكن من أن نندهش أخذت ترقص بجدية وجمال رهيبين، همس أخي في أذني، خائفا: أرح نمشي البيت.
نهضنا في لحظة واحدة متجهين ناحية الباب، لكنها تقدمت نحونا وهي ترقص وفي فمها ابتسامة كبيرة، تبدو من خلالها أسنانها البيضاء بيضاء، أمسكت كل منا بيد وأخذت تطوعنا على رقص أنغام الجالو، مشجعة إيانا بصوتها القوي، مما زاد مخافات عطا المنان، أخذنا نجاريها في الرقص الذي لم يكن غريبا علينا ؛ حيث إن كل من في قشلاق السجون يجيد رقص الجالو، ولكن تخيفنا مناسبة الرقص الغامضة، إنها لم ترق لأخي كثيرا؛ حيث إنه أخذ يعرق بشدة قبل أن يتمكن من انتزاع يده من بين أصابع باتريشيا الطويلة، ويختفي نهائيا، قالت لي برفق وهي ترقص مقربة وجهها من وجهي، مما جعلني أحس بنفسها دافئا في جبهتي، ورائحة عرقها تملأ أنفي تماما، رائحة غريبة لم أشمم مثلها في حياتي، ربما هي التي تحكمت في ردي: عايزة تمشي أنت برضو؟
قلت وأنا أستنشق الهواء المشحون برائحتها: لأ.
قالت وهي تقترب أكثر من وجهي: حترقصي مع باتريشيا؟
قلت: أيوا.
وأخذنا نرقص الجالو، كانت طويلة جدا، لا أدري كم يرتفع رأسها من سطح البحر.
أنا كنت قصيرا صغيرا، ربما في العاشرة من عمري، وقد لا أكون قد تجاوزت المتر طولا، بالكاد يوازي رأسي وسطها؛ لذا كانت تنحني بين فينة وأخرى مشجعة إياي قائلة: هيا، هبا هبا، سوا سوا.
فيندفع نحوي نفسها دافئا، لذيذا وغريبا.
9
Bog aan la aqoon
سانسو يرسل الدخان في الفراغ متجاهلا رقصنا وإيقاعات الجالو الصاخبة، بدا لي باردا، بل لحد ما حزينا.
لكنه فجأة أصدر صوتا غليظا، نحى صخب الجالو جانبا، اخترق أذني في بحة ثقيلة: يا ود مريم، يلا امشي بيتكم، بلاش كلام فارغ معاكي.
نفض كدوسه واتجه نحونا، قلت له بتحد وأنا أتمسك بأصابع باتريشيا الطويلة: ما ماشي؟
رمقني بنظرة شريرة: يا ود مريم اسمعي الكلام.
أخذتني باتريشيا في صدرها، غمرتني رائحة من جسدها عظيمة، قالت: امشي البيت خلاص يا ود مريم، الأسطوانة خلاص انتهت، يوم تاني نجيب حجار بتاع بطارية، ونرقص سوا سوا.
قلت وأنا ألتصق بصدرها بشدة: ما ماشي البيت.
دون أن تقول كلمة واحدة مشت بي نحو الباب الصغير الفاصل ما بين بيتنا وبيتهما، وفعلت فعلة شنيعة؛ حيث إنها نادت أمي طالبة منها أن تأخذني، عندها سمعت صوت أبي يهتف بغلظة طالبا من أمي أن تسلمني له ومعي الحزام، لكني قفزت من صدر باتريشيا هربا عبر باب الشارع إلى حيث لا يدركني أبي.
10
جاء إلي عطا المنان، وجدني جالسا على مسطبة الماسورة القديمة المتعطلة عند الخور، جوار المدرسة الثانوية، أحاول جاهدا إيجاد تفسير لما فيما مضى من أحداث مرت كالبرق، في الحق كنت أتتبع بقايا رائحة جسدها في أنفي، حيث بدأت واهنة بعيدة غالية، وجدني أتشمم الهواء مثل جرو صغير يبحث عن الاتجاه الذي ذهبت إليه أمه، قال لي مندهشا: قاعد تعمل كدا ليه؟ - الريحة.
قال وهو لا يفهم شيئا أو متجاهلا: دخلوا جو القطية. - متين؟ - هسع، أرح نشوف بكسرة الشباك، أمي قالت لأبوي: سانسو حيضبح مرتو؟ أبوي قال ليها: بطريقتم.
Bog aan la aqoon
11
عبر قدة الكديس دخلنا على أطراف أصابعنا، تسللنا إلى الداخل، من كسرة الشباك رأينا: سانسو جالسا على كرسي خيزران يرسل الدخان بعيدا، باتريشيا ترقص الجالو بدون موسيقي فعلية، كانت تغني هي بنفسها وترقص، استطعنا أن نرى البيكاب مرميا على الأرض، حوله تتناثر الأسطوانات لامعة جميلة ومهملة، قلت لعطا المنان: إذا طلق سانسو باتريشيا أنا حأتزوجها.
قال لي دون مبالاة: لكنها طويلة. طويلة شديد وسمينة.
لم أهتم بحجته الواهية التي لا تخلو من حسد؛ لأنني كنت واثقا من أنني سوف أكبر وأصبح طويلا مثلها وسمينا، قلت له: الطول ما مشكلة، بس كيف سانسو دا يطلقها لي؟ أنا أكرهو، أنت بتكرهو ولا لأ؟
12
لم أشعر باقتراب الكارثة إلا عندما التفت إلى أخي عطا المنان؛ حيث كنت انتظر منه إجابة ما ولم أجده، لقد استخدم أجهزة إنذاره المبكر وهرب في الوقت المناسب تاركني لأبي الذي بيد خشنة قوية، بغضب، بصمت كريه، سحبني من خلف الشباك، قابضا على أذني بقسوة.
ومثل تيس عاق جرني عبر بوابة الجيران الصغيرة إلى البيت، وباقي القصة معروف لديكم.
الحي الجنوبي
إبريل 2006
المجروح
Bog aan la aqoon
ضلاية
زوجتي هي التي أصرت على العودة إلى البيت على الرغم من أننا استطعنا أن نأخذ أطفالنا الخمسة جميعا معنا إلى الجبل، الشيء الذي لم ينجح فيه الكثيرون؛ حيث إن ضجيج الطائرتين المقاتلتين أربك الناس كلهم، وجعل الأطفال يهربون في كل اتجاه، مما صعب مهمة الآباء والأمهات في إنقاذ جميع أطفالهم، وخاصة أن بعض الأسر لديها أكثر من عشرة أطفال، وكثير من الأسر لا آباء أو ذكور ناضجين بها، فإما أنهم مقاتلون في الجبهات، وإما أنهم قتلوا، أو مهاجرون في أنحاء السودان الأخرى؛ بحثا عن العمل، طلبت منها أن ننتظر قليلا حتى نتأكد من أن جميع الجنجويد الذين قاموا بالهجوم - بعد أن مضت الطائرتان - قد غادروا القرية، وكنا نرى الدخان من موقعنا ولكنا لم نستطع أن نرى حركة الجنجويد؛ فإنهم يعملون بسرعة، يقتلون من يقع تحت بصرهم؛ إذا كان رجلا، ويغتصبون من كانت امرأة، وهم في ذلك لا يفرقون ما بين من هن طفلات ومن هن ناضجات، أو عجوز، ينهبون ويحرقون القطاطي، ولكن كل شيء يتم بسرعة بالغة، وقد يأتي بعدهم الجيش النظامي أو لا يأتي، ودائما لا يخشى الناس الجيش النظامي كثيرا؛ لأنه في الغالب يتعامل مع المسلحين فقط.
ولا يوجد مسلحون في القرية. ولكنهم أيضا لا ينتظرون من الجيش النظامي أن يحميهم من الجنجويد، المهم أصرت زوجتي أن نعود طالما لم يكن هنالك جنجويد ولا خوف من الجيش النظامي، فهي تخفي إرث أسرتها كله من الذهب في القطية، وتظن أننا قد نستطيع أن ننقذ شيئا من الثروة تساعدنا على العيش في معسكر النازحين إذا استطعنا أن نصل إليه في تخوم مدينة نيالا، حيث لا جدوى من البقاء في ضلاية مرة أخرى، وجدنا عددا كبيرا من الأهل والجيران قد سبقونا إلى القرية، وتوافد آخرون بعدنا، كانوا مثلنا يتخفون من المهاجمين عند الجبل الوعر، كل أسرة تهرول الآن تجاه بيتها أو ما تبقى منه، قليل من القطاطي هي التي سلمت من الحريق، ولكن كل البيوت قد نهبت تماما، وجد بعض الرجال وجلهم من كبار السن قتلى، بعض الصبيات المغتصبات يبكين ويرتجفن من الخوف والإحساس بالعار، كانت «ضلاية» قرية صغيرة تقع غرب مدينة نيالا في إقليم دارفور، بها مائتا أسرة فقط وحوالي ثلاثمائة قطية مبنية من قصب الذرة والقش، محاطة بجبل وعر من جهتي الشمال والشرق، وفي جهة الجنوب يحتضنها أحد روافد وادي «برلي» الكبير، ويطمر بمائه سهلا خصبا يمتد عشرات الكيلو مترات، يستغله السكان القرويون في الزراعة، فوجود القرية على ضفة الوادي، ما فوق السهل وبين هذه المرتفعات جعلها تصبح مثل كومة من البيوت متلاصقة متراصة مع بعضها البعض؛ لذا كان صراخ زوجة آدم التجاني وطلبها المساعدة قد سمع في كل بقاع القرية، وحمل الرجال ما لديهم من أسلحة بلدية ومضوا نحوها تلحق بهم النسوة والأطفال، كانت «أية» زوجة آدم التجاني تقف عند راكوبتها المتهالكة قرب قطيتها المنهوبة وهي تصرخ وتشير بيدها إلى مخلوق لا تبين ملامحه جيدا، يغطيه ركام الراكوبة، تقول إنه جنجويد!
هتف أخي منصور بكل ما لديه من صوت: جنجويد ود البقس!
وأراد ومعه آخرون مهاجمته إلا أنني أوقفته خوفا من أن يكون الجنجويد مسلحا، نصح البعض بأن نحرقه وهو في الراكوبة المتهالكة، آخرون كانوا يفضلون دفعه على الخروج ثم ذبحه أو تقطيعه حيا، وأقسمت امرأة مغتصبة أنها سوف تأكل كبده، هتفنا فيه أن يخرج وإلا قمنا بإشعال النار في الراكوبة وبذلك سيشوى حيا، وكاد البعض أن يفعلها لولا أنه زحف خارجا من القطية، كان سمينا ذا شعر كثيف، له وجه طفولي مستدير، يحيط نفسه بالتمائم والأحجبة، لونه بني، تحت إبطه طفلة صغيرة يبدو أنها مغمى عليها، يضع سكينا كبيرا في نحرها علامة تهديد بأنه إذا هوجم سيقوم بقتلها، كان مصابا إصابة واضحة وبالغة في رجله اليسرى وتبدو عمامته التي يربط بها الجرح حمراء تماما من الدم، ولكن ما استغرب له الناس جميعا هو أن الجنجويد لم يكن سوى آدم راشد، ولد (العم) راشد الأبالي المعروف في كل القرى التي تقع على مسير أو درب العرب الرعاة، كانت تربطه أواصر صداقة وتجارة ونسب بسكان ضلاية، إحدى نسائه هي عمتي سعدية بت أبو علوية، وكان يبيع السمن والجمال الذكور إلى الناس في القرية ويشتري الذرة والعسل والصابون من القرويين، بل إنه كان يترك كثيرا من حيواناته التي كبرت في السن ولا تستطيع المسير إلى بحر العرب في الصيف وبعض الجمال الصغيرة التي لا تتحمل الظعن، يتركها في القرية أمانة في منزل جدي (أبو علوية) الذي يقوم بسقيها وإطعامها طوال فصل الصيف، وأن ابنه آدم راشد، هذا الجنجويد هو أخي في الرضاعة.
طلبت منه شخصيا أن يترك البنت التي تبدو كالميتة الآن ويسلمها لأمها، وذكرته بأننا نعرفه وهو ليس غريبا عن هذه القرية ولا أهلها وأن أباه العم راشد رجل يحترمه الجميع هنا، وذكرته بأنه أخي في الرضاعة، أخي أنا زكريا ود يس، ولكنه اشترط علي أن أحلف قسما على كتاب الله بألا أدع الناس يقتلونه، وإلا قتل الطفلة ومات معها، أحضرت أم الطفلة مصحف قرآن محروق نصفه؛ حيث لم يوجد مصحف سالم في الجوار، حرقت المصاحف مع القطيات، حلفت على المصحف الحريق فترك الطفلة؛ حيث إن أمها خطفتها من بين يديه وهرولت بها بعيدا محاولة إنعاشها أو إحيائها من جديد، حاول الناس الإجهاز عليه إلا أنني وبعض الشيوخ طلبنا من الناس المشورة أولا وأن يحترموا قسمي على المصحف، فعلوا وتفرقوا كل إلى مأساته، أما الجنجويد آدم راشد، حيث إنه لا يستطيع الهرب؛ نسبة لجرحه البليغ؛ قمت بتركه قرب الراكوبة ذاتها مع ربط رجله السليمة على وتد كانت تربط به الجحش، ثم قمنا جميعا - نحن الرجال - بدفن الموتى في قبر واحد كبير؛ حيث لا وقت ولا طاقة لنا بتخصيص قبر لكل واحد من الموتى العشرين، من ثم لحقت بزوجتي وأبنائي الذين وجدتهم يعملون بجد في البحث عن كنز أمهم تحت رماد قطيتنا المحروقة.
الجنجويد (همس)
أنت تحس الآن بالندم، بل بالخوف؛ لأنك ما كنت لتندم لو استطعت الانسحاب مع زملائك الجنجويد بسلام، بدلا من الندم لكنت الآن تستعيد ذكريات القتل والاغتصاب الممتعين مع أصحابك على رائحة شواء الأغنام المنهوبة ولسعة عرقي البلح المنعشة، مثلما حدث عقب عشرات الغزوات التي أنجزتها بنجاح مع رفاقك، والذين يحتفلون الآن في مكان ما، ويذكرونك ضمن الأموات والمفقودين، ووفقا لقانون سري صارم تعملون به، إنه لا رجعة للبحث عن مفقود أو دفن مقتول، ولكنك أيضا بدأت تحس بالندم؛ لأنك هاجمت هذه القرية بالذات، قرية ضلاية واغتصبت الطفلة التي تعرف أمها جيدا وأباها وكل أسرتها، القرية التي جئتها صغيرا مريضا حيث تركك والدك راشد الأبالي في منزل أبي علوية صديقه؛ لأنه لا يستطيع أن يظعن بك وأنت مريض تحتاج إلى علاج لا يوجد في الفلوات والمفازات، ولو أنه ليست هنالك مستشفى أو عيادة بالقرية، إلا أن أبا علوية نفسه يعمل كطبيب بلدي، وهو غالبا ما ينجح في علاج القرويين من أمراض مثل الملاريا والبرجم والحصبة وفقر الدم، وحتى السعال الديكي واليرقان، ولأن أمك مضت مع أبيك نحو بحر العرب؛ طلب أبو علوية من أخته أن تقوم بإرضاعك مع طفلها زكريا ود يس، أنت الآن لا تنسى كل ذلك، تذكره وتذكر طفولتك الأولي ولعبك مع أقرانك في شعاب القرية، الطريق إلى المدرسة في قرية (كويا) البعيدة، والسباحة في الوادي والرقص والغناء مع البنيات والصبايا في ليالي ضلاية المقمرة، ولم تذهب مع والدك إلا وأنت في الثامنة من عمرك، وكنت تحفظ القرآن وتتحدث لغة أهل ضلاية بطلاقة، إلى الآن تجيد التحدث بها، تحس بالخوف؛ لأن جرحك ما لا يزال ينزف وهو يؤلمك بشدة، كما أنك لا تستبعد أن يتسلل إلى مكانك أحد القرويين الذين فقدوا أعزاءهم وممتلكاتهم ويقوم بالانتقام منك بقتلك، أو أن تقتلك أم الطفلة التي اغتصبتها، ربما تكون قد ماتت الآن، وبينما أنت ما بين خوف وندم قفز في ذهنك سؤال عصي: لماذا قمت بما قمت به؟ وهنا مر أمامك شريط طويل من الأحداث، بدأ بالرجل الغريب الذي اجتمع بأبيك، وكيف أن أباك تشاجر مع الرجل، ثم بموت أبيك المفاجئ بعد ذلك، ثم بعودة الرجل الغريب مرة أخرى ومعه غرباء آخرون وبعض شيوخ وشباب رعاة الإبل، كانوا يطوفون على الفرقان ويقنعون الناس بالتدريب على حمل السلاح وفنون القتال من أجل حماية إبلهم وفرقانهم من النهب المسلح واللصوص، وبعد أن تدربوا على حمل السلاح تحدث الغرباء عن الأرض والحواكير والأودية والمراعي والعرب والزرقة ، ولأول مرة تعرف - كنت في العشرين حينها - أنك من العرب وأن سكان ضلاية وغيرها من الزرقة. لقد شرح لكم الغرباء العارفون بكل شيء الذين يوزعون السلاح والمال بكرم وسخاء عظيمين من هم الزرقة ومن هم العرب، واندهشت مرة عندما أكد الغرباء لكم أن قبيلة ما من العرب ثم عادوا مرة أخرى وقالوا لكم إنها من الزرقة؟ قطعت سليل أفكارك حركة أقدام تقترب منك.
زوجتي الشريرة
قررنا جميعا أن نغادر إلى مدينة نيالا حيث معسكرات النازحين؛ بحثا عن الأمن وسبل العيش، فلم تعد هنالك مساكن تئوينا، ولم يعد هنالك سوق نتسوق فيه، وكل أشجار الفاكهة والمزارع تم تدميرها وحرقها بواسطة مادة تلقيها الطائرات عليها فتشتعل، يعرفها الناس بالبدرة، الشيء الوحيد الذي بقي سالما ولم يمس بسوء هي بئر ضلاية الشهيرة المعروفة في تلك النواحي ذات الماء الكثيف الدائم القريب من سطح الأرض، نحن نعرف السبب من ترك هذه البئر سالمة، بعد أن أخذنا من الماء ما وجدنا له أوعية، قمنا برمي الحيوانات النافقة من حمير وإبل وأبقار فيها وما استطعنا نقله من حجارة وأوساخ فيما تبقى لنا من زمن بضلاية، تركناها بئرا لا يمكن أن يشرب منها بشر أو حيوان قبل أن نعود إليها نحن الذين قمنا بحفرها، حتما في يوم ما.
Bog aan la aqoon
كان يؤرقني مصير أخي الجنجويد آدم راشد، لا يمكن أن نأخذه معنا فالرحلة إلى نيالا بالأرجل، لقد قتلت الحمير أو هربت في الخلاء، ولا سيارات في القرية غير تراكتور حاج إدريس وقد تم حرقه كذلك، وآدم راشد لا يستطيع المشي ولا يمكن حمله، فبالإضافة إلى أنه سمين فهو لا يستحق ذلك؛ لأنه قاتل وناهب ومغتصب، وأيضا لا أستطيع تركه ليموت عطشا ونزفا؛ لأنه بصورة أو بأخرى أخي، كانت تنازعني مشاعر وأفكار متضاربة، وقلت لنفسي: دع الأشياء تمضي وفي اللحظات الأخيرة قد يأتي الحل، حدثتني زوجتي المسرورة التي تحصلت على كنزها أخيرا في قلته المدفونة في وسط القطية سالما أن نستعجل الرحيل، وخصوصا أن الليل أخذ يسدل أستاره وهو الوقت المناسب للرحيل، قلت لها: وآدم راشد؟
قالت لي، بصورة قاطعة: اقتله.
صرخت مندهشا؛ لأنني ما كنت أتوقع مثل هذه الإجابة منها، وهي تعرف علاقتي به، وأنه أخي في الرضاعة: أقتله أنا؟
قالت ببرود: أيوا، اقتله!
وعندما رأتني أستغرب ذلك أكدت لي أنه الحل الوحيد؛ لأنني حلفت أمام الناس ألا أدع أحدا يقتله والناس احترموا حليفتي، ولكني لم أحلف بأنني لم أقتله، وها هي طفلة زينب جبرين التي اغتصبها دون رحمة تموت نزفا، ولا يعلم الناس كم هي الأرواح التي أزهقها هذا الرجل قبل أن تصيبه طلقة طائشة من بندقية رفاقه وتعيقه، فإذا هو نجا الآن فسوف يعود إلى قتل الناس مرة أخرى، وأنا السبب والمسئول، هذا إذا لم تقتلني زينب بت جبرين بنفسها.
قلت لها بأنني لم أقتل إنسانا من قبل.
ردت علي بحزم وهي تنظر إلي في أم عيني: الشيء الذي لم تفعله قبلها أية امرأة من دارفور لزوجها، وقرأت في نظرتها شيئا مرعبا، ثم قالت من بين أسنانها: دا ما إنسان.
ثم أشارت لي بصورة ملتوية ولكنها واضحة تماما، بما يعني: إذا لم تكن رجلا بما يكفي لكي تقتله سوف أقتله أنا، لأول مرة في حياتي أعرف أن زوجتي آمنة هذه الزولة النحيفة الطويلة المنشغلة دائما بالبيت، الزرع، الرضاعة، إنجاب الأطفال وإعداد نفسها للفراش، تلك الرقيقة الحنينة في الفراش، أنها أيضا شر مستطير، والحق يقال: إنني خفت منها.
ورطتي
خرجنا من ضلاية في مجموعات ثلاث، عدد من الرجال الشباب في المقدمة، ثم النساء والأطفال ثم الرجال مرة أخرى، هذه الطريقة جنبتني نظرات زوجتي لحد ما أو لبعض الوقت، على الرغم من أنني أكدت لها بأنني قد قتلته إلا أنها كما هو واضح من رد فعلها لم تصدقني، وكانت تنظر إلي بنظرات الاحتقار ذاتها، ولكن الحقيقة التي سوف تعرفها زوجتي قريبا جدا، أو أنها عرفتها الآن من النساء أن زينب بت جبرين، أم الطفلة المغتصبة، عندما تسللت لقتل آدم راشد، لم تجده.
Bog aan la aqoon
الخرطوم
22 / 6 / 2008م
فيزياء اللون: إلى صلاح إبراهيم
1
يلتقط الأصداف بأنامل قلقة لكنها بصيرة ماهرة: ترى، تحس وتقرأ في نفس لحظة اللمس، تغوص قدماه في مياه النهر الدافئة، يسمع أنين الرمل تحتها، تهرب صغار أسماك البلطي والكوار التي تطعم على العوالق في ملتقى الماء بالرمل، كان يستهدف الأصداف الكبيرة ذات النهايات التي تشبه منقار النسر، هي كثيرة تقبع في المياه الضحلة، ولكن العثور عليها يحتاج لوقت وخبرة وصبر، هذا هو يومه الأخير في كلية التربية ببخت الرضا وقد ودع تلاميذه بالأمس بعد أن قاموا بإنجاز جدارية تعليمية ضخمة تطل على نهر النيل، تجلت موهبته في رسم حركة الحشرات، السحالي والطيور الشرسة الجارحة؛ لذا خلده تلاميذه في الجدارية برسم ضب نزق يتسلق الحائط برجليه الخلفيتين وذيله، يقبض بقائمتيه الأماميتين على فرشاة تلوين ماركة بلكان - وهي المحببة لديه - وفي الأفق يلوح نسر ضخم.
يقلب صدفة على بطنها، على ظهرها، يضعها هنا، يضعها هنالك، على الرمل، ينظر إليها بعمق، يفكر بحكمة، بجمال، بجنون، يبتسم، يضعها مع الأخريات برفق في الصندوق الخشبي الصغير الذي أعده لهذا الغرض، الآن عليه الحصول على أكبر عدد ممكن من الصدفات الصغيرات والمتوسطات، يحتاجها لصنع أرياش الأجنحة والزغب الناعم على العنق، القوائم والمخالب، يريد أن يفعل شيئا كله من النهر ولا علاقة له بالنهر، يريد أن يقول إن النهر هو سيد الحياة، كانت الجدارية تحملق فيه من بعيد، يبدو الضب ذو الفرشاة نزقا سعيدا وهو يتسلق الحائط مستخدما ذيله وقائمتيه متناسيا تماما النسر الذي يحلق في السماء مترصدا به، ينظر الضب برشاقة إلى النهر، حمل صندوقه الخشبي المملوء بالصدف وذهب إلى منزله، أكل الفول المصري الذي اشتراه في الطريق بمتعة خاصة، كان جائعا مرهقا سعيدا ومستثارا بصيده النهري، لبس هدوم العمل واشتغل في الصندوق، يسكن وحده في منزل يتكون من حجرتين ومرحاض، يستخدم الحجرة الكبيرة كمحترف له، ويستخدم الأخرى كغرفة نوم، أما البرندة التي تحيط بالغرفتين والحمام كأم رحيمة من الأسمنت والحصى والطوب فيستخدمها مضيفة ومطبخ في آن واحد، سكن معه من قبل صديق سكير أدمن رباعي الفناء : الخمر، الحبيبة، الشعر، والجوع، ذات صباح أدهشه بموت صامت في البرندة، منذ ذلك الحين ظل وحده، وهو دائما ما يرغب في أن يكون وحده، حتى البنيات اللائي يستخدمهن كموديل يعيدهن إلى حيث أتي بهن بعد العمل مباشرة، لا يطيق غير صحبة حبيبته فقط، بينما تدور الأشياء في رأسه تعمل معدته في صمت في هضم الفول وقطع الجبنة الصغيرة والرغيفات مستعينة بقليل البيبسي الذي تناوله بعد الطعام، كانت أنامله تتحرك في خفة وهي تصنع النسر الصدفي الضخم، بدأ بالمنقار الحاد الذي هو شبه معطى من الطبيعة، ثم أخذ يشكل العنق من الصدفات الصغيرات اللامعات الذهبيات الصفراوات الخضراوات البنيات الأكثر خفة وبهجة واحتفاء بالضوء، كان يلصق هذه بتلك، هذه تحت تلك، هذه بين تلك وتلك، هذه فوق تلك، هذه يمينها، يسارها، هذه ضد تلك، نفيها، تأكيدها، محو أثرها، يفعل ذلك مستخدما عشرات الحواس التي أعطاه إياها الله في تلك الأيام، حل المساء تدريجيا، أضاء الكشافتين الكبيرتين اللتين توفران إضاءة أفقية تساعده في دقة الرؤية وتحديد اللون، كان يعرف أن اللون ليس في السطح أو الكتلة، ولكنه في العين ذاتها، وتأخذه العين من الضوء؛ لذا كان يحتاج إلى ضوء كثيف مباشر، عندما دقت ساعته الحائطية معلنة الواحدة صباحا كان النسر الأول قد اكتمل، وأخذت عيناه الحادتان الحمراوان تلمعان في ريبة، مما جعله يحس بتوتر في أعصابه، قال لنفسه: إنه الضوء.
أضاء كشافة صغيرة ترسل ضوءا أزرق خفيفا في زوايا حادة، يختلط مع ضوء الكشافتين المائل إلى الحمرة فيغمر المكان ظلا بنفسجيا ساحرا، أزال تأثير الإضاءة الحرة الأفقية المباشرة في عيني النسر، من ثمة تأثير الخدعة في عينيه، ولكنه شكل خدعة خاصة به يفهم الأستاذ قواعدها بصورة جيدة، ويعرف كيف يتعامل معها، لكن النسر الشرس الذي فرغ من صنعه للتو حرك رأسه في اتجاه مصدر الضوء الأزرق كلية، مما جعل الصدفات الرقيقات البهيات التي صنع منهن الصدر وزغب الرقبة تصدر صريرا باهتا وما يشبه صوت تصدع صدفة كبيرة، قفز مرعوبا في الهواء ثم ضحك على نفسه لمجرد التفكير في أنه خاف من شيء ما، حك شاربه الصغير الذي تدب فيه البيضاوات وحملق في النسر البدى الآن ساكنا صامتا وبريئا جدا، وبرقت في عينيه الحمراوين بعض الأدمع البنية، يعرف أن كل ذلك ليس سوى مداعبة اعتاد عليها من الضوء، الكتلة والفراغ من جهة وعينه ومزاجه النفسي من جهة أخرى، إلا أن إحساسه بالخوف كان حقيقيا وأصيلا، أحس بألم الوحدة، أحس بأنه أرهق نفسه أكثر مما يجب وعليه أن يذهب بعيدا وبأسرع ما يمكن من هنا، ترك الكشافات مضاءة، وضع على جسده فانلة تي شيرت صفراء، حبيبته تعشق اللون الأصفر، أهدته إياها قبل شهرين، خرج دون أن يحدد وجهة ما، ذهب في طرقات باردة كسولة، بعض الرجال يعودون إلى منازلهم في عجلة، دوريات الشرطة في كل هنا وهناك، الكلاب والقطط، الفئران الكبيرة، الوطاويط، بومتان.
2
عندما عاد إلى البيت في الفجر وجد كل شيء كما هو، النسر ما يزال على قاعدته ينتظر في سكون، الأنوار مطفأة؛ حيث إن الكهرباء قد نفدت، الكشافات الكبيرة تستهلك قدرا هائلا من الكهرباء، سيشتري مائة كيلو واط أخرى للمرة الثانية في هذا الشهر، أخذ يتمعن نسره، لقد برع في صنعه، وهو يعرف أعماله جيدا، العظيمة المتقنة وتلك العابرة الهشة، هذا النسر عمل متقن، لولا تواضع الفنان لأطلق عليه صفة الكمال، ابتسم، بدأ في صناعة آخر، وآخر، وآخر، وآخر، بعد أسبوعين من العمل الشاق المتواصل والسهر كان بمرسمه الصغير عشرة نسور عملاقة جميلة شرسة وكاسرة تشع أعينها في قلق، سوف يقوم بعرضها في المركز الثقافي الفرنسي كأول معرض تشكيلي من نسور الأصداف في التاريخ كما يعيه، يريد أن يؤكد فيه جدلية: الماء، الهواء، الضوء، النار، وسوف لا يتحدث لأحد عن هذه الفكرة، على الناس أن يقوموا باكتشاف ذلك بأنفسهم، هو الآن أنجز عملا فنيا كاملا، وإذا كانت الروح في متناول يده لنفخ فيها الروح فطارت، ثم أحس بزهو عظيم، بنشوة كبرى، نشوة أسطورية عارمة، أخذ يضحك، يضحك في هستيرية، يضحك في عمق ، يضحك بالقلب كله.
3
Bog aan la aqoon
عندما جاءت حبيبته في ذلك الصباح وجدت الباب مغلقا كالعادة فاستخدمت مفتاحها الخاص، لما ولجت البرندة الكبيرة سمعت جلبة غير معتادة في داخل المرسم، بل ضجيجا، تعرف عن حبيبها الهدوء، لكنه أيضا قد يمارس الفوضى؛ حيث إنه كثيرا ما يقوم بتحطيم أعماله الفنية بعنف وهمجية إذا لم يرض عنها، وأحيانا يستخدم في ذلك فأسا ورثها عن جده، أو عصا أو حجرا أو كرسيا أو ما شاء، صاحت فيه أن يكف، ظلت الجلبة باقية، فقامت بدفع باب المرسم بكل ما أوتيت من قوة، فلقد كانت من نوع تلك البنيات جيدات التغذية، فانفتح.
لم يمض وقت طويل على حضور الجيران عندما علا صراخها، بل إن البعض قد شاهد النسور الضخمة تخرج مندفعة من باب البرندة لتحلق في السماء فاردة أجنحتها الذهبية اللامعة في هواء يناير الساخن، وفي الداخل كان الهيكل العظمي الحزين يرقد مبللا بالدم الطازج، يحملق عبر خواء العينين نحو الفراغ.
الفاشر
31 / 10 / 2007
أنا، الأخرى، وأمي
عمري الآن خمسون عاما، وهو نفس عمر أمي حينما توفاها الله منذ ثلاثين سنة بالكمال والتمام، وأحكي الآن عنها ليس من أجل تخليد ذكراها الثلاثين، كما يفعل الناس؛ أن يحتفوا بذكرى وفاة أمهاتهم اللائي يحببن، ولو أنني أحبها أيضا، إلا أنني أحكي الآن عنها تحت ضغط وإلحاح روحها الطاهرة، أقول ضغط وإلحاح، وأعني ذلك، على الرغم من أن أمي ماتت منذ أكثر من ربع قرن إلا أنني لم أحس بأنها ميتة؛ لأنها بالفعل لم تك كذلك، إنها أخذت إجازة طويلة ونهائية عن مشاغل الدنيا الكثيرة ومني أنا ابنها الوحيد بالذات، رفيق شقائها وسعادتها، ولكن أمي حالما تراجعت - مع مرور الزمن - عن فكرة الإجازة بعد ثلاثين عاما فقط، وثلاثون سنة في زمن الموتى - كما تعلمون - ليس بالكثير، يقال إن موتهم قد يطول إلى الأبد.
بالأمس القريب بعدما قضيت نهاري الطويل في المدرسة؛ حيث أعمل مديرا في مرحلة الأساس، وأنفقت مسائي البائس في نادي المعلمين ألعب الورق وأثرثر، عدت مرهقا للبيت الذي أقيم فيه وحدي ، بعد أن تزوجت أكبر بنياتي في هذا الأسبوع وذهبت مع زوجها تدب في بلاد الله الواسعة، مثلما فعلت ابنتاي اللتان تصغرانها عمرا في السنتين الماضيتين، وتزوجت زوجتي أيضا قبل أكثر من عشر أعوام من رجل يقولون إنه حبيبها الأول، بالطبع بعد أن طلقتني عن طريق محكمة الأحوال الشخصية بدعوى أنني لا أنفع كزوج أو رجل وأنها كرهتني، ويعلم الله أنني لست بالشخص البغيض، والدليل على ذلك أن بناتي الثلاث اخترن أن يبقين معي في البيت ورفضن أن يذهبن معها إلى بيت والدها ثم إلى بيت زوجها الجديد، فمن منا البغيض والمكروه؟ هذا موضوع لا أحب أن أتطرق إليه إطلاقا، فهي على أية حال أم بنياتي الثلاث، كنت مرهقا، زحفت إلى سريري زحفا، رميت بجسدي على اللحاف الطيب الحنون، فهو آخر ما تبقى لي من أم وزوجة وبنات، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرم، كعادتي أترك إضاءة خافتة فاترة تصدر من لمبة ترشيد استهلاك صينية صغيرة بخيلة إلى الصباح، وكدت أن أغمض عيني حينما سمعت كركرة كرسي على البلاط، ثم رأيت على ضوء النيون الترشيدي الصيني البخيل امرأة شابة تسحبه نحوي ثم تجلس عليه، قرب رأسي مباشرة، تحملق في وجهي بحنية لا تخطئ، ولو أنه كان لوحيد مثلي أن يخاف، بل أن يجن من الخوف، إلا أنني صحت في دهشة وترحاب غريبين: الله! أمي آمنة!
ابتسمت المرأة الشابة الجميلة الحنون، وقد بدأت تتحدث في هدوء، حكت قصة حياتي منذ ميلادي بالدقيقة والثانية، حدثا حدثا، أخذت أستمع إليها في صمت وتعجب كأنما من يحكى عنه ومن يحكى له ليس سوى صنوين لي ضالين، كنت أكتشف تدريجيا أن حياتي كلها معصية، وأنني كنت أجري وراء ملذات الدنيا وسقطاتها، ولو أن بعض الحوادث كانت تشير بوضوح إلى نبلي ونقاء سريرتي إلا أن المحصلة النهائية تبدو كما ذكرت، لا أدري كم من الزمن مكثت تحكي قرب رأسي، ولكنها بلا شك بقيت هنالك زمنا طويلا، ولا أدري كم حكاية حكت، ولكنها بلا شك حكت حكايات شتى، ولا أعرف متى نمت ولكني بلا شك قد نمت متأخرا جدا؛ لأنني لم أستيقظ كعادتي - مثلي في ذلك مثل كل مديري المدارس - عند الرابعة صباحا، بل أيقظني خفير المدرسة مندهشا في فسحة الفطور حوالي العاشرة والنصف صباحا، وثأثأ فيما يعني أن الجميع افتقدني، لقد كان أخرس ذا لغة ملتبثة، بقيت في رأسي جملة واحدة من كلامات أمي: أنا كل يوم معاك لحظة بلحظة.
لم أحك لأحد ما دار بيني وبين أمي خوفا من السخرية والشماتة أو أن أتهم بالجنون، وربما قد أفقد وظيفتي إذا تأكدت الإدارة من أنني جننت، وخاصة أن للبعض مصلحة في أن أبعد، بصراحة لدي أعداء كثر، تكتمت على الأمر، اتصلت بي ابنتي الكبرى أمونة سميتها على أمي، سألتني عن صحتي وعن الوحدة ولمحت لي بأنه يجب علي أن أتزوج ولو من امرأة كبيرة في العمر؛ لأنني - في تقديرها - أحتاج إلى رفيق في وحدتي، وأنها تعرف أربعينية جميلة مطلقة لها طفلان، ادعيت بأنني لم أفهم ما ترمي إليه، ربما لأنني لا أرغب في الزواج؛ فقد أصبحت المرأة عندي كائنا جميلا يصلح لكل شيء ما عدا الزواج، في هذا المساء كنت مستعدا لمحاضرة أمي آمنة، جاءت وكانت في كامل شبابها وجمالها في أثواب نظيفة ملونة زاهية تشع بهجة، قالت لي: ظاهر عليك الليلة جاهز من بدري.
فجأة خطرت لي فكرة غريبة، وشرعت في تنفيذها مباشرة، هكذا أنا أفكاري في أصابعي، مددت أصابعي نحوها متحسسا أثوابها، فإذا بكفي تقبض الهواء، تمام الهواء، أما هي فقد اختفت، سمعت نداءها يأتي من أقاصي الغرفة قائلة بصوتها الذي لم يفقد حلاوته طوال السنوات التي قضتها تحت التراب: أنا صورة وصوت، صورة وصوت فقط.
Bog aan la aqoon
قلت لها: أنا خايف تكون دي هلوسة، هلوسة ما أكتر؟
قالت لي بذات الصوت الذي أعرفه جيدا وصاحبني طفولتي كلها: أنا كنت دائما قريبة منك.
أمي وأنا كنا صديقين حميمين، مرت بنا سنوات شدة عصيبة وسنوات فرح عظيمة أيضا، أنا ابنها الوحيد ولا أب لي أعرفه إلى اليوم، منذ أن تفتحت عيناي على هذا المخلوق الرقيق النشط، الذي لا يستريح من العمل، الذي يسعي مثل نمل الأرض بحثا عن حبة عيش نطعمها معا، كانت توفر لي كل شيء أطلبه، ومهما كان عصيا، وأذكر أنني طلبت منها ذات مرة أن تشتري لي دراجة هوائية مثلي مثل صديقي في المدرسة والصف والكنبة أبكر إسحاق.
وأذكر إلى اليوم كيف أنها انتهرتني، بل قذفت في وجهي شيئا كان بيدها في ثورة وغضب، وأنها صرخت في مؤنبة: إنت قايل نفسك ود منو؟ ود الصادق المهدي؟
بالطبع ما كنت أعرف من هو الصادق المهدي، ولكن سؤالها أثار في سؤالا آخر.
أنا ود منو؟
ولم أسألها؛ لأن السؤال نفسه لم يكن ملحا بالنسبة لي؛ لأنني لم أعرف قيمة الأب ولا أهميته ولا وظيفته، بالتالي لم أفتقده، والآباء الكثر الذين في حينا لم يقم واحد منهم بعمل خارق تعجز أمي عن القيام به، بل إن أمي هي التي كانت تفعل ما لم يستطع الآباء فعله، فهي تبني وتصون بيتنا بيديها، وتصنع السدود الترابية لكي تمنع مياه الخريف من جرف قطيتنا؛ حيث إن بيتنا يقع على تخوم خور صغير، ولم أر أبا فعل ذلك، كانوا يستأجرون العمال حتى لصنع لحافاتهم ومراتبهم وغسل ملابسهم، إنه لأمر أدهشني كثيرا، أضف إلى ذلك أن أمي تعمل خارج المنزل في وظيفة مهمة، إنها تبيع الشاي والقهوة عند بوابة السجن ويستلف منها الجميع، حتى المأمور نفسه؛ لذا التبس علي الأمر، والآن ولأول مرة أعرف من أمي أن من وظائف أب غامض يسمى الصادق المهدي تقديم الدراجات الهوائية إلى من هم أطفاله، ولكن الشيء الذي أطاح بسؤال الأب نهائيا أن أمي آمنة بعد ثلاثة شهور أو أكثر اشترت لي دراجة هوائية، ولو أنها ليست جديدة تماما مثل دراجة أبكر إسحاق، وأنها مستعملة من قبل، إلا أنني فرحت بها جدا وخصوصا بعد أن أكد لي أصدقائي أنها دراجة جميلة وهي أجود من دراجة أبكر.
أمي تعمل في صنع الزلابية وأقوم أنا ببيعها للجيران في الصباح الباكر وتعمل فراشة في السجن ما بعد بيع الزلابية وشرب الشاي، وعندما تركت العمل في السجن عملت بائعة للشاي عند باب السجن كمحاولة منها لتحويل زملاء الأمس إلى زبائن اليوم، وبالفعل استطاعت أن تكون منافسا حقيقيا لأم بخوت، وهي إحدى زبوناتها في الماضي عندما كانت أمي تعمل فراشة، أما أنا فذلك الولد الذي يطلق الناس عليه (ود أمو) أعني: لا أبرح مجلسها أبدا، بعد نهاية اليوم الدراسي أحضر إلى موقع عملها، أغسل لها أكواب الشاي الفارغة، أحمل الطلبات البعيدة إلى الزبائن، أشتري لها السكر والشاي الجيدين من الدكان، أحكي لها عن التلاميذ، الحصص والمعلمين، وعندما أنعس تفسح لي مرقدا خلفها فارشة لي برشا من السعف، متوسدا حقيبة المدرسة، عجلتي الجميلة قرب رجلي تنتظرني، أنام.
قلت لها في جرأة: أنت وين الآن؟ في الجنة؟ في النار؟ في الدنيا؟ ووين كنت الزمن دا كله؟
قالت لي: أنا هنا.
Bog aan la aqoon
كانت تجلس في الكرسي كما هو في اليوم الأول، سألتني عن مبررات كل ما قمت به في يومي هذا، وكنت أجيبها بصدق، تعلق أحيانا أو تصمت في أحايين كثيرة، ولكنها بشكل عام كانت تؤكد على أنه ليس مهما أن ما أقوم به مقبولا خيرا أم لا، لكن المهم هو: هل أنا أجد مبررا لما أقوم به أم لا، هل أنا راض عن نفسي أم لا.
سألتني: هل توافق على اقتراح بتك أمونة؟
قلت: أنا ما أظنني بقدر على النساء، كبرت وفقدت الرغبة في المواضيع دي، وأنا الآن قادر أقوم بواجب نفسي بنفسي من طعام وشراب ونظافة، المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنت وكفاية.
ابتسمت أمي آمنة ابتسامة عميقة وحلوة، ثم تلاشت تدريجيا في فضاء الغرفة، في الصباح الباكر اتصلت بي ابنتي أمونة مرة أخرى وقالت لي بوضوح أنها سوف ترتب لي لقاء مع أربعينية جميلة مطلقة لها طفلان، ومن ثم أنا حر في أن أرتبط بها أم لا، قلت لنفسي: ماذا ستخسر؟ فليكن.
كانت امرأة جميلة، لها ابتسامة دائمة في وجهها، لا تحتاج لسبب وجيه لكي تضحك، فهي تضحك باستمرار، وتستطيع أن تقنع أي إنسان مهما كان متشائما أن يرد على ابتسامتها بابتسامة أخرى حتى ولو كانت باهتة تعبة، ولكن الشيء الغريب فيها والمدهش والمخيف أيضا أنها ترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها أمي آمنة بالأمس، نفس الحذاء، نفس الصوت نفس الطريقة في الكلام، نفس الوجه، نفس الابتسامة، وأستطيع أن أقول إنها نفس المرأة.
الخرطوم
11 / 6 / 2008
ذاكرة الموتى
قالت لي أمي في الحلم: الدنيا زائلة يا ولدي.
قلت لها وأنا نائم: ليس صحيحا، نحن الزائلين، الدنيا باقية.
Bog aan la aqoon
حاولت أن تبتسم، لكن الموتى في الحلم عادة لا يستطيعون الابتسام؛ لأن هرمونا خاصا بانفراجة الفم في تلك الصورة السحرية لا يتم إنتاجه في الحلم، ثم وقف الموتى صفا واحدا أمامي؛ جدي عبد الكريم، جبران خليل جبران، حبوبة، حريرة، محمد مستجاب، علاء الدين الشاذلي، الكيوكة الصغيرة، قدورة جبرين، نادية، أبو قنبور، محمد عثمان، خديجة، مرجان كافي كانو، محيي جابر عطية، عم موسى، انتصار، أبو ذر الغفاري، علي المك، وولت ويتمان، إخلاص أبو غزالة، عمر إبراهيم، قالوا بصوت واحد: الدنيا زائلة.
قلت لهم: يا أيها الموتى.
قلت لهم اسما اسما: يا أيها الموتى، الدنيا باقية.
وقف سجان نزق بيني ومحمود محمد طه، استل من بين قلبه وعقله محبرة، كان الشيخ نحيفا وجميلا، مكان عينيه الدنيا كلها تزول تدريجيا وتتلاشى، لكن دون انتهاء، قال لي في الحلم: افتتانك بالحق فوت عليك إدراك عين الحق.
قلت له وأنا نائم: سم لي القتلة حرفا حرفا والحق حرفا حرفا، العدل والمظلمة والروح حرفا حرفا.
قال لي في الحلم: اقرأ ذات الشيء يسقط عنك حجاب الشيء حرفا حرفا.
قلت له وأنا نائم: بسم الله الرحمن الرحيم.
قال لي في الحلم وكاد أن يبتسم: إذا ما هو لون الحقيقة؟
قلت له وأنا نائم: أسود.
قال لي في الحلم: إذا ما هو لون العدل والمظلمة والروح؟ ما هو لون مسك الأنفس؟
Bog aan la aqoon
قلت له وأنا نائم: أسود.
قال لي في الحلم: إذا ، ما هو لون الجهات الست؟
حينها فقط تنزلت علي الأحرف الوسطي من أسماء القتلة، جاءت تعوم في سيل من الدم، أخذ يحيط بي وأنا نائم، أفادني صف الموتى في شيئين: أن الدنيا ليست زائلة، الشيء الآخر: أن الموتى لا يبتسمون. الشيء الآخر: أن ذاكرة الموتى محشوة بالأحياء، قالت لي أمي في الحلم: سوف لن تنجو من الموت، الأشجار، الطين، والهوام كلها لا تحميك، وأنت إذ تهرب من الموت تذهب إليه.
بكيت، عندما استيقظت وجدتهم جميعا يصطفون أمامي، تماما مثلما كانوا في الحلم، لم يهتم أحد بما كنت أثرثر فيه، لم يفسر أحد لي شيئا، ولم يضحكني نداء المنادي: أنت يا أحد الموتى.
الحي الجنوبي
1 / 8 / 2005
موسيقى العظم
انتهت المعركة الصغيرة التي أيضا أمنحها بكرم لقب التافهة، حيث خضناها ضد المسلحين المتمردين غرب جبل مرة بإقليم دارفور، تحت سلسلة جبلية بغيضة لا ماء فيها، لا ظل، لا حتى هواء يحرك عناد أشعة الشمس الحارقة المرابطة على مركز رءوسنا العنيدة الماكرة، ما زالت رائحة البارود تعلق في الهواء، أنين الجرحى وصرخات المصابين تتردد في الفراغ مربكة سخونة الهواء الساكن الثقيل الذي يبدو وكأنه في حداد أبدي لموت كل شيء في المكان، هذا المكان الذي كان جنة حقيقية قبل الحرب، مرهقين وخائفين من كل شيء حتى من نصرنا السريع غير المتوقع واللا مفهوم؛ حيث ظللنا نتوقع الهزيمة أو النصر الصعب، كنا محاصرين ولا خيار لدينا؛ إما الموت البطيء أو الحرب.
كادت أن تنفد ذخائرنا ووقود عرباتنا، نفد ماؤنا وطعامنا ولم يستطع الطيران فك الحصار المضروب علينا من قبل محاربين شرسين ماكرين يعرفون المكان أكثر من ثعابينه وذئابه، نسمع أصواتهم وضحكاتهم، تصيبنا رصاصاتهم ولا نراهم، وفي أول هجوم يائس منا عليهم انتصرنا، لا ندري كيف حدث هذا، ها هي جثث موتاهم، وها هم جرحاهم يصرخون، الجثامين تنتشر في كل مكان، تغرق في برك من الدم المختلط بالرمال الساخنة الصفراء، موتى من كتيبتنا وجرحى أيضا، لم نقم بعمليات الدفن بعد، بل إننا لم نقم باستجواب الأسرى الجرحى بعد، وهو الشيء الذي كان علينا إعطاؤه الأولوية لكي نقرأ ميدان المعركة قراءة جيدة، وأن نتوقع ما سوف يكون عليه الحال، وهو من أبجديات دروس العسكرية، لقد كنا مرتبكين وقلقين وأفكارنا في حالة تشتت تام، قمنا بوضع الجرحى تحت صخرة كبيرة تلتوى في شكل كهف صغير، ولكنه يمتد عميقا في الجبل، ربما استخدمته بعض الوحوش وجرا أيام أن كانت هنالك وحوش وحيوانات برية، تركنا الموتى يستأنسون بالغياب والشمس، رددنا لتأوهات جرحى المتمردين وندائهم ببعض الشتائم القلقة المتوترة، وربما الركلات، لكن موسى أو ما نسميه بموسى الرحيم قام بإسعاف كل الجرحى، لم يفرق ما بين عدو وصليح، دون استثناء، بمهارة، بسرعة، بإتقان، بمسئولية، برحمة معهودة فيه وحده، تعلم ذلك من منظمة الصليب الأحمر الدولية، هكذا كان يقول دائما، وكل شيء كان سيمضي على كل حال لولا أن الجاويش المهدي أصر على قتل أحد الجرحى الأسرى، قال إنه يستحق الموت لسبب يعرفه هو وحده وسوف لا يخبر به: زول.
قيل فيما بعد أن الأسير الجريح أشار إلى المهدي بالأصبع الوسطى.
Bog aan la aqoon
كالعادة تصدى له موسى الرحيم؛ حيث إنه الشخص الوحيد الذي يتبنى كل الأفكار التي تحرم الإساءة للأسرى، قتلهم أو تعذيبهم أو تركهم للموت بعدم إسعافهم، ويفعل ذلك بقلبه وبلسانه وبيده أيضا، بدآ بمشادة كلامية حادة ثم تدافعا بالأيدي، ثم استخدم الجاويش المهدي دبشك بندقيته، وبركلة بهلوانية ألقى موسى الرحيم على الأرض، وعندما انتبهنا للمعركة الصغيرة الدائرة بين الرجلين النحيفين الطويلين الذين هما من كتيبة واحدة تدخلنا الستة عشر رجلا وامرأتين لفضها والفصل بينهما، كان المهدي قد حمل بندقيته معمرة وفي وضع إطلاق النار، واتخذ موضعا حربيا دفاعيا هجوميا خطيرا بالقرب من صخرة الجرحى، الذين نسوا آلامهم في الحال، توقفوا عن التأوه، الصراخ، طلب الماء وتبادل الوصايا، أخذوا يحملقون بعيون زائغة مفتوحة إلى آخرها فينا، في المهدي، في موسى الرحيم المرمي على الأرض فاقدا الوعي، يصدر الآن أصواتا غير مفهومة، تمثل احتضار فرصتهم الأخيرة في الحياة، طلب المهدي من الجميع الجلوس وإلا : لحستكم كلكم واحد واحد.
جلسنا.
أمرنا بأن نضع أيادينا على رءوسنا وأن ننظر في اتجاه الشمال مقابلين إياه بظهورنا، ويريد أن يحدث ذلك: زي الهوا.
فعلنا.
هددنا بأنه إذا تحرك أي منا أية حركة، مريبة كانت أم صديقة، لأي اتجاه كان سوف: أشربه.
أومأنا برءوسنا أن: فهمنا وأطعنا.
عندما سمعنا هوهوة الرصاصات، بالرغم من كل التهديد والوعيد، اتجهنا جميعا في لحظة واحدة نحوه، كان يدوس برجله على ظهر الأسير الجريح الذي يرقد ميمما وجهه شطر الأرض ورأسه غارق في الرمل الأصفر الحارق تحت ثقل بوت وجسد المهدي.
وفي ناحية قلب الأسير الجريح يطلق المهدي الرصاص: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
ست رصاصات قاتلات نافذات من كلاشنكوفه، صمت الأسير الجريح نهائيا في حالة من الموت كاملة تامة فعلية وحقيقية، ولا شك فيها مطلقا: مات كما يجب أن يموت أسير جريح، أطلقت ست رصاصات من كلاشنكوف جاويش عجوز في قلبه: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
عندما رفع المهدي رجله من رأس الأسير الجريح الميت نهض الأسير الجريح الميت؛ أغبر أشعث طويلا مرعبا وصامتا، وقف المهدي مندهشا فاغرا فاه في بلادة بينة بائسة، مع عجز كامل عن النطق أو التعبير، عاجل الأسير الجريح الميت المهدي بلكمة واحدة قوية في رأسه فأرداه صريعا على الأرض، بحركة أخرى جيدة قام الأسير الجريح الميت بقلب المهدي على ظهره، ببطء وضع رجله اليمني على ظهر المهدي، أحنى الأسير الجريح الميت جسده في شكل قوس عملاق رهيب فوق جسد المهدي المسجي على الرمال، أمسك الرأس بكفتيه الكبيرتين الملوثتين بالتراب، أدارها ناحية اليمين في رفق وعناية فائقتين، ثم بذات الرفق والعناية الفائقتين، أدار الرأس ناحية الشمال بهدوء وصبر، كأنه نطاسي عليم يدرس حركة عنق مريضه، ثم في سرعة البرق وبمهارة شيطان رجيم حنى الرأس للوراء في زاوية حادة، ليجعلنا نستمع إلى فرقعة عظام رقبة المهدي وهي تتحطم مصحوبة بشخير عميق وقح وما يشبه نغمة دو وازا منفلتة، ظل طنينها عالقا في الهواء لزمن طويل، بينما كانت بعض أطيار الكلج كلج تغرد عابرة السماء العارية نحو الشرق، رقد الرجل الأسير الجريح الميت، تمطى في متعة خاصة، وضع يديه في حزية مع جسده الطويل الثقيل الهادئ ثم مات مرة أخرى.
Bog aan la aqoon
الفاشر
20 / 4 / 2007
طائر، أسد، وجحوش
إذا شيئ لي أن أقدر عددنا في ذلك اليوم فإننا قرابة الستين طفلا، تتراوح أعمارنا ما بين السابعة والثامنة، بعضنا وأنا واحد منهم، لا تزال قنابيرنا في مقدمة رءوسنا مبللة بالزيت وعلى أعناقنا تتدلى التمائم التي تحفظنا من العين والحسد وتبارك أيامنا وتهبنا الحظ الجيد والخير الوفير، كنا نتحدث جميعا في آن واحد بأعلى ما وهبنا من أصوات، كل يريد أن يوصل صوته للآخر في خضم غابة الحناجر التي تزأر في فوضوية، كنا نتحدث عن الكرة، الطيور، الحمير، حسونة المجنون، صيد الجراد، جلب القراقير من جبل تواوا، التشعلق في الكواري ولقيط الفول السوداني من الزرائب، المطر، الحرب التي دارت مؤخرا ما بين أولاد حي السجون وأولاد حي البوليس، والذين استعانوا بثلة من أولاد ديم النور لرد هجوم أولاد السجون على ضفاف خور مقاديف، لم ينتبه أي منا للأستاذ وهو يدخل الفصل إلا عندما صاح بصوت غليظ أجش: انتباه!
صمتنا، أشار علينا بيديه علامة أن نقف، ودعمها بالقول: قيام.
قمنا واقفين.
صاح: جلوس.
جلسنا، ولكنه هتف مرة أخرى: قيام!
قمنا. - جلوس!
جلسنا وكثير منا يصدر أصواتا تنم على عدم الرضا؛ حيث إنه لم نفهم الضرورة من هذا القيام والجلوس، ولكن ألم نأت للمدرسة لتعلم الأشياء التي لا نعرفها؟ شخبط الأستاذ في السبورة بطباشير أبيض شيئا، عرفنا فيما بعد أنه: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم من أشياء كثيرة يحملها، أخرج صورة كبيرة لأسد ضخم، علقها على مسمار دق في أعلى السبورة، كان أسدا جميلا كبيرا ينظر إلينا جميعا في آن واحد، أشار الأستاذ إليه بالمسطرة الطويلة وصاح فجأة: ما هذا؟
Bog aan la aqoon
فصحنا خلفه: ما هذا؟
نظر إلينا الأستاذ في استغراب، ولكن في فمه ابتسامة صغيرة مخفية بإتقان؛ وذلك للحفاظ على هيبته.
قال: يا أولاد، ما هذا معناها: دا شنو ، لمان أقول ليكم: ما هذا؟ يعني أنا بسألكم دا شنو، فاهمين؟
هززنا رءوسنا أن: نعم، فصاح مشيرا بالمسطرة إلى الأسد الذي لا يزال ينظر إلى كل واحد منا ويكاد أن يبتسم لنا طفلا طفلا، لقد كان أسدا جميلا: ما هذا؟
هتفنا بصوت واحد: دا أسد.
قال في نفاد صبر: لا، مش دا أسد، قولوا: هذا أسد.
أشار إلى الأسد وصاح مرة أخرى: ما هذا؟
صحنا: هذا أسد.
قال مصححا إيانا ومستدركا خطأ ما قد وقع هو نفسه فيه: هذا أسد.
عرفنا الآن أشياء كثيرة جديدة، أهمها أن الأسد اسمه «أسدن»، وليس «أسد» كما يطلقون عليه في البيت خطأ، وهذه نعمة التعليم، وسوف أخبر حبوبتي حريرة بذلك بمجرد أن أصل إلى النزل، همس جاري عبادي كافي وهو جارنا أيضا في قشلاق السجون، بينما يلعب بقنبوره القصير: شايف الطيرة؟
Bog aan la aqoon