104

Dhibaatooyinka Iyo Shisheeyaha: Daraasad Ku Saabsan Falsafadda Akhlaaqda

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Noocyada

إن ما لا مبرر له في المسرحية ليس الرحمة - التي يلزم المسيحيون ببذلها ولا يفعلون - بل عناد شايلوك المخيف؛ إذ يقدم مع سير الأحداث عددا كبيرا من الأسباب لرفضه التخلي عن رغبته: أن أنطونيو مسيحي بغيض؛ وأنه شخصيا مكروه؛ وأنه معاد للسامية؛ وأنه يخفض سعر الفائدة في البندقية بتقديم قروض دون فوائد؛ وأن المسيحيين عادتهم الانتقام الصارم، فلماذا لا يفعل هو الآخر نفس الشيء؟ وأن أنطونيو منافس تجاري خطير ينبغي التخلص منه؛ وأنه لن ينخدع، وهكذا. إلا أن شايلوك يفهم الطبيعة الحقيقية لهذا الشيء الذي بداخله ويتخطى حدوده أكثر ممن ظلموه. إنه، كما يقر مضطرا أمام المحكمة، عاطفة لا يمكن تفسيرها مثل الرغبة في الابتعاد عن الخنازير أو آلة مزمار القربة. أما أنطونيو فمن ناحيته يرى منذ البداية أن الشيء الغامض الذي تتعلق به رغبة خصمه لا يقبل التداول، شأنه شأن البحر والريح، ويتوسل إلى أصدقائه المسيحيين أن يتخلوا عن محاولتهم تليين قلبه «العنيد». فشايلوك، كما تقول إحدى الشخصيات، شخصية «عصية»؛ إذ يمثل لغزا غير مفهوم في قلب النص. إن المسألة التي تتناولها المسرحية هي التعطش للنظام الواقعي الذي لا يقبل أي تنازل، والذي يقترب بدرجة خطيرة من أن يدفع شايلوك إلى الهلاك؛ إذ يرفض شايلوك العفو عن أنطونيو؛ ليس لأنه واقع في قبضة الشعور بالنفور بقدر ما هو واقع تحت حكم الضرورة.

وفي الحبكة الثانوية للمسرحية، يهدف باسانيو تابع أنطونيو، بعد أن أسرف في تبديد ماله، إلى استمالة بورشيا الثرية. وكان يجب أن يتعرض حبه لها للاختبار في مشهد الصناديق الشهير؛ حيث يطلب من هذا العاشق الجشع أن يختار من بين ثلاثة صناديق من الذهب والفضة والرصاص. فالصندوق الذهبي الذي كتب عليه: «من اختارني نال ما يتمناه الكثيرون» (2، 7: 5) يدفع باسانيو لجعل رغبته موافقة لرغبة الآخر، وهو بذلك يرمز لعالم التنافس والمحاكاة الذي نسميها النظام الخيالي. أما الصندوق الفضي الذي كتب عليه «من اختارني نال بمقدار ما يستحق» (2، 7: 7) فيلمح إلى العالم الرمزي القائم على التكافؤ والتبادل؛ فالفضة كما يعلق باسانيو «شاحبة ومتداولة، فيما بين الناس » (3، 2: 103-104)، وهي السلعة العامة التي تربط بيننا بروابط مجهولة تبدو مناقضة تماما للحب. إنها بالتأكيد المادة التي تدور في فلكها مدينة البندقية التجارية، الساعية وراء الربح، المهووسة بالثروة في المسرحية. أما الصندوق الرصاصي فهو يتركب من المادة التي تبطن بها النعوش، وهو يحمل عبارة تناسب تلك المادة المذكرة بالموت: «من اختارني عليه أن يعطي ويخاطر بكل ما عنده» (2، 7: 9). إنه في نطاق النظام الواقعي الذي يجب فيه أن يخاطر المرء بحياته من أجل رغبته. إذا فباسانيو بتطلعه إلى الصندوق الرصاصي يتطلع إلى نوع من اللاشيء؛ أي مادة رديئة ورخيصة مثل رطل اللحم عند شايلوك. إلا أنه كما عند شايلوك ثمة معنى لا محدود يرتبط بهذه المادة الزهيدة؛ لذا يتمكن باسانيو أيضا من تحويل اللاشيء إلى كل شيء، فيحول الرصاص كما بالخيمياء إلى الثروة المذهلة لزوجته التي استطاع الفوز بها، فبعد أن وصف بورشيا في إشارته الأولى إليها بأنها «تركت غنية» (أي أنها وريثة ثرية) فإن هذا المغامر البائس حكيم بدرجة تكفي للفوز بقلبها بتخليه المتظاهر بالورع عن إغراء الذهب والفضة. فإن كان الرصاص لا يقدر بثمن بمعنى أنه بلا قيمة، فإن الحب عند الرومانسيين لا يقدر بثمن بمعنى أنه يتخطى كل المقاييس («ما أفقر الحب الذي يقاس ويحصى» كما يقول أنطونيو المتهور في مسرحية «أنطونيو وكليوباترا»). أما باسانيو فيرى أن الحب أسمى من العالم الأدنى للسلع في نفس اللحظة التي يتزوج فيها امرأة لمالها. إذا، حسب عبارة ماركس، فإن «النظرة الرومانسية ... ستلازم (النظرة النفعية) كنقيض لها حتى نهايتها السعيدة.»

12

فالرغبة التي من المفترض أنها فوق كل الحسابات والمنفعة تستغل في الحسابات الدقيقة لسوق الزواج، وهو المكان الذي يتجمع فيه الجسد والعلامة في شكل أجسام ونقود تشترى بها.

بتبادل الأجسام تنتهي مسرحية «تاجر البندقية» مثل معظم مسرحيات شكسبير الكوميدية، فاللحظة الأخيرة من هذه المسرحية الكوميدية هي توزيع الأجساد على أماكنها المناسبة من خلال الزواج. لكن إن كان الزواج مسألة قانون وعقد وتبادل رمزي، فهو كذلك مسألة رغبة، والرغبة تتسم بتقلب يهدد دوما بتدمير هذه المنظومات. إن الرغبة التي تنتج المجتمع الإنساني شأن يصعب تنظيمه. فما يقوم عليه النظام الرمزي هو عينه ما يهدد بتدميره، مثلما أن إصرار شايلوك العنيد على حقه يدق مسمارا في نعشه؛ ومن ثم فإن بشجار العاشقين تنتهي المسرحية، موحية بالخيانة الزوجية. إن الزواج من وجهة نظر النظام الرمزي مسألة متعلقة بما هو عادل وملائم؛ لكن نظرا لأن الحقيقة الهدامة هي أن أي شخص يمكن أن يرغب أي شخص آخر - كما توحي الوتيرة السريعة لمكائد الحب في مسرحية «حلم ليلة صيف» - فدائما ما توجد مسحة من الاحتمالية أو لمسة من النظام الواقعي في هذه الزيجات المفترض أنها متلائمة. فالنظام الواقعي هو المرحلة التي تفشل فيها أفضل الخطط الرمزية الموضوعة، فشايلوك نفسه - وهو أرمل خسر ابنته لصالح مسيحي وخسر بضائعه لصالح الدولة مع سير الأحداث - منبوذ جنسيا كما هو منبوذ اجتماعيا من قبل النظام الرمزي.

يعود شكسبير عبر هذه المسرحية مرة بعد مرة إلى قضية الفضل مقابل العدل، أو كما يمكننا أن نقول: قضية النظام الواقعي مقابل النظام الرمزي. لكن بعكس معظم المعتنقين المعاصرين لأخلاق النظام الواقعي، فهو لا يسمح لما هو زائد عن الحاجة ومبالغ فيه بأن يقلل من قيمة وظيفة النظام الرمزي الجوهرية. فهو يرى جيدا أن الرغبة في النظام الواقعي يمكن أن تكون علامة تميز المصاب بالهوس الأحادي كما تميز الشهيد، وأن الفرق بين الاثنين أحيانا ما لا يكون واضحا. فثمة فارق - غير مرئي أحيانا للعين المجردة - بين من يموتون في سبيل سعة الحياة، وهؤلاء الذين يهلكون لأنهم مغرمون على نحو مرضي بالموت. كما يوجد فرق بين الرغبة المطلقة نحو العدالة، والرغبة التي لها غاية مطلقة لا تتعدى ذاتها؛ إذ توجد أشكال غير إنسانية لائقة للتبادل الدقيق كما توجد أشكال لا إنسانية قاسية منه. وهناك أشكال من الطيش تمنح الحياة كالتسامح، كما توجد أشكال مؤذية لها كالانتقام. فالمطلب الشريف لما لا يزيد عن حق الفرد يمكن أن يثبت إفراطه القاتل، فالنظام الواقعي - شأنه شأن ما هو مقدس أو سام - عالم من الرعب كما هو عالم من الرفعة.

13

والأخلاق المبنية عليه لا ترى ضرورة للتحول الثوري إلا على حساب المخاطرة بمغازلة تطرف نخبوي وحشي، وسنلقي نظرة أقرب على هذه النخبوية فيما بعد.

يسخر باسانيو من أن صديقه جراشيانو «يحوي حديثه دائما قدرا لا نهاية له من الهراء» لكن كذلك يفعل صديقه أنطونيو بنحو ما مختلف. فمنذ كلماته الأولى («صدقاني حين أقول إنني لا أعلم ما سبب هذا الحزن الذي ألم بي») التي هي أيضا أولى كلمات المسرحية، يكشف تاجر البندقية عن أنه يرزح تحت نير الميلانخوليا أو السوداوية، وهي شعور يصفه فرويد بأنه «الحزن بلا سبب»؛ وهو من ثم يعد ضجة كبيرة على لا شيء. وعليه سارع النقاد بملء فراغ السبب المجهول لحالة أنطونيو العاطفية؛ حيث خمنوا أن سبب بؤسه يكمن في حبه المثلي لباسانيو المنغمس في حب الجنس الآخر. ربما يكون هذا صحيحا؛ لكن من المنطقي أن يكون أي تاجر سوداوي، أن يعوز رغبته شيء محدد؛ حيث إن هذه على كل حال هي الطريقة التي يكسب بها قوته. إن القيمة التبادلية للأشياء هي ما يهمه، وليس سماتها الخاصة أو غاية متصورة من كنزها، فالسوداوية تعتبر الأشياء وسيلة، فتستنزفها لتتغذى عليها. فجاك في مسرحية «كما تشاء» قادر على «امتصاص الكآبة التي تذخر بها أغنية ما، بطريقة تضاهي قدرة ابن عرس على امتصاص البيضة» (2، 5: 9-11). وتزداد تلك الحالة كلما بدت أشياؤها أكثر نفادا، وبهذا المعنى تمثل السوداوية صورة ملائمة من الرغبة نفسها.

إذا فشكسبير يعي التشابه بين التجارة والرغبة، فكلاهما يتعامل مع الأشياء على نحو مجرد باعتبارها مجرد فرص لزيادتهما. وينطبق نفس الكلام على السوداوية، فمثلما يكنز التجار البضائع من أجل المزيد من الكنز، يبدو أنطونيو مغموما للغم في ذاته، فليست المخاوف المالية هي السبب في انخفاض معنوياته كما يؤكد لأصدقائه. لذا تفتتح المسرحية أحداثها بقدر لا نهائي من اللاشيء، تفتتح بفراغ يبدو عاريا عن أي سبب أو شيء، لدرجة أن أنطونيو يبدو أحيانا مستمتعا بفكرة سكين شايلوك القاطع؛ لكنه بالتأكيد يتخذ عددا من الإجراءات ليتجنب موته.

Bog aan la aqoon