2
ولكن صاحب الوجه النظري من هذا المذهب هو الذي يدعوه كروبتكن «أبا الفوضوية الخالد»، هو برودون الفرنسوي الذي أنكر الملكية الفردية والملكية الشيوعية جميعا، قائلا إن الأولى هي استبداد الأقوياء بالضعفاء، وإن الثانية هي استبداد الضعفاء بالأقوياء، وإن حكومة تقر الملكية أيا كانت وتحافظ عليها لحكومة لا يطلب إصلاحها بل يجب قلبها. برودون يرمي إلى هدم السلطة في جميع دوائرها وأشكالها زمنية كانت أم روحية؛ فلا جيوش ولا محاكم ولا إدارة ولا كنيسة، يريد إبدال التقوى بالعدل والتدين بحسن الأخلاق. ومتى ألغيت السلطة حل محلها التعاقد الحر الاختياري فينظم المجتمع نفسه هيئات مركزية لأصحاب الحرف والفنون والصنائع، ويرتبط بروابط معرضة أبدا للحل والتبديل دون الخضوع لقوة غربية. وهو يستحسن الفقر لأنه يحث على العمل. وليس ليرى الرقي في الهناء والرخاء المفسد بل فيما يكتسبه المرء من صفات الرجولة وما يعززها من استقلال ذاتي وإدراك حصيف لمعاني العدل والمساواة؛ فيعيش الفرد عندئذ حرا مستقلا فينتج حسب استعداده ويستهلك حسب احتياجه، وكذا تسير الإنسانية في سبيل التقدم لا تقيدها شريعة ولا يذلها أمر ولا نهي.
أما نظرية «قيمة العمل» فواحدة عند برودون وماركس جميعا، إلا أن هذا سخر بذاك؛ لأن الماركسية وإن خيلت منادية بالمساواة، فهي في الجوهر نظام ديكتاتوري له صرامة القضاء والقدر وقسوة التطور المحتوم الذي تقوم عليه، فتبدو إزاءها الآراء البرودونية في الحرية والمساواة والعدل خواطر شعرية روائية شفافة تذوب كالضباب عند شروق الشمس.
ماركس يقول بالثورة الصريحة بلا مداورة، أما برودون فتختلط عنده الثورة بالإصلاح ويتغلب هذا أحيانا، ولا سيما عندما ينصح للعمال أن يتصافوا وأصحاب رأس المال. إلا أن هذا لا ينفي أن برودون ذا المواهب النادرة والنفس المتلظية هو الذي شوش العقول وألهب القلوب وأطلق مسموم السهام، وأن من فوضويته النظرية العلمية تولدت الفوضوية العملية المحسوسة؛ فوضوية سار باكونين الروسي في سبيلها فاندفع وراءه المندفعون. كان شعار برودون: «لا إله ولا سيد.» فأضاف إليه باكونين: «ولا عقيدة ولا شريعة.» •••
ظهرت بوادر الفوضوية العصرية في الإنترناسيونال المنعقدة مؤتمراتها بمدينة لاهاي في أواخر سنة 1872؛ وذلك بانسحاب أحد الزعماء - باكونين - الذي عيب الاشتراكية أن تكون حكومة ذات مجلس عام له سلطة ديكتاتورية مطلقة على اللجان الفرعية. تعود إليه هذه للبت في شئونها، ومرجع الأحكام إلى ماركس القائم على رأس التحالف زعيما لا مرد لقضائه؛ فانحلت الإنترناسيونال، وتشتت شمل الأعضاء فمالأ بعضهم الزعيم الألماني، وشايع آخرون الزعيم الروسي. وكما ظل ماركس منطلقا في تتميم مشروعه انبرى باكونين ينشر دعوته؛ فأوجد التآلف الحر وانضم إليه كثيرون من مختلف البلدان وأصدروا صحيفة «الطليعة»
Avant-Garde
التي لم تكن أن عطلت؛ فأصدر كروبتكن بالاشتراك مع إليزه ركلو الفرنسوي صحيفة «المتمرد» ذات الأثر الشديد في نشر الدعوة الفوضوية في أوروبا وأمريكا سنة 1878، لما كان عليه كروبتكن من مقدرة كتابية وبلاغة مستعرة، فضلا عن أنه ذو مذهب قيم في ذاته ينم عن طبيعة طويت على الخير وحب بني الإنسان؛ فكانت شديدة الثقة بالمستقبل.
كروبتكن كجميع الفوضويين يقول بالتحرير من النير الاقتصادي والحكومي والديني، وليس ذلك التحرير عنده حلما من أحلام الغواية بل هو نتيجة سيفضي إليها اتجاه الاجتماع الحالي. أما وسيلة التحرير فهي الثورة - الثورة الجديدة المختلفة عن كل ثورة سبقتها. تلك لم تتعد بلادا شبت فيها، أما الثورة الجديدة فإذا شبت في بلد امتدت بسرعة إلى ما يحيط به وألهبت أنحاء العمران. وهو يؤثر الثورة على الإصلاح لأن في الإصلاح قبولا مضمرا للماضي الذي يتعدل بالإصلاح قليلا أو كثيرا؛ بينا الثورة تسير إلى الأمام سابقة لتنصب على محجة المستقبل أعلاما. ولما كانت الجرائم لا تقترف إلا ضد الملك ورأس المال (؟) فبإلغاء العلة تلغى النتيجة. والأخلاق الفوضوية تجعل الناس أذكياء أحرارا صالحين عادلين (؟) وإذا بقي هناك أشرار يميلون إلى الأذى، فالطب يصدقك الخبر وهو القائل إنهم مرضى ومجانين. فبدلا من العقوبة والسجن عالجهم بالمؤاساة والإخاء، ودع الجميع في راحة واستقلال يرتفعون إلى آفاق معنوية مجهولة.
وهكذا تطور ذلك التمرد الذي كان عند روسو حنقا على الشرائع، وعند ماركس سخطا على رأس المال لا على أهله، فانقلب عند باكونين هتافا بالحرية الطليقة مع كره للفتك، وبدا عند كروبتين إدراكا لطبيعة الثأر دون أن يحكم له أو عليه، إلى أن قرر المؤتمر الفوضوي المنعقد في لندن سنة 81 شرعية كل وسيلة لإبادة النظام الحالي واغتيال أئمته. ويقال إن صحيفة «الحرية» في أمريكا كانت ترشد الخدم إلى كيفية تسميم مواليهم حتى عن طريق الأحذية!
على أن الفوضوية كجميع الميول البشرية تصطبغ بصبغة الشعب الذي يقبلها؛ فبينا هي حادة لجوجة في تشيكوسلافيا - مثلا - وإيطاليا وإسبانيا، إذا بها هادئة مسالمة في أسوج ونروج والدانمارك. ومع أن في لندن جماعة فوضوية صغيرة كانت تصدر منذ أعوام صحيفة «الفوضوي» الأسبوعية، ومع أن إنجلترا وسويسرا ما فتئتا كعبة الفوضويين الأجانب ينشئون فيهما الأندية، وينشرون الصحف بلغات متعددة لبث الدعوة في أوطانهم؛ فإنهما لم تقاسيا من هذا المذهب ما قاسته الدول الأخرى؛ ذلك لأن طباع أهليهما باردة عملية تنزع خصوصا إلى الإصلاح الاقتصادي. وليس الشيوعيون في إنجلترا بالفوضويين. والمظاهرات التي جرت هناك منذ شهور ناتجة عن كثرة العمال العاطلين الذين وفر عددهم وتفاقم خطرهم في أكثر الممالك الكبرى. أما الفتن والاعتصابات فمتعلقة بالمسائل الاشتراكية، أو راجعة إلى أسباب محلية خاصة. غير أن الفوضوية تتفق وطبيعة العامل الأمريكي؛ لذلك شاعت بين أولئك القوم، واشترك أعضاؤها في عقد المؤتمرات وتهيئة الاعتصابات الفرعية تمهيدا للإضراب العام الشامل. •••
Bog aan la aqoon