274

Murug al-dahab wa-maʿadin al-gawhar

مروج الذهب ومعادن الجوهر

وذكر الواقدي في كتابه في فتوح الأمصار أن عمر قام في المسجد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم دعاهم إلى الجهاد وحثهم عليه وقال: إنكم قد أصبحتم في غير دار مقام بالحجاز، وقد وعدكم النبي صلى الله عليه وسلم فتح بلاد كسرى وقيصر؛ فسيروا إلى أرض فارس، فقام أبو عبيد فقال: يا أمير المؤمنين أنا أول من انتدب من الناس، فلما انتدب أبو عبيد انتدب الناس، وقيل لعمر: أمر على الناس رجلا من المهاجرين أو الأنصار؟ فقال: لا أومر عليهم إلا أول من انتدب فأمر أبا عبيد، وفي حديث آخر أنه قيل له: أتؤمر رجلا من ثقيف على المهاجرين والأنصار؛ فقال: كان أول من انتدب فوليته، وقد أمرته أن لا يقطع أمرا دون مسلمة بن أسلم بن حريش وسليط بن قيس، وأعلمته أنهما من أهل بدر، وخرج فلقي جمعا من العجم عليهم رجل يقال له جالينوس، فانهزم، وسار أبو عبيد حتى عبر الفرات، وعقد له بعض الدهاقين جسرا، فلما خلف الفرات وراءه أمر بقطع الجسر، فقال له مسلمة بن أسلم: أيها الرجل، إنه ليس لك علم بما نرى، وأنت تخالفنا، وسوف يهلك من معك من المسلمين بسوء سياستك، تأمر بجسر قد عقد أن يقطع فلا يجد المسلمون ملجأ من هذه الصحاري والبراري فلا تريد إلا أن تهلكهم في هذه القطعة فقال: أيها الرجل، تقدم فقاتل فقد حم ما ترى، وقال سليط: إن العرب لم تلق مثل جمع فارس قط، ولا كان لهم بقتالهم عادة، فاجعل لهم ملجأ ومرجعا من هزيمة إن كانت، فقال: والله لا فعلت جبنت يا سليط، فقال سليط: والله ما جبنت، وأنا أجرأ منك نفسا وقبيلا، ولكن والله أشرت بالرأي، فلما قطع أبو عبيد الجسر والتحم الناس واشتد القتال نظرت العرب إلى الفيلة عليها التجافيف فرأوا شيئأ لم يروا مثله قط، فانهزم الناس جميعا، ثم مات في الفرات أكثر ممن قتل بالسيف، وخالف أبو عبيد سليطا، وقد كان عمر أوصاه أن يستشيره ولا يخالفه، وكان رأى سليط أن لا يعبر حتى يعبروا إليه ، ولا يقطع الجسر، فخالفه، وقال سليط في بعض قوله: لولا أني أكره خلاف الطاعة لانحزت بالناس، ولكني أسمع وأطيع، وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك، فقال له أبو عبيد: تقدم أيها الرجل، فقال: أفعل، فتقدما فقتلا جميعا، وقد كان أبو عبيد في هذا اليوم ترجل، وقد قتل من الفرس نحو ستة آلاف، فدنا من الفيل ورمحه في يده فطعنه في عينه، فخبط الفيل أبا عبيد بيده؛ وجال الناس، وتراجعت رجال فارس، فأخذ الناس السيف لما قتل أبو عبيد، وبادر رجل من بكر بن وائل والمثنى بن حارثة فحمي الناس حتى عقدوا الجسر فعبروا ومعهم المثنى حارثة، وقد فقد من الناس أربعة آلاف غرقا وقتلا، وكان على جيش فارس في هذا اليوم جاذويه، ومعه راية فارس التي كانت لأفريدون، حتى ثار الناس من الوهاد، وهي المعروفة بدرفش كاويان وكانت من جلود النمور طولها اثنا عشر ذراعا في عرض ثمانية أفرع على خشب طوال موصل، وكانت فارس تتيمن بها وتظهرها في الأمر الشديد، وقد قدمنا الخبر عن هذه الراية في أخبار الفرس الأولى فيما سلف من هذا الكتاب. ولما قتل أبو عبيد الثقفي بالجسر شق ذلك على عمرو وعلى المسلمين، فخطب عمر الناس وحثهم على الجهاد، وأمرهم بالتأهب لأرض العراق، وعسكر عمر بصرار وهو يريد الشخوص، وقد استعمل على مقدمته طلحة بن عبيد الله، وعلى ميمنته الزبير بن العوام، وعلى ميسرته عبد الرحمن بن عوف، ودعا الناس، فاستشارهم فأشاروا عليه بالمسير، ثم قال لعلي: ما ترى يا أبا الحسن، أسير أم أبعث؟ قال: سر بنفسك فإنه أهيب للعدو وأرهب له، فخرج من عنده، فدعا العباس في جلة من مشيخة قريش وشاورهم، فقالوا: أقم وابعث غيرك ليكون للمسلمين إن انهزموا فئة، وخرجوا، فدخل إليه عبد الرحمن بن عوف، فاستشاره، فقال عبد الرحمن: فديت بأبي وامي، أقم وابعث؛فإنه إن انهزم جيشك فليس ذلك كهزيمتك، وإنك إن تهزم أو تقتل يكفر المسلمون ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدا، قال: أشر علي من أبعث؟ قال: قلت: سعد بن أبي وقاص، قال عمر: أعلم أن سعدا رجل شجاع، ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب، قال عبد الرحمن: هو على ما تصف من الشجاعة، وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد بدرا فاعهد إليه وشاورنا فيما أردت أن تحدث إليه؛ فإنه لن يخالف أمرك، ثم خرج فدخل عثمان عليه، فقال له: يا أبا عبد الله أشر علي أسير أم أقيم؟ فقال عثمان: أقم يا أمير المؤمنين وابعث بالجيوش، فإنه لا آمن إن أتى عليك آت أن ترجع العرب عن الإسلام، ولكن ابعث الجيوش وداركها بعضها على بعض، وأبعث رجل له تجربة بالحرب وبصر بها، قال عمر: ومن هو؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: فالقه وكلمه وذاكره ذلك، فهل تراه مسرعا إليه أو لا، فخرج عثمان فلقي عليا فذاكره ذلك، فأبى علي ذلك وكرهه، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: ومن ترى؟ قال: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: قال: ليس بصاحب ذلك، قال عثمان: طلحة بن عبيد الله، قال له عمر: أين أنت من رجل شجاع ضروب بالسيف رام بالنبل، ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب؟ قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال عثمان: هو صاحب ذاك؛ولكنه رجل غائب وما منعني من ذكره إلا أني قلت: رجل غائب في عمل، فقال عمر: أرى أن أوجهه، وأكتب إليه أن يسير من وجهه ذلك، فقال عثمان: ومره فليشاور قوما من أهل التجربة والبصر بالحرب، ولا يقطع الأمور حتى يشاورهم، ففعل عمر ذلك وكتب إلى سعد بالتوجه نحو العراق.

وقد كان جرير بن عبد الله البجلي قدم على عمر - وقد اجتمعت إليه بجيلة - فسرحهم نحو العراق، وجعل لهم ربع ما ظهروا عليه من السواد، وساهمهم مع المسلمين، وخرج عمر فشيعهم، ولحق جرير بناحية الأبله ثم صاعد إلى ناحية المدائن، ونمى قدوم جرير إلى مرزبان المدائن وكان في عشرة الاف من فارس من الأساورة، وذلك بعد يوم الجسر ومقتل أبي عبيد وسليط، فقال بجيلة لجرير: أعبر الدجلة إلى المدائن، فقال جرير: ليس ذلك بالرأي، وقد مضى لكم في ذلك عبرة بمن قتل من إخوانكم يوم الجسر، ولكن أمه لوا القوم؛فإن جمعهم كثير حتى يعبروا إليكم، فإن فعلوا فهؤ الظفر إن شاء الله تعالى، فأقامت الفرس أياما بالمدائن، ثم أخذوا في العبور، فلما عبر منهم النصف أو نحوه حمل عليهم جرير فيمن تسرع معه من بجيلة، فثبتوا ساعة، فقتل المرزبان وأخذهم السيف، وغرق أكثرهم في دجلة، وأخذ المسلمون ما كان في عسكرهم، وسار جرير فاجتمع مع المثنى بن حارثة الشيباني بالبجلة، فأقبل إليهما مهران في جيوشه، فامتنع المسلمون من العبور إليهم، فعبر مهران وبغى على المسلمين، فالتقوا وصبر الفريقان جميعا حتى قتل مهران قتله جرير بن عبد الله البجلي وحسان بن المنزر بن ضرار الضبي، ضربه البجلي، وطعنه الضبي، وفاز جرير بمنطقته وسلبه وتنازع جرير وحسان في أيهما القاتل لمهران، وقد كان جرير ضربه بعد أن طعنه حسان، ولحسان في ذلك أبيات:

ألم ترني خالست مهران نفسه ... بأسمر فيه كالخلال طريد

فخر صريعا والتقاني برجله ... وبادر في رأس الهمام جرير

فقال: قتيلي، والحوادث جمة، ... وكاد جرير للسرور يطير

Bogga 294