Murur Fi Ard Hana
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
Noocyada
ولما أوقفوه أمام المأمور انتهره هذا بقوله: إني سأزيد بقصاصك أيها الوقح لمخالفتك النظام، ولتطاولك علي بالكلام، ولعصيانك الجنود، ولما سببته من الشغب، وخرق حرمة النظام، هل تظن أنك تقدر على استعمال وظيفتك في هذه الدنيا كما كنت تستعملها على الأرض «طويلة على دقنك»؟ فأجابه المحامي: إن الحرية المعطاة لنا من لدن الخالق تخولنا أن نطالب بحقوقنا أينما كنا، ومهما كنت مستبدا فلا تقوى على إسكاتنا والضغط علينا، أنت ظالم أيها المأمور، أنت غشوم.
فتأثر المأمور لهذه الإهانة، وصاح: كتفوه أيها الجنود، واضربوه «بنبوت الغفير» خمس ضربات. فصرخ المحامي ورفس الأرض وقال: إن الضرب للبهائم، لا «للأوادم»، احذر من أن تنفذ هذا القصاص علي؛ لأنه مخالف للشريعة، هل تظن أنك تقدر على أن تسوق الكل بعصا واحدة، ألا تعلم أن المحامين - ولو كانوا بعض الأحيان يستعملون الحيل والمواربة - هم دعامة الأمة ورجالها العظام؟! انظر إلى كل الحكام والوزراء والقضاة في العالم، فإنهم كلهم كانوا محامين، تيقظ جيدا فإن البند الماية والسابع والأربعين من القانون يجعل لي الحق بتمييز دعواي، والقساوة التي استعملتها نحو الأنفس قد هيجت في القلوب نار الثورة، التي ربما لا يتمكن أحد من إخمادها إلا بعد أن تسيل الدماء أنهارا.
فالتفت المأمور إلى الجنود وهو متهيج بالغضب، وقال: انزلوا عليه بنبابيت السنديان القاسية. فسقطوا عليه حالا وهو يصرخ: فليمت الاستبداد، فليسقط المأمور، ولتعش «الأبوكاتية».
وفيما هم على هذه الحالة، إذ سمع صراخ وصياح في الداخل، ثم تعاظم كثيرا، وكنت أسمع هذه التقاطيع: فليمت المأمور، فليسقط الظلم والظالمون. حينئذ أقبل أحد الجنود يرتجف خوفا وهو يقول: ثورة يا سيدي المأمور في الداخل، قد أصلوا نارها «الأبوكاتية» انتقاما لرصيفهم الذي أمرت بضربه، قد هيجوا الأنفس كلها بما ألقوه من الخطب الحماسية ضدك، والحالة حرجة جدا، فأسرع لتدارك الأمر قبل استفحاله.
فوقف المأمور مذعورا، وأمر بالنفير، فاجتمع الجنود من كل جهة، ولما وجد أن الحالة زادت خطارة أعلن الحكم العرفي، وقال: ويل للمحامين، ويل للمنافقين ... أما كفاهم قلة دين وتلاعب بحقوق البشر على الأرض حتى اتصل بهم الأمر إلى إقلاق الراحة، وتهييج الأنفس في هذه الدنيا أيضا، إنني «سأربي القمل في رءوسهم».
ولم يمض إلا القليل من الوقت حتى اشتبك الجنود مع الثائرين، وعلت الضوضاء، وتواترت الطلقات النارية، وصار الجنود يلقون القبض على كل من يرونه أمامهم، فوقعت الرعبة في القلوب، وتعاظم الخطب، وانقطع التواصل بين الأنفس. •••
فأسرع حنوش ومسكني بيدي وقال: اتبعني بعجل حتى لا تصاب بمكروه؛ لأن الحالة حرجة، والأحكام العرفية شديدة الوطأة. فذهب بي إلى مكان ساد فيه السكوت، فشعرت بانشراح بعد تلك الشدة، ثم قال لي: أنت الآن يا أبا الأجران مشرف على طريق السعادة، وسترى أجواق الصديقين صاعدة فوق هذه السحب البيضاء الجميلة إلى العلى، حيث السعادة الدائمة، فإني سأتركك برهة وأعود إلى المكان الذي كنا فيه لأرى ماذا جرى بأمر الثورة.
فقلت له: إياك تهملني يا صديقي حنوش، فإني أخشى أن تذهب وتتركني قبل أن أحاكم. فقال: هذا لا يمكن، فإني سأعود إليك قبل أن أذهب إلى أرضكم لجلب الأرواح. فقلت له: أيها الصديق الذي ليس في صداقته غش، إذا كلفتك بغرض ما هل تتمه لي؟ أود أن أبعث معك رسالة إلى صديق لي على الأرض اسمه فنيانوس، وأظنك ما نسيته، فإنه ذلك الشاب الذي كان يبكي ويتفجع ساعة موتي، وقد وعدته بأن أطلعه على بعض ما يحدث لي في هذه الدنيا، والآن أحب أن أكتب ما شاهدته، فهل لك أن تفعل معي هذا الجميل وتنقل إليه رسالتي.
قال: إن طلبك هذا صعب المنال يا أبا الأجران؛ لأن المراقبة شديدة على الملائكة الذين يذهبون إلى أرضكم، فكم من الناس غيرك حاولوا إرسال بعض الأخبار عن هذه الدنيا إلى تلك الديار ولم يفلحوا، ولكن ... ولكن اكتب أنت الآن ما تريد أن تكتبه، وبعد عودتي ننظر في الأمر، لعلنا نهتدي إلى طريقة تكون سليمة العاقبة.
بعد هذا ذهب حنوش وبقيت وحدي في ذلك المكان الجميل، الذي لم تر عيني أبهج منه، فأخذت أكتب وقد جادت قريحتي، وصار فكري يسبق قلمي بسرد الحوادث وتبيانها، وبقيت مجدا في التحرير إلى أن سردت كل ما جرى لي، وما رأيته من اليوم الذي فارقتك فيه إلى الآن، وفيما أنا أكتب كنت أسمع أصوات الصاعدين إلى العلى من الناحية اليمنى، يرتلون ويترنمون بالتسابيح المطربة الشجية، وقد حجبت عن ناظري الغيوم البيضاء رؤية هؤلاء الصديقين السائرين مع السحب نحو السعادة، وهذه الأنغام الرقيقة المنعشة للنفس كانت كأصوات الأجراس التي تقرع في ليلة ذات أرياح، فتارة تقوى وتارة تضعف تبعا لسير الرياح، وتترك في الفضاء الواسع صدى حفيفا لتلك الأصوات الجميلة.
Bog aan la aqoon