Dhibaatooyinka Iyo Shisheeyaha: Daraasad Ku Saabsan Falsafadda Akhlaaqda
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Noocyada
30
أما مفهوم الرفاهية العامة كما يشير في عمله «ما وراء الخير والشر» فليس قيمة مثلى بقدر ما هو شيء مثير للاشمئزاز، في الوقت الذي لا يعكس فيه مبدأ المنفعة أكثر من تطلعات هزيلة للمنتهكة حقوقهم والمظلومين. أما فيما يخص قضية السعادة التي لا قيمة لها، فالإنجليز وحدهم - كما يسخر واضعا نصب عينيه أتباع بنثام - هم من يشغلون فكرهم بها، فالقواعد الأخلاقية - شأنها شأن المفاهيم - تبالغ في التبسيط بطبيعتها، فتختزل ما هو شديد الخصوصية في أشياء أدنى عامة أو كلية. إن هذه الاسمية المتحفزة هي واحدة من بين آراء نيتشه العديدة التي انتقلت إلى الفكر ما بعد الحداثي، وهو تيار كان هو في واقع الأمر محركه الأول. فبإيمانه بأن العام سطحي ومزيف في جوهره، فهو يشترك في أمور كثيرة مع كيركجارد، بل إنه يتخطى هذا الفيلسوف الدنماركي المؤمن بالمذهب الفردي باعتقاده أن الوعي نفسه تسطيح للعالم؛ إذ يحيل غابة الواقع الغني إلى مجرد ظل هزيل لنفسه. يتسم التفكير حتما ببعض البلادة والإبهام، أما الجسد فهو ظاهرة أكثر ثراء ووضوحا وجدارة بالثقة.
مع ذلك فإن نيتشه أبعد ما يكون عن مجرد الهجوم على النظام الرمزي أو سيادة الأخلاق الجماعية. فمن ناحية، النظام الرمزي أفضل ما يمكن لمعظم الناس أن يتعاملوا معه، فهو من الناحية التطورية عالم يتلاءم بنحو يثير الإعجاب مع حالتهم الروحية البدائية، فالجنس البشري لا يمكنه تحمل قدر كبير من الواقع، وسيهلك على يد الحقيقة إن دفعه حظه العاثر لمواجهتها مواجهة مباشرة؛ لذا فإن ميلاد الذات الإنسانوية ليس مدعاة للندم. ويختلف نيتشه في هذا اختلافا واضحا عن الكثير من أتباعه الأقل حذرا. ومن ناحية أخرى فإن النظام الرمزي - بأعرافه المجردة ومعاييره التي تقوم على المساواة وتقديسه لما هو عادي وتقويضه لما هو استثنائي - له نتيجة بناءة في نهاية المطاف؛ نتيجة تغيب عن رؤية كيركجارد المريعة له. وهذا يرجع إلى أن نيتشه - على عكس معظم مناصريه المعاصرين - غائي حتى النخاع يرى أن الأخلاق تمر بثلاث مراحل تاريخية. وليست تلك المراحل الثلاثة تماما هي الخيالي والرمزي والواقعي، بل يمكن وصفها بدقة أكبر بأنها الحيواني والرمزي والواقعي.
غالبا ما تعتبر المرحلة الحيوانية - على نحو خاطئ - المرحلة الأخلاقية المثالية عند نيتشه، فهي المرحلة البدائية التي يعيش فيها «الناس أحرارا، وجامحين، وهائمين»؛ يقاتلون كالطغاة الذين لا يعرفون أي ندم، ويعيشون بغرائزهم الجميلة البدائية في تحرر رائع من القيود، ويؤذون ويستغلون دون أدنى اعتبار. وهؤلاء كائنات أكثر جاذبية من الإنسان الأخلاقي، لكنهم كذلك أقل سحرا وتعقيدا منه؛ إذ يبرز الإنسان الأخلاقي عندما تدفن الهيمنة القاسية لتلك الوحوش الشقراء الغرائز الحرة لمن يخضعون لهم؛ ومن ثم يولدون تلك الحالة الخطيرة المؤذية للنفس من الندم والإيمان الفاسد التي تشكل «أخلاق العبودية» في المجتمع التقليدي. وإذ تعلق الكائنات الأخلاقية التقليدية في شباك هذا التواطؤ المؤذي بين القانون والرغبة، فهي تذبل في قبضة الواقعي بالمعنى السلبي للكلمة، بينما يتحرك الإنسان الأعلى - كما سنرى في تلك المنطقة الغامضة - بصورة أكثر إيجابا، بصورة أقرب في عدة جوانب إلى النموذج المثالي لأنتيجون عند لاكان (وإن كانت مجردة من تجهمها وعنادها) من نموذج أتباع المسيحية اليهودية التي تسبب الإخصاء لذواتهم.
إلا أن ضبط النفس السادي المازوخي عند الحيوان الأخلاقي هو أيضا - بطريقته الخاصة - عملية رائعة. فثمة جمال في الضمير الفاسد؛ فالإنسانية تستمد استثارة شهوانية من تعذيب النفس تماما مثلما يستمدها نيتشه المنحرف الشرير من تصوره. وبالإضافة إلى ذلك، ورغم أن الفساد المنتظم للغرائز يجعل الحياة الإنسانية أكثر هشاشة وتقلبا، فهو أيضا يفتح الباب أمام احتمالات جديدة للتجربة والمغامرة، فهذا الكبت للدوافع هو أساس كل فن وحضارة عظيمة. فإن أضعفت عواطفنا فقد زادت تهذيبا ودقة كذلك، والانضباط الذاتي العقابي الذي يفرضه علينا هذا يمهد لنا الطريق للوصول إلى السيطرة على الذات المتصف بها الإنسان الأعلى، فاعتمادنا الخطير على العقل الحسابي في حقيقته إضعاف ماكر للعواطف وبداية لوجود ثري لا يضاهى. إن نيتشه ليس مفكرا لا عقلانيا بسيطا؛ ففي أعماقه نفسه تجري كراهيته لعصر التنوير. وهو جدلي في هذا الجانب على الأقل بقدر ماركس، فسقوط الإنسان - الذي هو غائي عند الكثيرين - يتضح أنه سقوط سعيد؛ إذ فقط بانضباط العواطف الهمجية القديمة وتساميها عن طريق فرض أخلاق «القطيع» ينفتح الباب أمام الظهور الكبير للإنسان الأعلى، الذي يتولى هذه النزعات ويطوعها حسب إرادته المستقلة. فالذات الإنسانية تولد في حالة من المرض والخضوع؛ لكن هذه الإرادة تثبت أنها أداة ضرورية لاستغلال القوى المدمرة في العادة.
يكتب نيتشه في كتابه «إرادة القوة»: «نحن ممتنون بشدة لما حققته الأخلاق ... لكنها لم تعد الآن سوى عبء قد يتحول إلى فاجعة!»
31
ويشير في عمله «المسافر وظله» قائلا: «وضع الكثير من القيود على الإنسان لدرجة أنه قد ينسى السلوك الحيواني؛ فقد أصبح الإنسان في الحقيقة أكثر اعتدالا وروحانية وسعادة وحرصا من أي حيوان؛ لكنه لا يزال يعاني الآن من تحمل قيوده طويلا ...»
32
ويذكرنا هذا بموقف القديس بولس من شريعة موسى التي كان الهدف منها - شأنها شأن كل القوانين الفعالة - إيصال الإنسان إلى مرحلة لا يحتاج فيها إليها. وكما حال العهد الجديد، يؤمن نيتشه على طريقته الإلحادية الخاصة بأن القانون يجب أن يخدم رخاء الحياة لا أن يخدم نفسه. وبمجرد أن يحقق هدفه يمكن التخلي عنه؛ فالفرد الحر - عند نيتشه إن لم يكن عند كيركجارد - هو نتاج لعادات مقيدة، وإن كان يسمو عليها أيضا، فالوحش الأشقر يجب أن تنزع قوته ليكون ملائما للمجتمع المتحضر، فمن دون القدرة على التفكير الحسابي والتبادلية المجردة يظل الناس حيوانات ضارية تعيش تحت رحمة غرائزها، ولن يرسى أساس الإنسان الأعلى المتحضر أبدا. فالنظام الرمزي له فوائده على كل حال، ففقط بتعلم استيعاب قانون زائف يمكن للإنسان أن ينال السيطرة الذاتية على هذا الكائن الرائع الجديد الذي لا يعيش بأخلاقيات حضرية عامة بل يعيش تبعا لقانون ذاتي ليس له مثيل ؛ فالأرستقراطي لا يشارك قيمه الأخلاقية مع الأدنى منه مرتبة مثلما لا يشارك طعامه معهم. فمن أكثر ما يغضب نيتشه القول إن الأفراد قد يكونون متساوين من بعض النواحي. وهو في تلك النقطة قرين فلسفي بحق لكيركجارد، فالإنسان الأعلى باعتباره قانون نفسه يتحرك في نطاق البعد الواقعي «الإيجابي»، فخورا وواثقا وفريدا تماما يتخطى نطاق المعايير الأخلاقية الجماعية وجسورا في مواجهة الموت والعدم؛ لكن لا يمكنه فعل ذلك إلا لأنه تعلم في مدرسة النظام الرمزي الشاقة؛ فالحضارة نتاج البربرية الأخلاقية، وفقط بخسارة نفسك، تستطيع أن تنالها.
Bog aan la aqoon