283

Murug al-dahab wa-maʿadin al-gawhar

مروج الذهب ومعادن الجوهر

وقد كان عمر آنس عمرا بعد ذلك، وأقبل يسأله ويذاكره الحروب وأخبارها في الجاهلية، فقال له عمر: يا عمرو، هل انصرفت عن فارس قط في الجاهلية هيبة له؛ قال: نعم، والله ما كنت أستحل الكذب في الجاهلية فكيف أستحله في الإسلام؟ لأحدثنك حديثا لم أحدث به أحدا قبلك، خرجت في جريدة خيل لبني زبيد أريد الغارة، فأتينا قوما سراة؟ فقال عمر: وكيف عرفت أنهم سراة؛ قال: رأيت مزاود وقدورا مكفأة وقباب حمرا ونعما كثيرا وشاء، قال عمرو: فأهويت إلى أعظمها قبة بعدما حوينا السبي، وكان متبددا من البيوت، وإذا امرأة بادية الجمال على فرش لها، فلما نظرت إلي وإلى الخيل استعبرت، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: والله ما أبكي على نفسى، ولكني أبكي حسدا لبنات عمي يسلمن وأبتلي أنا من بينهن، فظننت والله أنها صادقة، فقلت لها: وأين هن؛ قالت: في هذا الوادي، فقلت لأصحابي: لا تحدثوا شيئا حتى آتيكم، ثم همزت فرسي حتى علوت كثيبا، فإذا أنا بغلام أصهب الشعر أهذب أقنى أقب يخصف نعاله وسيفه بين يديه وفرسه عنده، فلما نظر إلي رمى النعل من يده ثم أحضر غير مكترث، فأخذ سلاحه وأشرف على ثنية، فلما نظر إلى الخيل محيطة ببيته ركب ثم أقبل نحوي وهو يقول:

أقول لما منحتني فاها ... وألبستني بكرة رداها

إني سأحوي اليوم من حواها ... فليت شعري اليوم من دهاها

فحملت عليه وأنا أقول:

عمرو على طول الردى دهاها ... بالخيل يبقيها على وجاها

حتى إذا حل بها حواها

ثم حملمت عليه بالفرس فإذا هو أروغ من هر، فراغ عني، ثم حمل علي فضربني بسيفه ضربة جرحتني، فلما أفقت من ضربته حملت عليه، فراغ والله، ثم حمل علي، تها صرعني، ثم استاق ما في أيدينا، ثم استويت على فرسي، فلما رأني أقبل وهو يقول:

أنا عبيد الله محمود الشيم ... وخير من يمشي بساق وقدم

عدوه يفديه من كل السقم

فحملت عليه وأنا أقول:

أنا ابن في التقليد في الشهر الأصم ... أنا ابن في الإكليل قتال البهم

من يلقني يودي كما أودت أرم ... أتركه لحما على ظهر وضم

فراغ والله عني، ثم حمل علي فضربني ضربة أخرى، ثم صرخة صرخة، ورأيت الموت والله يا أمير المؤمنين ليس دونه شيء، وخفته خوفا لم أخف قط أحدا مثله، وقلت له: من أنت ثكلتك أمك؟؟ فو الله ما أجترأ علي أحد قط إلا عامر بن الطفيل لإعجابه بنفسه، وعمرو بن كلثوم لسنه وتجربته فمن أنت؟ قال: بل من أنت؟ خبرني وإلا قتلتك، قلت: أنا عمرو بن معد يكرب، قال: وأنا ربيعه بن مكدم، قلت: أختر مني إحدى ثلاث خصال: إن شئت اجتلدنا بسيفينا حتى يموت الأعجز منا، وإن شئت اصطرعنا، وإن شئت السلم، وأنت يا ابن أخي حدث وبقومك إليك حاجة، قال: بل هي إليك، فاختر لنفسك، واخترت السلم، ثم قال انزل عن فرسك، قلت: يا ابن أخي قد جرحتني جراحتين ولا نزول لي فوالله ما كف عني حتى نزلت عن فرسي، فأخذ بعنانه، ثم أخذ بيدي في يده وانصرفنا إلى الحي وأنا أجرر رجلي، حتى طلعت علينا الخيل فلما رأوني همزوا خيولهم إلي فناديتهم: إليكم وأرادوا ربيعه، فمضى والله كأنه ليث حتى شقهم، ثم أقبل علي فقال: يا عمرو، لعل أصحابك يريدون غير الذي تريد، فصمت والله القوم ما فيهم أحد ينطق، وأعظم ما رأوا منه، فقلت: يا ربيعه بن مكدم لا يريدون إلا خيرا، وإنما سمت ليعرفه القوم، فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: وما تريد؟ قد جرحت فارس العرب، وأخذت سيفه وفرسه، ومضى ومضينا معه، حتى نزل، فقامت إليه صاحبته وهي ضاحكة تمسح وجهه، ثم أمر بإبل فنحرت، وضربت علينا قباب، فلما أمسينا جاءت الرعاء ومعهم أفراس لربيعه لم أرى مثلها قط فلما رأى نظري إليها قال: كيف ترى هذه الخيول؟ قلت: لم أرى مثلها قط، قال: أما لو كان عندي بعضها ما لبثت في الدنيا إلا قليلأ، فضحكت وما ينطق أحد من أصحابي، فأقمنا عنده يومين ثم انصرفنا.

عمرو بن معد يكرب يغير على بني كنانة

Bogga 303