Muqamarat Tarikh Kubra
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Noocyada
ومع ذلك فإن الرأي الذي أدافع عنه، بقدر ما تسمح لي الأحداث الراهنة بالحكم، هو أن جورباتشوف يقوم بمقامرة من أكبر مقامرات التاريخ، وفي كل مقامرة مغامرة، ولكن هل هي مغامرة محسوبة، أم أنها متروكة للظروف؟ في اعتقادي أن جورباتشوف قد خاض هذه المغامرة بعد أن أجرى حسابات فيها قدر كبير من الدقة، ولكن لما كانت حركة التاريخ أعقد كثيرا من تلك الأرقام التي تحملها الأوجه الستة لمكعب النرد (الزهر)، فمن المتوقع أن تخطئ تلك الحسابات في كثير من التفاصيل، ومع ذلك فإن ما أتصور أن جورباتشوف توقعه حين خاض هذه المقامرة بوعي كامل هو أنه سيبدو خاسرا على المدى القصير، ثم يبدأ تراكم المكاسب على المدى الأطول. هذه هي حساباته، كما أتصورها وإن كان احتمال الخطأ فيها يظل واردا على الدوام.
وفي اعتقادي أن معظم الأخطاء التي ترتكب في محاولة فهم الوضع الراهن لعالمنا المضطرب، بعد سلسلة الأحداث المفاجئة الأخيرة، ترجع إلى أن المفكرين والمحللين ينظرون إلى الأحداث التي تدور في اللحظة الراهنة كما لو كانت هي التي ستظل قائمة في المدى البعيد، وهذا ينطبق على مؤيدي جورباتشوف ومعارضيه على حد سواء، فمؤيدوه يقفون مشدوهين وهم يرونه يتأمل بهدوء انهيار إمبراطورية المعسكر الاشتراكي من حوله، ويعربون عن أسفهم لاختفاء معسكر قوي كان على الأقل يشكل توازنا مع المعسكر الرأسمالي الأشد عدوانية، وكثير منهم يتمنون في قرارة أنفسهم لو كان جورباتشوف أكثر حزما، ولو أحكم قبضته بدرجة معينة حتى لا يفلت منه زمام الأمور، بل إن بعض أنصار الاشتراكية المتحمسين يصل بهم الأمر إلى حد اتهامه، سرا في معظم الأحيان وعلنا في أحيان قليلة، بالخيانة والعمالة للرأسمالية العالمية، وبأنه هو الزعيم الذي أخذ على عاتقه مهمة تصفية المعسكر الذي ينتمي إليه. أما خصومه فإنهم لا يخفون سعادتهم لأن شعوب المعسكر الشيوعي قد انقلبت عليه، واختارت طريق الرأسمالية، فما يحدث الآن هو في نظرهم نهاية الخصومة بين المعسكرين والتضاد بين الأيديولوجيتين، لا من أجل تحقيق الوفاق بينهما، بل لصالح أحدهما وعلى حساب الآخر، وهم يؤكدون أن النتيجة الواضحة للتحول الحاسم في عام 1989م هي الانتصار النهائي للرأسمالية، وأن الأحداث قد أثبتت بصورة لا تقبل الجدل أن الرأسمالية هي «النظام الطبيعي» للمجتمع الإنساني، أما الشيوعية فهي عرض زائل أو «موضة» مزعجة ظلت مسيطرة بقوة الحديد والنار في مجتمعات معينة خلال بضعة عقود من السنين، لا تعد بمقياس التاريخ البشري شيئا يذكر، ولكن كان لا بد لهذه الأيديولوجية الشاذة أن تنتهي يوما ما، وها هي ذي الأحداث تعلن إفلاسها بصوت مدو؛ لكي يعود البشر جميعا، دون تفرقة بين معسكر وآخر، إلى «نظامهم الطبيعي».
هذه كلها، في رأيي، تحليلات متسرعة، قصيرة النظر، والمشكلة فيها كلها، سواء تلك التي يقوم بها أنصار جورباتشوف أم خصومه، هي أنها تنظر إلى الوضع الراهن على أنه الوضع النهائي، وتحكم على المسار البعيد للتاريخ من خلال ما يجري في المدى القصير. وفي اعتقادي أن العنصر المحسوب في تلك المقامرة الكبرى التي قام بها جورباتشوف، هو أن ثمارها لن تظهر إلا بعد فترة غير قصيرة من الصدمات والخسائر؛ ومن ثم فإن من يصدر حكما على التجربة ينبغي عليه ألا ينخدع بتلك السلبيات الضخمة التي تقفز على السطح في المرحلة الأولى من تلك التحولات.
إن جورباتشوف يراهن رهانا كبيرا شديد الخطورة، ولكنه ليس رهانا على أرقام مجردة تتساوى جميعا في احتمال ظهورها أو عدم ظهورها، وإنما هو رهان على الطبيعة البشرية، وعلى الأهداف التي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقها في المرحلة الحاسمة من تاريخه، فلا بد في نهاية الأمر من أن يثور هذا الإنسان على القمع والاضطهاد وحشر المتشابه والمختلف في قالب واحد، ولكنه لا بد أيضا أن يثور على الظلم الاجتماعي الصارخ والتفاوت الحاد بين الطبقات والتسلح المهدد لاستمرار الحياة والتهديد المميت للبيئة التي ستعيش فيها أجيال الأولاد والأحفاد. على هذه الأمور جميعا يراهن جورباتشوف، ولا بد لكي يكسب هذا الرهان على المدى الطويل من أن يخسر قليلا أو كثيرا على المدى القصير.
ولكي أدلل على صحة هذا الافتراض الذي أحاول به أن أجعل هذا الموقف المعقد والمتقلب مفهوما بدرجة ما، وأن أضفي شيئا من المعقولية على أوضاع تبدو خارجة عن سيطرة كل عقل، دعونا نطرح سؤالا لم يطرحه أحد من قبل، ربما لأنه يبدو سؤالا شديد السذاجة، مع أنه ينطوي في رأيي على كثير من مفاتيح اللغز: فما الذي أرغم جورباتشوف على أن يفعل ما فعل؟ لقد انتخب جورباتشوف رئيسا بعد تشيرنينكو، الذي كان ميتا حيا، وظل طوال حكمه القصير راقدا على فراش المرض. وتشيرنينكو جاء بعد أندروبوف، الذي كان بدوره يحمل منذ البداية بذور داء قاتل أودى بحياته بعد وقت قصير، كذلك فإن أندروبوف جاء بعد بريجنيف، الذي كان في السنوات الأخيرة من حكمه جثة تتظاهر بأنها حية، وكان واضحا أن قواه البدنية والذهنية لا تسمح له بأن يدير مزرعة للدواجن، لا معسكرا عالميا عظيم القوة فادح المسئوليات.
جاء جورباتشوف إلى الحكم شابا في الرابعة والخمسين «بالقياس إلى الموتى الأحياء الذين سبقوه»، وكان يكفيه أن يعطي الحكم مزيدا من الحيوية، ويسير في الخط الذي انتهجه سابقوه بهمة أعظم ونشاط أكبر، حتى يكون قد أنجز شيئا هاما يميزه بوضوح عن أسلافه، ولكنه لم يقبل ذلك، وإنما اختار عمدا أن يسير في طريق مختلف «نوعيا» عن ذلك الذي سار فيه أي زعيم سوفياتي آخر منذ لينين.
ولو كان جورباتشوف قد سار على درب أسلافه، مع إعطاء الحكم مزيدا من الحيوية والشباب، لما تعرض لشيء من المتاعب التي تعصف الآن بالمعسكر الشرقي. وأعتقد أنه كان يستطيع - نظريا - أن يفعل ذلك، فكل ما يقال الآن عن أن هذا التغيير الذي أحدثه جورباتشوف كان حتميا بسبب المتاعب الاقتصادية الهائلة التي تواجهها الكتلة الشرقية، أو حاجة شعوب هذه الكتلة إلى الحرية؛ كل هذا، وإن كان صحيحا كل الصحة، لا يكفي لتفسير ما حدث، فقد ظلت هذه الشعوب محرومة من التعددية ومن حرية التعبير وحرية السفر والتنقل أكثر من أربعين عاما، وبرغم ذلك فقد استطاع النظام أن يستمر، وحين كانت تقوم فيها انتفاضات شعبية، كما حدث في المجر عام 1956م وفي تشكوسلوفاكيا عام 1968م، كانت الدبابات السوفياتية تتكفل بسحق كل صوت معارض، وكذلك كانت المتاعب الاقتصادية واضحة منذ زمن طويل، ومع ذلك ظل النظام متماسكا أمام العالم، وكان بفضل قوته العسكرية يؤلف معسكرا جبارا يعمل له خصومه ألف حساب.
أجل، كان في استطاعة جورباتشوف أن يكون امتدادا أكثر شبابا وحيوية، لعهد بريجنيف، ومهما واجه من متاعب فإنها لن تكون أسوأ من تلك التي استطاع المعسكر كله تحملها طوال ستة عشر عاما من «عصر الجمود»، وكان في استطاعته - باستخدام أساليب القوة والتمويه السائدة من قبل - أن يسير في طريق مأمون، ويجنب نفسه كل ما يتعرض له الآن من مشكلات، ولكنه لم يفعل، واختار عامدا السير في طريق التغيير الجذري، بكل ما ينطوي عليه من مخاطر جسيمة.
بل إنه خطط بدقة وإحكام لهذا التغيير الذي تعمد إحداثه، ونظم خطواته بطريقة عقلانية: فبدأ بسياسة «الجلاسنوست» أي العلانية أو المصارحة أو المكاشفة، ولأول مرة وجد الإنسان، في الدولة الأم داخل المعسكر الاشتراكي، أن في استطاعته التعبير بحرية تامة عما يعانيه من متاعب، ويوجه الانتقادات الحادة إلى المسئولين عن هذه المعاناة، دون أن يلحقه أذى أو ينفى إلى أقصى الأرض. وكانت تلك هي الخطوة الأولى، والمنطقية نحو التحول الأساسي، وهي التي هيأت الجو عقليا ونفسيا لخطوات أخرى تهز الأسس التي قام عليها المجتمع. وكان من الطبيعي أن تمتد الخطوة الأولى فترة طويلة، تزيد عن ثلاث سنوات؛ إذ إن هذا هو ما تقتضيه التعبئة الذهنية للملايين من البشر، من أجل إزالة آثار عشرات السنين من الخوف من توجيه النقد، والجمود إزاء التغيير، والسلبية التامة في مواجهة صناع القرار.
وكانت المرحلة التالية، والحاسمة، هي إعطاء الضوء الأخضر للتغيير في كل بلد يزوره من بلدان المعسكر الاشتراكي؛ فقد أخذ يلمح إلى عدم رضائه عن القيادات الجامدة، ويشير بعبارات واضحة إلى أن القوات السوفياتية لن تتدخل في أية أحداث تقع داخل هذا المعسكر. وسرعان ما التقطت شعوب هذه الكتلة، التي كانت من الأصل معبأة، إشاراته الواضحة، وبدأت الأصنام الجامدة فيها تتهاوى واحدا بعد الآخر، فمنهم من انسحب في هدوء، ومنهم من نحي عن منصبه بعد إجماع شعبي تجلى في مظاهرات عارمة، وآخرهم (حتى كتابة هذه السطور) آثر المكابرة، ولم يتزحزح عن موقعه إلا بعد أن سلط على أهله زبانية الشر الذين كان «يدخرهم ليوم مطير» كما يقول التعبير الأميركي الشائع، فكانت نهايته بنفس القسوة والدموية التي مارسها تجاه شعبه.
Bog aan la aqoon