عاد جيمي إلى داخل المنزل وجلس من فوره على أول مقعد رآه. حاول أن يفكر تفكيرا بناء ومنطقيا وإنسانيا. إنها لتجربة غير متوقعة، تجربة مباغتة، تجربة مؤسفة، لم يحسب لها حسابا في مغامرته. لكنها وقعت، ولم يستطع جيمي أن يعرف السبب على وجه التحديد.
وأخيرا قال: «أعتقد أن الخالق كان يعلم حين خلق الأشجار والثمار والبذور فيما سيستخدمها. لم يكن يقصد بها أن توجد دون هدف، وعلى الأرجح فإن الخالق حين خلق الناس كان هدفه أن يستخدمهم. وقد جاء جيمي الصغير بيد رائعة إلى العالم. قد تصبح يدا مفيدة بقدر ما هي يد جميلة. وربما إذا تدربت هذه اليد بعناية، فستجد في العالم عملا تستطيع القيام به أفضل من أي يد أخرى خلقت يوما. فمن حين إلى آخر تأتي فعلا إلى العالم يد تستطيع أن تؤدي عملا ما أفضل قليلا، أحسن بقدر طفيف، من أي يد أخرى فعلته على الإطلاق. ثمة شيء واحد مؤكد تماما في هذه التجربة. وهو أن هذا الطفل لن تلحق به أي وصمة عار ما دمت حيا ولي فؤاد ينبض. سوف يحصل على فرصته، أيا من كانت أمه. أما تلك الأم المسكينة، بتلك الضحكة غير المتوقعة والعجيبة على شفتيها، وهي تعبر للعالم الآخر لتقابل خالقها ...» وقبل أن يعلم ما هو فاعل، هبط جيمي إلى الأرض، وجثا على ركبتيه. وضم يديه، ورفع وجهه، وجعل يتضرع: «يا إلهي! يا ربنا العظيم، يا خالق الكون والرجال والنساء وكل ما في هذا العالم؛ رباه، أنزل رحمتك، أنزل رحمتك على الفتاة التي توفيتها هذا الصباح! ومهما كانت زلتها، ومهما كانت خطيئتها، تذكر معاناتها والثمن الذي دفعته وارحمها! أغدق عليها من عطفك، وتقبلها في ملكوتك الأزلي حيث الأمان وطهارة البدن ونقاء السريرة، تقبلها مع أبي وأمي وكل الملائكة الأبرار، وعلمها أن ثمة طريقا أفضل من الطريق الذي اختارته. ارحمها، يا رباه!»
متعثرا، نهض جيمي وذهب إلى غرفة النوم. فجلس على جانب الفراش ووضع يديه على وجهه وبكى حتى اهتز جسده الهزيل، بكى بكاء غزيرا. وبعد وقت طويل، حين هدأت عاصفته، مسح عينيه واكتشف، حين بلغ الرواق الخلفي، أنه جائع. فذهب إلى مطبخ مارجريت كاميرون ودخل من خلال النافذة الخلفية. وعبأ في السلة التي تستخدمها كل ما استطاع العثور عليه مما سيفسد في غيابها وحمله معه للمنزل. بعد ذلك، أقدم لأول مرة على محاولة أن يطهو طعاما لنفسه. كان يعلم أين يمكنه ركوب الترام والعثور على مقهى صغير غير بعيد، لكنه لم يكن في حالة مزاجية لمقابلة الرجال. ولم يكن في حالة مزاجية تسمح بمواجهة نساء. فقد أراد أن يفكر. تساءل أين سيدفن ما تبقى من أليس لويز. تساءل إن كان سينصب شاهد صغير فوقها وإن كان اسمه سينقش عليه. وتساءل إن كان سيكتب عليه: «زوجة جيمس لويس ماكفارلين الحبيبة.»
ثم تساءل ماذا عساه كان اسم أم الطفل، وخطر له أنه لديه طريقة لمعرفته. بإمكانه في أول زيارة للمدينة أن يذهب إلى مكتب أذون الزواج ويطلب رؤية بعض السجلات بأي حجة قد يأتي بها بحلول ذلك الوقت. سيستطيع أن يكتشف الاسم الذي كتبته فتاة العاصفة ليتناسب مع أليس لويز. لم يتفحص جيمي من قبل في حياته عقد زواج. والعقد الذي كان يعنيه كتبه الموظف، وكشف لجيمي عن سطر ليوقع عليه، ثم وقعت فتاة العاصفة باسمها واستحوذت على الورقة على الفور.
حين وصلت أفكاره إلى فتاة العاصفة أصبحت في فوضى على الفور. ولم يتح له الوقت حتى تلك اللحظة ليتبين بتعقل السبب على وجه التحديد. سيطر عليه شعور بأنه قد خدع، وبأنه كان في غاية الحماقة، بيد أنه يعلم أن ذلك الشعور لم يكن منصفا. فالفتاة لم تطلب منه أي شيء. كان هو من جعل يتوسل بالذرائع جهد طاقته قبل أن تحكي له في كلمات قليلة مقتضبة ما الذي تحتاج إليه بالضبط. لكن ما جعل جيمي يشعر بالاستياء أنها لم تكن أمينة. فهي لم تقل الحقيقة. قالت ما كانت بحاجة إليه؛ لقد تركته يشعر أن الخدمة التي قدمها وقبلت بها كانت من أجلها.
وما علمه هذا الصباح أثبت أنها لم تستغله لخدمة أغراضها، ولكن لأغراض امرأة أخرى. أدرك جيمي أنه كان سيفعل ما تريده. في تلك العاصفة، مواجها نهايته في وقت قريب جدا، إذ كان يشعر آنذاك أنه سيواجهها، كان سيعطي أي فتاة يتصادف أن تبدو له في محنة حق الاستفادة من اسمه وما يمكنه تقديمه لحمايتها. لم يكن سيشكل أي فرق من تكون الفتاة ما دامت في ضيق شديد. كل ما في الأمر أنه قد ذهب إلى المستشفى وهرع إلى الحجرة متوقعا أن يجثو بجانب فراش فتاة العاصفة، وأن يأخذ يدها في يده ويقاوم من أجل حياتها في معركة أحس نوعا ما بالثقة من الانتصار فيها. لكنه حين رأى وجها غريبا كانت صدمته شديدة حتى إنه جلس في خضوع وامتثل لما قال الطبيب والممرضة إنه لا مفر منه، من دون حتى أن يبدأ المعركة التي كان ينوي شنها من أجل المرأة التي اعتقد أنه سيراها.
لقد انهزم. وضاعت من يديه مرة أخرى، وكان هذه المرة غاضبا، مغتاظا بحق. لم يتح له سوى وقت قصير للتفكير، وخلال ذلك الوقت ظل يردد لنفسه: «إنها لم تكن أمينة!» ومن وجهة نظر جيمي كانت تلك أسوأ خطيئة يمكن لأحد أن يرتكبها على الإطلاق. وخلال الشهور التي تعامل فيها مع الكشافة الصغير إنما اشتدت مشاعره في ذلك الصدد. فقد كان الكشافة الصغير شديد الاهتمام بالأمانة مثله، وكان في غاية الحرص في كل نشاط يمارسه. تذكر جيمي بشيء من التفكه وشعور بالكبرياء أنه حين استفسر عن جنسه بسؤال مباشر، رد بإجابة ليست بالكذب ولا بالمراوغة، وإنما إجابة مباشرة: «ما دمت لا تستطيع أن تعرف، فهل ثمة فرق؟» كان ذلك موقفا أمينا. فقد ترك المجال مفتوحا. كان ذلك الأسلوب الذي يروق لجيمي.
قبل أن يذهب إلى الفراش اتصل بالسيدة ميريديث. كان الطفل على ما يرام. لم يكن مزعجا. قال الصوت الذي حسبه جيمي أعذب الأصوات التي سمعها يوما على الهاتف إنه قد دهن بالزيت وأطعم ووضع في لفة مستدفئا، وإن الكشافة الصغير هو من قام بالمهمة. «لا يحظى أحد منا بأي وقت مع جيمي الصغير الجديد. فإن الكشافة الصغير قد استحوذ عليه وتولى أموره. أعتقد أنك ستحتاج إلى مساعدة كبيرة في رعاية النحل قبل أن يأتيك خلال الأيام القليلة المقبلة. يبدو أن لديه شعورا بالمسئولية لا أحد منا يفهمه. أعتقد أن الأمر برمته قد يكون جزءا من شعوره بالفخر النابع عن الامتلاك، امتلاك فدان من الأرض وصف من قفائر النحل وبستان وحديقة بديعة المنظر. حتى إنني لاحظت أن الكشافة الصغير يقول بزهو: «طفلنا»!»
حين عاد إلى غرفة نومه، كان جيمي لا يزال يفكر.
وقال لنفسه: «حسنا، مهما يكن من أمر، فإن «طفلنا» لا يشوبه العار. فلديه اسم مشرف تماما في السجلات، وسوف يحصل على فرصة عادلة تماما، أما فتاة العاصفة فلا تهمني البتة! فقد فرغت من أمرها!»
Bog aan la aqoon