اليونانية، أي الأفضلين أو الأماثل. فمعنى الأرستقراطية الأصلي إذن هو حكم الأفضلين، أو حكم الأفضل.
طبعي أن يؤلف المرء لنفسه جماعة تتفق مصالحها مع مصالحه بقدر الإمكان، ويثق من مساعدتها عند الخطر المداهم. والملكية تتبع هذا النظام الطبيعي؛ إذ لا شيء ألزم للسلطة الوراثية من الارتباط بذوي الشرف الوراثي، وتتوقع أن تبقى لها عواطف الشكر والولاء في أسرة أغدقت عليها هي وأسلافها الألقاب والخيرات، ولكن طالما ضل هذا الأمل، ولئن وجد يوما من يدعى هندنبورج وغيره من كبار الضباط والقواد الذين ظلوا يسمون غليوم الثاني «ملكي وإمبراطوري» بعد محنته، وتطوعوا في تقديم نفوسهم عنه للمحاكمة الدولية؛ ففي التاريخ شواهد أخرى هي عبرة للمعتبر، كمعاملة أشراف إنجلترا للملك غليوم أوف أورنج وجورج الأول، ومثلها معاملة أشراف الملكية الفرنساوية لنابليون الأول، ونابليون الثالث، ولويس فيليب، وما كان بعد ذلك من سعي أشراف الإمبراطورية النابليونية (أي الأرستقراطية التي خلقها نابليون) لإرجاع البوربون وإجلاسهم على عرش فرنسا!
في البشر استعداد كبير لنكران الجميل والتملص من قيوده، والإيقاع بصاحب الفضل عليهم عند قضاء المصلحة. ورغم ذلك ما فتئ الملوك يوجدون الأرستقراطية اللقبية جزاء خدمة جليلة وأملا في ولاء مقيم. وإن لم يسلم ملوك الفكر من التقرب فليس من يتقن فنون التزلف ويبرع فيها كأولي العز التالد. فهذا الشريف الذي يزن نبرات صوته، ويعد خطواته، ويقيس إشاراته مع الخلق ومع نفسه تراه يتوق إلى خدمة الملك سرا وعلانية. وإذا أسعده الحظ بمحاذاة سيده في احتفال رسمي هرع يغسل يديه، ويقبل أنامله إن لم يمرغ جبهته عند موطئ قدميه ، وقدم له أطباق الطعام، وملأ كأسه خمرا أو ماء، وحمل أوامره إلى الآخرين؛ فهو بالاختصار يمثل دور «جرسون» قهوة أو مطعم، وهو بذلك فخور.
الأرستقراطية ضرورية لمنفعة الأمة. آه! إني أسمع زئيركم يا دعاة المساواة، وأرى ازوراركم أيها الأساتذة الديمقراطيون. إنها ضرورية للاحتفاظ بصفات هي جزء من ثروة الأمة، لأن لكل طبقة قوة حيوية اؤتمنت عليها. لست قائلة باحتكار القوى والكفاءات في بيئة دون بيئة، ولا أنا قائلة بذكاء ابن الذكي، وبفضل ابن الفاضل، وبأن ابن النصاب لا بد أن يعدم شنقا. ربما كان سر الوراثة أكثر الأسرار الطبيعية تنبيها لحب البحث في. ما أضمن تأثير الوراثة المباشرة من جهة، وما ألغاه من جهة أخرى! تقولون إنه لغو بتغلب الوراثة المتقطعة، أو الرجعى، أو الوراثة البعيدة على الوراثة القريبة! قولوا ما شئتم وأنا أبقي على اعتقادي حتى يتغلب عليه اعتقاد خير منه؛ وهو أن المواهب تظل متدفقة في ذلك التيار الرائع تيار الحياة الذي يخترق الأكوان، ويلقي نثرات منه أتم بهاء وسناء في أفراد دون أفراد بصرف النظر عن صيغة نعتهم الاجتماعي. غير أني أقول كذلك إنه إذا كان للتربية الشخصية والبيتية تأثير - ويتعذر نفي هذا؛ إذ نسد بنفيه باب التقدم والتحسن - فكيف بالتربية الوراثية الطويلة؟! لهذه القاعدة شواذها أيضا، ومن الأرستقراطيين من هم دون الخاملين ذلا ومهانة. ولكن هذا الشذوذ يثبت القاعدة التي هي أن رفيع الحسب يكون عادة مباهيا باسمه يطمع في صونه ناصعا ألمعيا، ويرغب في عظائم الأمور لأنه مسوق أبدا بكبرياء المولد. زد على ذلك أنه يشب على تربية حسنة، وذوق مصفى، ومعاملة جميلة، وتدبير مرضي، وعلم كثير، وعادات نبيلة، وميول سامية؛ جميع هذه الصفات يقتبسها عن محيطه الممتاز بعد أن تكون الوراثة المباشرة وغير المباشرة أثرت فيه تأثيرها؛ فيبتدئ حياته على استعداد تام. أكاد أقول إنه يبتدئها حيث ينهيها من لا اسم له، وتمهد له الحياة سبلا لا تفتح للوضيع، فكأن خدمة المصلحة العامة وخدمة الإنسانية أيسر له منها لغيره. له أولوية الشهرة وشهادة المجد يظل بها مكرما معززا أينما ذهب، بينما الآخر يضحى غالبا لأنه مجهول لا يعرفه أحد؛ فيصرف قواه ونشاطه في إقناع الناس بوجودهما عنده، وتتابع الخيبة والفشل قد يملأ قلبه مرارة ويفسد خلقه فيتحدر من يأس إلى يأس، ومن انكسار إلى انكسار حتى يهوي في لجة الارتياب من مقدرته وكفاءته؛ فيلقي السلاح، ويطوي اللواء، ويسلم تسليم المغلوب عندما ينطلق الأرستقراطي في سبيل السعي والمجد. وادخار هذه الشخصيات الموهوبة بحكم الوراثة إنما هو في مصلحة الشعب والإنسانية بلا جدال.
هو في مصلحة العموم لا سيما إذا كانت المرتبة شبيهة بالأرستقراطية الإنجليزية التي لها بين أرستقراطيات أوروبا مكانة فريدة. هذه بيئة تكونت ببطء متناه لتعادل السائد والمسود حضارة في تاريخ هاتيك البلاد. فاندغم النورمانديون بالسكسون على ممر الدهور فتألفت أفضلية ما زالت بتساهلها ورشدها تحفظ امتيازاتها في هذا الجيل العصيب؛ لأنها وهي من أكثر الأرستقراطيات محافظة على تقاليدها التي منها تفرد الابن البكر بحقوق الوراثة، فهي في الوقت نفسه حكيمة تعيش في أراضيها على مقربة من الفلاحين بعيدة عن التبذير والاستهتار، تتعاطى الصناعة والتجارة وغير ذلك من الأعمال، وتفتح بابها لكل ذي أهلية ومعرفة وثروة أو خدمة جليلة. وهي ذات أثر في معظم شئون الدولة تقبل الإصلاح، وتنبه إلى التعديل الضروري. وقد جاهدت مع الشعب لحمل الملكية على احترام القانون، وتحرير الكاثوليك، ومنح أيرلندا المساواة السياسية، وإعطاء اليهود حقوقهم المدنية والسياسية، وإنشاء النظام النيابي وما نحوها؛ فهي قليلة الأذى، قليلة الظلم، وهي مستودع صفات وعادات مستحسنة؛ لذلك ستبقى زمنا آخر لأنها قريبة إلى نظام الطبيعة. •••
أظن أن ذكر نظام الطبيعة - بعد هذه المرافعة الطويلة في تأييد الأرستقراطية - يشفع بي لدى السادة الديمقراطيين ويفرج من عبوسهم في النظر إلي. لا أقول إن الإشراف أو التفاضل ضروري في الطبيعة فحسب، بل أقول إنه من الطبيعة ولا يمكن حذفه؛ لأنه - كالانخفاض - جزء من أجزاء الوجود. لاشه تلاش ضده، وبملاشاة الضدين يمحي كل شيء. الإشراف والانخفاض من الوجود نفسه؛ إذ ليس سطح الأرض كله بالمنبسط، ولا النجوم كلها من قدر واحد. والذين يطلبون المساواة مسستشهدين بالشمس تسكب نورها على الصالحين والطالحين، وبالماء تسبح فيه جميع الأسماك على الإطلاق، ينسون أن الأسماك من طبيعتها التنوع حجما وصفة؛ فمنها المصفر ومنها القاتم، ومنها السردين ومنها الحيتان. وينسون أن العبرة ليست بالنور الذي ترسله الشمس، بل بالغاية المتنافرة التي يرمي إليها هذا وذاك، وبكيفية الاستفادة من النور والظلام لبلوغها. فكما أن سطح الأرض ينبسط هنا مروجا وسهولا، ويهبط هناك منحدرات وأودية، ويتشامخ هنالك جبالا وقمما، كذلك للطبيعة البشرية سهول وأودية وقمم.
وهاك استدراكا ينيلني حظوة في عيون جهابذة الديمقراطية، ويصح أن يكون متنا لكل بحث في تاريخ الاجتماع؛ وهو أن الأرستقراطية التي احتكرها ذوو الألقاب لبيئتهم ليست إلا جزءا من الأرستقراطية التامة المتشكلة من أرستقراطية الفضل (وهي التي يعنيها أرسطو وشيشرون) وأرستقراطية الحسب، وأرستقراطية العقار، وأرستقراطية المال، وأرستقراطية النبوغ. ومن المفكرين - مثل شوبنهور الفيلسوف الألماني - من لا يعترف بغير الأرستقراطية الأخيرة؛ إذ يرى الناس اثنين: عبقريا وخاملا، وبينهما هوة يستحيل عبورها؛ لأن الطبيعة الخاملة لا تتحول طبيعة عبقرية. وللعبقري كل الفضل في نظره لأنه هو مبدع كل جميل وعظيم. ولكن إذا صحت نظرية شوبنهور من حيث إرجاع الإبداع إلى العبقرية، فهذا لا ينفي أن للدرجات الأخرى فضلا متساويا مع استعدادها في تطور العمران. البذرة تلقى وهي أصل الشجرة، ولكن النمو يتطلب عناصر أخرى. الشرارة أصل النار، ولكن لا بد من مواد يتسع بها اللهيب وينتشر. والغريب هو شعور أهل الألقاب والجاه بضئولة ما لديهم فيسعون للحصول على الأرستقراطيات الأخرى، وإن لم ينالوها تظاهروا بحيازها. مثال ذلك رغبة الملوك والعظماء في الاشتهار بالعلوم والفنون وضروب الإنشاء. ومن لا يذكر ما جرى للويس الرابع عشر مع بوالو النقاد الفرنسوي الذي عرض عليه الملك يوما قصيدة من نظمه كأنه يلتمس مصادقته واستحسانه ليفاخر بهما أمام الأعوان، فكان جواب بوالو: «مولاي قادر على كل شيء؛ أراد نظم أبيات سقيمة فنجح كل النجاح.» وقد يخلط الناس فيحسبون أن من توفرت له أرستقراطية توفر له غيرها . كقول الشاعر عن أرستقراطية المال:
فهي الكلام لمن أراد فصاحة
وهي السلاح لمن أراد قتالا
نقبل هذه النظرية من شاعر فقير بلا ريب؛ لأن الواقع أن المال يبالغ في إظهار العي، ويزيد الجبان خوفا وجبنا. ولا يكون «الكلام» إلا لمن فطر على الفصاحة، ولا «السلاح» إلا في يد الفارس المقدام. ولا هو الارتقاء إلا لمن خلق ليرتقي متسلقا جبال الصعوبة فيصل إلى ذروة التفوق. أما القول بالحظ والنصيب فصائب إلى حد ما. بيد أنه من دلائل العجز أن يظل المرء مكتوف اليدين في انتظار «الظروف» ليتحرك. «الظروف» تخلق الشخصيات الضرورية لها، وتكون الأرستقراطيات الفردية والقومية المطلوبة، وتنبه النبوغ وتعززه. ولكنها في الغالب تختار ممثليها وأبطالها بين العاملين المتحفزين لا بين الكسالى الخاملين. وإن اختارت خاملا سهوا بدد عطاياها هباء، وظل الحظ فيه على نحو قول العامة «رمح يغرز في النخالة.»
Bog aan la aqoon