75

Dhibaatooyinka Iyo Shisheeyaha: Daraasad Ku Saabsan Falsafadda Akhlaaqda

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Noocyada

إن الرحمة في عين أنجيلو شأنها شأن العاطفة مجردة بصورة خطيرة، فهي تغفل مدى حسن أو سوء الفعل، فتضحي بهذا الحكم من أجل دافع ذاتي خالص. ومن هذا المنطلق فإن الرحمة - للمفارقة - تتسم باللامبالاة تجاه خصوصية القانون ذاته التي تسعى لتلطيفه. إلا أن أنجيلو مخطئ في تصوره أن الرحمة نوع من البقعة العمياء الإدراكية، فعبارة هاملت التي يوبخ فيها بولونيوس: «لو عاملت كل امرئ بموجب استحقاقه، فمن ينجو من الجلد بالسياط؟» لا تعني أنه لا ينبغي للإنسان تسجيل الخطأ بل أن يغفره. وتقع إيزابيلا هي الأخرى في هذا الخطأ؛ إذ تطلب من أنجيلو بأسلوب بلاغي: «كيف يكون حالك، لو أن الرب - وهو قمة العدالة - كان ليحكم عليك، كما أنت؟» (2، 2: 75-77). لكن الفرق هو أن الرب لا ينظر للرجال والنساء بما هم عليه، فهو ينظر إليهم في ضوء خوفهم وضعفهم وهو ما يسهل مسامحته لهم. فالحب والعلم، كما يشير الدوق ضمنا، متلازمان بالطبيعة. والحب الصادق - كما يقول لاكان - هو حب الآخر على نقصه، فالرحمة والواقعية رفيقان متلازمان.

كذلك فإن القانون العادل لا يتجرد من المواقف العملية التي يحكم عليها، فيتغاضى في عجرفة عما يميزها بل يطبق قواعده العامة على هذه المواقف بدرجة من الكياسة، أو الحكمة العملية (كما يقول أرسطو)، فيراعي حالتها وهيئتها الخاصة. وبذلك تكون الأحكام القانونية مثل المنطوقات؛ أي تطبيقات محددة لا تقبل الاختزال لأعراف معينة شديدة العمومية. فإن لم يكن القانون يجرد ويساوي فستكون لدينا قوانين بعدد المواقف، وكل موقف منها سيكون مستقلا حينها (فعليا، قانونا في حد ذاته) ومن ثم يكون مطلقا؛ إذ لا جدال مع الشيء الذي يماثل نفسه، فالشيء الذي يماثل نفسه لا يمكن قياسه، وهو أحد الأسباب التي تجعل مسرحية «الصاع بالصاع» مليئة بالطوطولوجيات. إن تلك الاسمية القانونية - رغم شغفها الشديد بالخصوصية - ستكتب شهادة وفاة العدالة. لكن القانون - باستمداده الهوية من الاختلاف - كاللغة، لا يعيش إلا في إطار سياقات إنسانية محددة لا يمكن إغفالها أمام مبادئه الأساسية. إن الوسيط بين العام والخاص في حالة القانون واللغة هو التأويل، فالدوق عندما يزور السجن يطلب أن: «يعرف طبيعة جرائمهم؛ حتى أعظهم بما ينبغي» (2، 3: 6-8). فعمل الخير لا يفرق، رافضا بعكس العقيدة الإنجليكانية الفيكتورية التفريق بين من يستحقونه ومن لا يستحقونه؛ لكنه دقيق مع ذلك في التمييز بين أنواع الاحتياج المختلفة، فهو شأنه شأن أي قانون فعال يتسم بالعمومية والخصوصية معا.

لكن المشكلة تتعلق بكيفية الاتصاف بالعدل أو بالرحمة دون الدخول في حالة اللامبالاة الباردة عند لوشيو الذي يهدد غروره بقدرته على التعامل في المواقف الصعبة بتدمير فكرة القيمة في ذاتها؛ فإن كان أنجيلو - كما يوحي اسمه باللاتينية - ملائكيا، فلوشيو شيطاني. فبينما يعرف الملائكيون - كما يقول ميلان كونديرا - بخطابهم «الطيب» على نحو خاص وبلاغتهم الجافة وعاطفتهم المهذبة، فإن الشيطانيين لا يرون من حولها سوى التردي؛ فالكهنة والسياسيون ملائكيون، بينما الصحفيون بصحافة الإثارة شيطانيون، فالشيطانيون ليسوا أشرارا؛ إذ إن الشر يستلزم الإيمان بالقيمة الأخلاقية حتى وإن كان من أجل مخالفتها. فإبليس في شعر ميلتون ليس شيطانيا بينما شيطان توماس مان في مسرحية «دكتور فاوستس» شيطاني. أما لوشيو فهو مؤمن بالمذهب الطبيعي الأخلاقي، لا يرى شيئا حقيقيا سوى الرغبة، ويعتبر كلمة «إنساني من لحم ودم» تصنيفا وصفيا لا معياريا، فموقفه اللامبالي من القانون يظهر في رد صديقه بومبي المتسم بالاحترام المصطنع على خبر حظر بيوت الدعارة في فيينا: «هل سعادتك تقصد إخصاء كل شبان المدينة؟» (2، 1: 136). «قليل من التسامح مع الفسق» (3، 2: 53) هي السياسة البديلة التي يقترحها لوشيو بدافع المصلحة على أنجيلو، فسعة أفقه بحق ضرب من السخرية، فالشيء المطلق الوحيد الذي يقره هو الشهوة، أما القوانين والألقاب والقيم والشعارات فما هي إلا واجهة ثقافية براقة.

إن الساخر هو شخص لا يؤمن إلا بواقعية المتعة، معتبرا الآخر الكبير أو النظام الرمزي معتقدا زائفا فارغا يستخدمه ليحقق غايته. ومن هذا المنطلق فإن السخرية محاكاة تهكمية قاسية للكوميديا، وهي فن يثق بالقيمة الأخلاقية لكنه ينظر إليها من زاوية المفارقة والسخرية في ضوء عجزنا الحتمي عن مجاراتها، فهي برفضها مطالبتنا بالكثير علاج لمن هم تحت نير الأنا العليا الذي لا يرحم. فالكوميديا تمجد القيمة الإنسانية بوعي ظريف لاعتباطية تقاليدنا ووجودنا الذي لا أساس له، فهي بهذا المعنى - وليس لأنها تبشير بمستقبل متناغم - فن يوتوبي، فتتيح وفرتها وغزارتها سموا لحظيا عن دنيا التاريخ المميتة.

لا يمكن للوشيو أن يتحدث عن القيمة الأخلاقية، كما لا يستطيع المحار أن يتقن قواعد علم الجبر. إن تسامحه مع الرذيلة تهكم على التسامح الحقيقي، لأسباب ليس أقلها أنه لا يكلفه شيئا، فهو تسامح بلا قيمة لأن ثمنه بخس. من هذا المنطلق، وكما يمكن أن توجد عدالة جامحة (الانتقام)، يمكن أن توجد رحمة عديمة القيمة. فكما يشير الدوق، «فالرذيلة إذا أشفقت اتسعت الرأفة حتى ليصادف الخاطئ حبا في الخطيئة» (4، 2: 88-89). وتميز إيزابيلا بين ما تسميه «الرحمة القانونية» و«الرحمة الشريرة» التي تسامح من أجل كل الأسباب الخاطئة أو بدافع التسيب الأخلاقي، فصفة الرحمة ليست مقيدة كما تعلن بورشيا في مسرحية «تاجر البندقية» لكنها ليست رخصة أو كرما غير محدود كذلك؛ إذ يجب عدم السماح بالسخرية من العدالة أو من قيمة الأشياء الجوهرية، فيمكن لصرامتك أن تزيد عن الحد كما عند أنجيلو؛ لكن من الممكن أن تبالغ في تقديرك بصورة تقضي على كل الفروق وتخلط كل المواقف الإنسانية خلطا مشوشا في موقف واحد. ومسرحية «الملك لير» هي مسرحية أخرى لشكسبير تركز كثيرا على الشعرة الفاصلة بين الزائد عن الحد والأقل من اللازم، بين الوجود والعدم، بين الوفرة القاتلة والوفرة التي تمنح الحياة.

2

تتوازى «اللاعاطفية» الأخلاقية عند لوشيو في مسرحية «الصاع بالصاع» مع القصور الروحي الملحوظ عند المجرم بارناردين، وهو سيكوباتي شبيه بموزيل لا يأبه بالحياة والموت، لدرجة أنه لا يعترض على إعدامه إلا لأنه يتعارض مع نومه. إن بارناردين ميت فعلا بصورة ما، فهو يتوقع الموت المحتوم فلا يهابه، ويعيش في غيبوبة أخلاقية مرضية، وهو إذ يغرق في بلادته الروحية يقف بالفعل عند نقطة النهاية التي تكون فيها كل الاحتمالات متساوية، فالموت يبدو أنه يؤكد ما يشك به هو ولوشيو، وهو أن كل القيم واحدة في النهاية، فهما لا يدركان أن هناك سبيلا أقل سخرية لتساوي الاحتمالات، وهو التسامح؛ فالتسامح انكسار بلا سبب لدائرة المساواة الصارمة، دائرة رد الصاع بالصاع؛ ومن ثم فهو يبشر بالموت في ظل أنماط الحاضر المنتظمة.

يصير بارناردين منيعا بالضرورة بعد أن قهر الموت بهذا الشكل، فالذين يتقبلون مصيرهم عن وعي يسمون عليه بعين هذا القبول، فيتحول إلى حرية. إن هذا التلازم هو ما يميز أزلا البطل التراجيدي؛ إذ يعلن كلاوديو: «إذا لم يكن من الموت بد، فسألقى ظلمته كعروس، وآخذها بين أحضاني» (3، 1: 91-93). وفي ظل هذا التلازم بين القدر والحرية، يقدم الحدث التراجيدي حلا فريدا للصراع بين اللامضمون والمضمون، بين الحرية والقيود، بين المشروعية والمنع، الذي تتناوله المسرحية. فالدولة يجب أن تؤجل موت بارناردين إلى أن يقبل الأمر عن اقتناع، فما دام لم «ينفذ» بطريقة ما وفاته ليحولها إلى فعل صادق يخصه، فلن تكون حدثا في حياته، وهو ما سيشوه صورة السلطة التي حكمت به عليه، فموته يجب أن يكون ممارسة واعية وليس مجرد حدث بيولوجي. وفي أصدق لحظات وجودنا - ونحن على شفا الفناء - يجب علينا أن نثبت أننا فاعلون بالمعنى الكامل. يقول الدوق للحكمدار: «أقنع هذا الشقي أن يقبل على الموت» (4، 3: 49). وثمة طرق قليلة أكثر فاعلية لمقاومة السلطة من اللامبالاة الصادقة تجاهها، فهذا الرجل المتوحش الميت الحي يفهم بطريقته أن السلطة لا تكمن إلا في رد الفعل التي تسببه فيمن يخضعون لها. وهكذا - كما حدث - أدرك ديفيد هيوم عندما قال إنه عندما يتعلق الأمر بالسيادة فإن المحكوم له اليد العليا دائما.

إن الفوضى والاستبداد في المسرحية - كما يتضح - ليسا بأي حال نقيضين كما يبدو. فمن جهة، الإباحية تولد القمع، فإن سمحت للقانون - كما فعل الدوق - بأن يسقط في مستنقع العار، فأنت تمهد الطريق لظهور سلطوي شبيه بأنجيلو في المستقبل. وتعج المسرحية بصور لاستراتيجيات فاشلة وأفعال ذات نتائج عكسية. يعلق كلاوديو: «فكما أن الإفراط في الطعام يؤدي إلى الصيام، كذلك الحرية إذا أفرطت في استخدامها، تحولت إلى قيد» (1، 2: 76-78). وبصفته رجلا زج به في السجن بتهمة ممارسة الفحشاء، فمن المفترض أنه على علم بذلك. ومن ناحية أخرى فإن القانون - كما في التحريم الأوديبي - هو ما يغذي الرغبة في المقام الأول. لذا فإن أنجيلو - إذ يواجه إيزابيلا العفيفة عصية المنال - يقع فريسة لرغبة تخرج عن السيطرة، ويعرض عليها أن يعفو عن أخيها إن مارست معه الرذيلة. فمن خلال عرض إيزابيلا مبدأ مجردا أمام أنجيلو بنفسها، تكتشف للأسف أنها أغوته بنفسها لا بالمبدأ. ففضيلة الحاكم يتضح أنها مثل وصف لوشيو لعظام زبون عاهرة مصاب بالجدري: «كالأشياء الجوفاء» (1، 2: 57). فإن كان أنجيلو يجسد القانون الأخلاقي فهو يمثل وجهه القبيح، فالقانون أو المنطق الذي هو مثل أنجيلو «لا يحس أبدا بوخزات الحس الحقيقية أو حركته» (1، 4: 58-59) غريب على الجسد، ومن المرجح أنه سيؤخذ على حين غرة على يد رغبة تفاجئه بتمردها.

لقد عجز أنجيلو باختصار عن استيعاب الدرس الذي أراد شيلر أن يعلمه لكانط في كتابه «عن التربية الجمالية للإنسان»، الذي مفاده أنه إن أراد العقل أن يضمن سيطرته على الرغبة فعليه أولا أن يخترق صفوف الحواس بصفته طابورا خامسا، فيوجهها من الداخل بدلا من أن يظل غير مبال، في معزل عن الشهوة. وينطبق الشيء ذاته على قضية السيادة السياسية على الشعوب. ومن ثم تبرز الحكاية الخيالية الخاصة بالملك الذي يتحرك متخفيا بين العامة، والذي ما كان دوق مسرحية «الصاع بالصاع» إلا مثال واحد لشكسبير عليها. إن القوة السياسية الفعالة لا هي طاغية ولا هي متساهلة في إهمال، بل هي مهيمنة. إن مشكلة القانون هي ما قد نسميه «معضلة الأمير هال وفالستاف»: كيف تكون على دراية بالضعف البشري تكفي لتفهمها من الداخل بينما تفصل بينها وبين نفسك لتحكم عليها دون تحيز؟ إن أمثال الدوق فينسنتيو في هذا العالم يجب أن يتعلموا مع أمثال لوشيو دون أن يصيروا منفذين لرغباتهم. فعلى القانون أن يحقق المعادلة الصعبة بأن يكون ملازما للبشرية ومتساميا فوقها في آن؛ كما الرب السامي في ضوء السياق الفرعي المسيحي للمسرحية الذي يغفر الخطيئة وهو في نفس الوقت الابن البشري الذي أوصلته الخطيئة للموت. لكن إن كانت الرحمة منبعها التعاطف الداخلي مع الخطيئة فسيبدو الاتصاف بالرحمة والتحلي بالفضيلة معا متناقضين قليلا. فمتى يتحول التعاطف إلى تواطؤ؟

Bog aan la aqoon