أما جيمي، فقد كان محتارا حقا. صحيح تماما أنه ولد في هذا البلد، وبدأ تعليمه في مدارسنا الحكومية وأتمه في واحدة من أفضل كلياتنا. وصحيح أنه انتمى لبلدنا بالميلاد والنشأة. لكن صحيح أيضا أن الدماء التي في عروقه كانت دماء رجل وامرأة ولدا هما الاثنان في اسكتلندا وترعرعا فيها، وأن عادات وسمات الاسكتلنديين كانت الغالبة عليه. كان كل الاسكتلنديين الذين تعامل معهم من قبل قد ورثوا ما لديهم من ذويهم، أو اكتسبوه بالعمل الشاق. ولم يكن جيمي معتادا على الهبات. فهو لا يذكر على الإطلاق أن أي أحد قد منحه أي شيء يذكر. فلماذا إذن، فجأة ومن دون سابق إنذار، قد يقدم له فدان مغطى بالفاكهة، ومفروش بالزهور المتألقة، ويعج بالنحل الذي يؤدي عمله موفرا له الدخل الذي سيعيش عليه؟ ربما شعر جيمي في باطنه أن حكومته كانت مدينة له بشيء؛ لكن لم يكن ذلك شعوره حيال سيد النحل.
قال جيمي صراحة للدكتور جرايسون، ولوالد الكشافة الصغير، ولقاضي محكمة الوصايا، إنه لا يشعر بأن له أي حق في الحصول على نصف حديقة النحل. ووافق تحت ضغط على تولي مسئولية رعايتها مؤقتا، لكنه قال بحزم إنه في حال ظهور أي قريب من أقارب سيد النحل ومطالبته بالأرض، فإنه سيتنازل عنها في الحال. وقد انتقده على ذلك صراحة ثلاثة من الرجال الخبراء شديدي الحنكة. إذ أشار الدكتور جرايسون إلى أن سيد النحل كان أدرى بمن لديه من أقارب وأين كانوا، ولو أنه أراد حصولهم على أملاكه لتركها لهم. كان من رأي الطبيب أن سيد النحل أراد أن يقيم في الحديقة الزرقاء رجل راقي الحس، ذو عقل خبير، قدراته وتقديره للأشياء ممتازة، رجل مهتم بالألوان والموسيقى ومظاهر البهاء والجمال الصغيرة التي تتضافر لتعطي الحياة مباهجها الصافية.
وقال السيد ميريديث إن معرفته بسيد النحل كانت سطحية، لكنه أدرك أنه كان سيدا نبيلا رفيع الثقافة، وحاسم القرارات، وذا ذهن صاف للغاية، وأن ما رآه مناسبا ليفعله بأملاكه كان مما يوافقه تماما. أما قاضي محكمة الوصايا فقال إن القانون قانون. إذ إن أوراق الملكية واضحة، وقد مثل المستفيدان أمامه؛ إذن فالعمل الوحيد الواجب عليه فعله هو اتباع الإجراءات القانونية المعتادة. وسواء أراد جيمي أو لم يرد، لقد أصبح الفدان الشرقي من الحديقة ملكا له. أصبح هو والمنزل في حيازة جيمس لويس ماكفارلين. ويتعين عليه أن يتولى مسئولية المالك، ويدفع حصته من ضرائب التركات، ويصبح مستعدا لضرائب الملكية التي ستقيم وفقا للإجراءات القانونية المعتادة.
وهكذا عاد جيمي إلى الحديقة، وقد اشتعل رأسه حيرة. كان أمامه الكثير من أعمال الرش، ومن ثم يمكنه التفكير أثناء قيامه بها. كما يمكنه التساؤل حول أسباب ما جرى بينما يقلم الشجيرات ويستخدم المجرفة. لكنه حين جاء لرعاية النحل، منحه انتباهه كاملا. لكن بعد أن انتهى من كل الأعمال التي يقوم بها يوميا في الحديقة، موليا ربما اهتماما أكثر قليلا للجزء الغربي لمجرد أن هذه هي أخلاق جيمي، انشغل بتطبيق نظام الغذاء والتمارين الذي وضعه هو ومارجريت كاميرون. وخلال ساعات المساء الممتدة، يظل ساعات منكبا على كتب النحل، ثم يخرج في ساعات النهار ويحاول تطبيق ما تعلمه في تجاربه الشخصية.
لم يكن مسيطرا على ذهنه في تلك الأيام. كان يحلق به في آفاق عجيبة، فإذا به يجد نفسه وقد نشأت لديه عادة، وهي أن يأخذ كتابا متى يتاح له وقت فراغ، وتحت ظلال شجرة برتقال بعينها عند نهاية الحديقة، يظل يقرأ تارة ويراقب الشاطئ تارة. كان لديه شعور أنه ذات يوم، عاجلا أو آجلا، ستأتي فتاة طويلة تمشي بخطوات واسعة مثل الصبية، فتقطع الشاطئ وتتسلق المدخل الخلفي للعرش، وقد أراد جيمي أن يكون موجودا ليشاهدها حين يحدث ذلك. كان الخطاب الذي في جيبه بحالته نفسها بالضبط منذ قرأه أول مرة، وقد قرأه مرات لا تحصى منذ ذلك الحين وتأمل كل حرف بكل تفاصيله. كان باستطاعته أن يجد انسجاما بين الخطاب والفتاة التي ضمها بين ذراعيه، والسيدة التي وقفت ملاصقة له لتتلقى عهود الزواج. لكنه لم يستطع أن يجد انسجاما بين أي من هذين الشخصين والفتاة التي عقدت أمورها الشخصية لدرجة جعلتها في حاجة ماسة إلى علامات ودلالات خارجية على عفتها.
وكان كلما أطال التفكير في الموقف، ازداد ذهنه تصديقا على الأقل للاعتقاد بأن فتاة الوديان والجبال والصحراء، الفتاة التي تعبق على الدوام بعبير المريمية، ذات الخطوات الحذرة، ذات النظرة البعيدة التي تراها في عين الشخص المحب للطبيعة؛ لم تكن لتخضع للإغواءات والإغراءات التي تخضع لها الفتاة التي تحب الحياة في المدن تحت ضغوطها الشديدة. استطاع جيمي أن يرى كيف قد تقع في مشكلة خطيرة أي فتاة تعيش حياتها مأخوذة بنفسها وبالملابس الأنيقة وترتاد في النهار العروض السينمائية بالغة الابتذال والفحش، وترتاد ليلا قاعات الرقص المكتظة عشوائيا بأناس من كل حدب وصوب، بغض النظر عن أوضاعهم في الحياة. استطاع أن يرى كيف أن الاندفاع المجنون بالسيارات من أحد أماكن الترفيه إلى آخر، وتناول الطعام المشبع بالتوابل دون انتظام، وقلة النوم، والتواصل المستمر برجال لم يربوا تربية صارمة على عادات وأعراف ومبادئ الجيل أو الجيلين الماضيين؛ ربما أدى إلى كارثة عند الفتيات اللواتي هن أصغر من أن يدركن أنهن يرهقن أجسادهن أو يعرضن أرواحهن للخطر. وكلما أمعن التفكير، زاد تعجبه من نجاة أي فتاة في تلك الظروف بشرفها أو قدر كاف من العافية تعيش بها عمرا معقولا حتى. لم يكن يدري بالضبط أي فائدة تعود على البيت أو الأمة من فتاة فاقدة الشرف والصحة. لكن الشيء الوحيد الذي كان يعرفه يقينا هو أن أولئك الفتيات كن النوع الذي يريد تجنبه.
وبينما يقف أمام المرآة ليتفحص بإمعان الجانب الأيسر من صدره، وفي يده الضمادة التي انتوى وضعها وربطها في مكانها بعد الفحص، شل جيمي عن الحركة لأول مرة بخاطر لم يجل بخاطره من قبل. لم يدر بالضبط لماذا لم يفكر في ذلك الشيء تحديدا من قبل. وبعد أن فكر فيه بالفعل، بدا له أنه الشيء الذي كان يجب أن يفكر فيه أولا. لكنه لم يفعل.
صحيح أن أي سيد اسكتلندي يضع في أعماق قلبه ربه وبلده وشرفه وأولئك الذين يحبهم فوق أي شيء آخر، لكن طالما كان متأصلا في قلب كل رجل اسكتلندي حب المال، والمكان الذي يستطيع الحصول منه على المال، والسلطة التي يمكنه شراؤها بالمال، والراحة التي سيمنحها له، والرفاهية التي سيوفرها لأحبائه، والاطمئنان لأنه سيتقي ما في العالم من برد وجوع وبؤس. كانت الدفعة الأولى من النقود التي وضعها سيد النحل بين أصابع جيمي قد أثارت في روحه اضطرابا حتى الأعماق. إذ أمسكها بين أصابعه. وظل يحدق فيها غير مصدق. فالحقيقة أنه لم يسبق له قط أن امتلك مالا يخصه لينفقه كيفما يحلو له. فكل ما حازه من نقود من قبل كان ما يعطيه له أبوه وأمه لشراء ملابسه وسداد نفقات دراسته، وكان يرهقهما أشد الإرهاق أن يوفرا الموارد الكافية ليفعل أكثر ما يحتاج إليه من دون توفير أي كماليات. فهو لم يعرف قط كيف هو شعور أن يصبح لديه نقود في جيبه لينفقها كما يريد، فكانت النتيجة أن أول مكاسبه بصفته مربي النحل حفزته للمعركة التي يبدو الآن أنها من الممكن أن تنتهي بانتصاره.
ما زال أمامه بضعة أيام قبل أن تجري مارجريت كاميرون فحصها الثاني. وقد بدت الضمادة التي أزالها جيمي هذا الصباح نقية ونظيفة كما كانت حين وضعها. عصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال بعد الظهر، والاستنقاع في البحر، والاستلقاء على الرمال الساخنة، والهواء النقي الخالي من الغبار والمشبع بالملح، والعمل المسلي، وقضاء النهار كله بالخارج، مع ذهن لديه ما يستغرق فيه من أشياء مقدسة وجميلة، ماذا يأمل أي طبيب لينافس ذلك المزيج، ذلك المعرض لقدرات الطبيعة على الإبراء؟ ربما كانت الضمادة النظيفة التي أزالها، هي الدليل على أن صدره أصبح مكسوا بجلد متين كفاية لتحمل العمل في النهار، والشعور بالهدوء والشبع في معدته، وزوال الحرارة والاضطرام عن دمائه؛ ربما كان مزيج من كل هذه الأشياء هو ما جعل جيمي، وهو واقف يطالع المرآة ذلك الصباح، يعبر عن يقينه المغتبط ويقول: «سوف أنجو! وبقدر اليقين بوجود خالق كريم في السموات، سأصبح رجلا معافى البدن ثانية!»
وهنا بالضبط تلقى جيمي صفعة، صفعة شديدة، صفعة جعلته ينكمش ووجهه يبهت ويداه ترتعشان. وبدا صوته لأذنيه متوترا لأنه قال بصوت عال: «وقد أقسمت بكل المقدسات إنني سأموت! كان جزءا من اتفاقي أن أغادر الحياة خلال ستة أشهر على الأكثر! لقد قلت إنه لا يوجد أمل في بقائي على قيد الحياة، وربما ما كانت الفتاة التي تزوجتني ستقدم على ذلك إن لم تعتقد أنني رجل شبه ميت.»
Bog aan la aqoon