Muqamarat Tarikh Kubra
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Noocyada
إن النظام الرأسمالي يستطيع أن يتحمل دون عناء التسلح ونفقاته الباهظة، بل إن إنتاج السلاح وتطويره وتجديده المستمر من أهم العوامل التي تساعد على استمرار هذا النظام في الحياة وازدهار اقتصاده وتشغيل مصانعه وإيجاد فرص عمل للعاطلين فيه. وأما النظام الاشتراكي فإن التسلح بالنسبة إليه عبء ثقيل يؤثر تأثيرا واضحا في مستوى نموه؛ وذلك لأن السلاح في هذه الحالة لا تنتجه شركة تحقق أرباحا هائلة من بيعه أو تصديره، وإنما تنتجه الدولة التي تخطط اقتصادها بحيث يؤدي التوسع الزائد في أي ميدان إلى التضييق في الميادين الأخرى. وهكذا فإن إنتاج أسلحة باهظة التكاليف، في المجتمع الاشتراكي، لا بد أن تقتطع نفقاته من قوت الناس ومن ملبسهم ومسكنهم وسائر الخدمات التي تقدم إليهم ... إن التطوير المستمر للأسلحة يحدث أولا في البلاد الرأسمالية، والقنبلة الذرية، ثم الهيدروجينية، والطائرات الأسرع من الصوت، كل ذلك بدأت به بلاد رأسمالية ... هذا التطوير المستمر لا يعني فقط مزيدا من الروح العدوانية لدى مبتكريه، بل إنه موجه في الأساس نحو الخصوم، والهدف الأساسي منه - في رأيي - ليس عسكريا فحسب، وإنما هو أيضا أيديولوجي واقتصادي، فقد أصبح التوازن الدولي يحتم على كل من القوتين العظميين أن تلحق بالأخرى في قدراتها العسكرية، وكل تصعيد في مستوى التسلح ونفقاته يعني مزيدا من الإرهاق لاقتصاد المعسكر الشرقي، ويعني اقتطاعا من ضرورات الحياة لدى شعوب هذا المعسكر من أجل هدف أهم: هو أن تكون هذه الدول أو لا تكون ... وكما قلت، فإن الاقتصاد الاشتراكي لم تنشأ فكرته أصلا من أجل عالم تسوده المنافسات العسكرية وصراعات الحياة والموت، بل إن مؤسسيه تصوروا قيام تنافس سلمي بين الرأسمالية والاشتراكية، وبنوا تنبؤاتهم بحتمية انتصار الاشتراكية.
ثم أضفت في موضع آخر من هذا المقال:
استطاع المعسكر الرأسمالي بالفعل أن يوقف مسيرة المعسكر الخصم، بل أن يوسع الهوة المعيشية التي تفصله عنه، وكل من يزور بلدان المعسكر الاشتراكي ويقارنها بالبلاد الرأسمالية المتقدمة، لا بد أن يصدمه الفارق الهائل في مستوى المعيشة بين الجانبين ... هذا القصور لا يرجع إلا إلى الاستنزاف المتعمد الذي يفرضه النظام الرأسمالي على اقتصاد المعسكر الخصم في ميدان التسلح، الذي أصبح الآن باهظ التكاليف، بل إن نقص الاستهلاك الذي يلاحظه الإنسان العادي بسهولة في عالم لم تعد تقوم فيه حواجز بين المجتمعات ذات الأنظمة المختلفة هو المسئول عن عدم الاستقرار وعن تلك الثورات التي تشب من آن لآخر في بلاد المعسكر الاشتراكي، كالمجر وتشيكوسلوفاكيا، وأخيرا بولندا. ونتيجة لتلك الثورات تفرض السلطات مزيدا من القيود، فيؤدي ذلك إلى مزيد من الغضب المكتوم. وهكذا تستمر الحلقة الجهنمية في تضييق الخناق على هذا المعسكر، بعد أن نجح المعسكر الرأسمالي في فرضها على خصومه حتى يلعبوا لعبة الصراع الدولي بقواعده هو، وعلى أرضه هو.
هكذا الكلام قيل منذ خمس سنوات، ولعل القارئ قد أدرك أنه يلقي ضوء واضحا، منذ ذلك الوقت المبكر، على الكثير مما يقع اليوم من أحداث في الاتحاد السوفياتي وبقية بلاد المعسكر الاشتراكي.
إن الحرب الباردة اختراع أميركي صرف، وكل من عرف شيئا عن أحداث الحرب العالمية الثانية يعلم أن أميركا لم تطلق في داخلها رصاصة واحدة طوال هذه الحرب، على حين أن الاتحاد السوفياتي قد اكتسحت معظم أراضيه وأحرقت حقوله وقراه، وفقد أكثر من عشرين مليون قتيل. ولقد تمكنت أجهزة الإعلام الأميركية من خلق صورة وهمية عن الخطر الزاحف من أرض السوفيات، والذي يهدد بابتلاع العالم ما لم يتم ردعه بقوة السلاح، وانطلت هذه الأسطورة على الشعوب في أوروبا الغربية وفي أميركا بوجه خاص، مع أنها لم تكن إلا أكذوبة كبرى. وأغلب الظن أن مروجيها أنفسهم كانوا يعلمون ذلك، ولكن لهم مصلحة مؤكدة في تثبيتها في الأذهان؛ وذلك لأن الشعب السوفياتي ما زال حتى هذه اللحظة، وبعد مضى خمسة وأربعين عاما على انتهاء تلك الحرب، يعيش آلامها ومرارتها. وإذا كانت فنون الشعوب وآدابها خير شاهد على نفسياتها، فمن السهل أن يلاحظ المرء أن فظائع الحرب العالمية الثانية ما زالت حية بقوة في وعي الشعب السوفياتي ولا وعيه معا، بدليل أنها هي الموضوع الذي تدور حوله نسبة كبيرة من الأفلام السينمائية والأعمال الأدبية السوفياتية حتى اليوم، وهو أمر يثير في كثير من الأحيان دهشة بالغة لدى مشاهدي هذه الأعمال وقرائها من الأجانب.
وهكذا فإن العامل المادي، المتمثل في الأعباء الاقتصادية الفادحة، والعامل المعنوي، المتمثل في الذكرى الأليمة والحية لأهوال الحرب الأخيرة، كليهما يؤكد أن أسطورة «الخطر الروسي» على الغرب، وعلى العالم، لم تكن إلا محاولة بارعة لتبرير سباق التسلح، الذي يؤدي إلى تشغيل المصانع وتخفيف البطالة وإنعاش الاقتصاد في بلد رأسمالي، و«ليبرمج» الرأي العام في اتجاه يساعده على دفع الضرائب المتزايدة التي تقتضيها ميزانيات التسلح.
ولقد كانت ذروة التصعيد في سباق التسلح هي ذلك البرنامج الشيطاني الذي عرف باسم «حرب النجوم» والذي يستهدف إقامة نظام لتدمير صواريخ العدو بأشعة الليزر في الفضاء قبل وصولها إلى أهدافها، وكان واضعو هذا النظام في عهد «الرئيس الكاوبوي» رونالد ريجان مؤمنين بأن خطتهم الجهنمية لن تجلب لهم إلا المكاسب:
فهي أولا تضمن إنفاق عشرات المليارات كل عام على هذا البرنامج وحده، بالإضافة إلى ما ينفق على برامج التسلح وبرامج الفضاء الأخرى، وتحقق انتعاشا هائلا لمجموعة ضخمة من الشركات المرتبطة به على نحو مباشر أو غير مباشر. ومن جهة أخرى فسوف يكون السوفيات مرغمين على التحرك لمواجهة هذا البرنامج، وعندئذ تكون النتيجة أحد أمرين: فلو نجحوا سيكونون قد أرهقوا اقتصادهم، الذي هو أصلا غير مهيأ لذلك، إلى حد يبذر بذرة الثورة في تلك المجتمعات التي سيصل مستوى معيشتها عندئذ إلى الحضيض. ولو أخفقوا فسوف ينفرد الأميركيون بهذه الميزة الاستراتيجية الهائلة، ميزة القدرة على تدمير صواريخ العدو وهي في الفضاء الخارجي؛ مما يجعل أيديهم طليقة كيما تعبث بالعالم كيفما شاءت، ويضع حدا لوضع التنافس العسكري المتكافئ الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية. وفي اعتقادي الخاص أن هذا العامل بالذات كان له دور أكبر بكثير مما يتصور معظم الناس في تحديد الاتجاه الذي سارت فيه سياسة جورباتشوف منذ بداية حكمه، فقد فرضت عليه السياسة الأميركية في عهد ريجان أن يختار بين أمرين كليهما مر: فإما أن يدخل في منافسة ستقضي على البقية الباقية من قدرة اقتصاد بلاده والكتلة الشرقية كلها على الصمود، وإما أن يتراجع عن المنافسة ويترك الخصوم طلقاء يتحكمون في عالم الغد كما يشاءون.
وكان القرار الذكي الذي اختاره، والذي اعتمد فيه على تراث النزعة السلمية وكراهية الحرب المتأصل في بلاده، وعلى مخاوف الأوروبيين من أن تكون بلادهم هي الساحة الأولى لأية حرب نووية بين العملاقين - كان هذا القرار هو أن يشن حملة سلام كبرى، يرغم فيها صقور التسلح في الولايات المتحدة على التراجع التدريجي رغم أنوفهم.
كان الأسلوب الذي اتبعه جورباتشوف في إبطاء قطار التسلح الذي كان يزداد اندفاعا عاما بعد عام، أسلوبا بارعا بحق، وهو يستحق في رأيي دراسة متعمقة يقوم بها المتخصصون في العلوم السياسية وفي فن التفاوض بوجه خاص، بوصفه نموذجا فريدا للطريقة التي يمكن بها إرغام عملاق جبار على التخلي عن مواقفه وقبول مواقف الخصم دون أن يتمكن من التهرب أو المقاومة. ويمكن تلخيص هذا الأسلوب على النحو الآتي: كان جورباتشوف يبدأ (ودائما كان هو البادئ) باقتراح في ميدان نزع السلاح يثير تعاطفا شعبيا على أوسع نطاق، وخاصة في أوروبا، كعقد معاهدة لخفض عدد الصواريخ بعيدة المدى، أو تدمير الصواريخ المتوسطة «التي تخشاها أوروبا بوجه خاص»، وبالطبع يكون رد الفعل الأميركي المباشر هو الرفض، وعادة «يكون» هذا الرفض مصحوبا بحجة تبرره، مثل ضرورة التفتيش على الصواريخ في مواقعها ضمانا لعدم الخداع. وحين يضع الأميركيون شرطا كهذا، فإنهم يعلمون جيدا أن الجانب السوفياتي، الذي ظل دائما يخشى التغلغل والتجسس الأميركى في بلاده سيرفضه حتما. ويظل جورباتشوف يلح، ويظل الأميركيون مصرين على شرطهم، حتى يرسخ هذا الشرط في أذهان العالم.
Bog aan la aqoon