Muqamarat Tarikh Kubra
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Noocyada
لقد شعر الكثيرون بالجزع من جراء انتهاء وضع المواجهة هذا، وحلول التفاهم والوفاق محله، وكان من العبث أن يعزيهم بعض المفكرين من ذوي النزعة الإنسانية العالمية بالقول إن مصالح الإنسانية ككل ينبغي تغليبها على مصالح أية دول أو مجموعة من الدول، وإن الوفاق والاتجاه إلى نزع السلاح مكسب للإنسانية كلها، ومن ثم ينبغي تغليبه على الخسائر التي قد تحدث لهذه المنطقة من العالم أو تلك؛ ذلك لأن منطق المصالح لا يمكن اختفاؤه من العالم بين عشية وضحاها. ومن جهة أخرى فإن أي وفاق يحدث بين الكبار لن يلغي الظلم والتفاوت والرغبة في تحقيق العدالة بين العالم الثالث.
وأبسط دليل على ذلك أنه، في نفس اليوم الذي كان فيه الملايين يسافرون من ألمانيا الشرقية، بعد هدم جدار برلين، وهو كما يبدو مكسب كبير للمعسكر الغربي، كان ثوار السلفادور يهاجمون قصر الرئاسة، ويتحركون كما يشاءون في العاصمة، ويمرغون سمعة النظام الحاكم - الذي يدافع عن مصالح المعسكر الغربي - في التراب، وكان ذلك تزامنا رمزيا بالغ الدلالة.
وفي اعتقادي أن المنطقة العربية ستكون من أكثر المناطق تأثرا بتلك التحولات الضخمة التي تطرأ على العلاقات بين المعسكرين الكبيرين، بل إن نتائج تلك التحولات، بالنسبة إلينا ستكون مصيرية؛ ومن هنا فإن الأمر يحتاج منا أولا إلى فهم عميق لطبيعة الأحداث الحالية واحتمالاتها المستقبلية، وثانيا إلى استعداد لمواجهة التغيرات الحاسمة المتوقعة في المستقبل القريب والبعيد، لا من منظور مصلحة الأنظمة الحاكمة، كما يفعل الكثيرون في هذه الأيام، بل من منظور المصالح الحقيقة للأمة العربية، وقدرتها على أن تجد لنفسها مكانا وسط هذا العالم الدائم التجدد.
إن النغمة العامة السائدة بين المفكرين العرب إزاء هذه التطورات الأخيرة في الكتلة الشرقية، وما يمكن أن يترتب عليها من تغيرات في السياسة العالمية، هي نغمة التشاؤم. ولهذا الموقف ما يبرره دون شك، غير أنني أستطيع أن أجد عنصرا إيجابيا واحدا على الأقل يمس جانبا هاما من جوانب السياسة العربية على الصعيد الداخلي، وأعني به انبثاق وعي عالمي حاد بأهمية الديمقراطية. وتأتي أهمية هذه المسألة من أن الفكر العربي كان يرتكب في هذا الموضوع خطأين أساسيين: أحدهما هو الاعتقاد بأن الديمقراطية فكرة غربية في الأساس، لا يصح أن نقتبسها في مجتمعاتنا إلا إذا أدخلنا عليها تعديلات أساسية، وربما كان الأفضل في نظر البعض الاستغناء عنها كلية. أما الخطأ الثاني فهو أن الديمقراطية تتعارض مع السعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن حاجتنا إلى العدالة هي الأساس، وأن المجتمع الذي لا يبدأ بتحقيق العدالة الاجتماعية ينتهي به الأمر إلى ديمقراطية زائفة. فلنتوقف قليلا لتحليل هاتين الفكرتين.
إن في أدبياتنا السياسية العربية فكرة شائعة مفادها أن مفهوم الديمقراطية نتاج للحضارة الغربية لا يصلح إلا لهذه المجتمعات. ومن العجيب أن كثيرا من فصائل اليسار الماركسي واليمين الإسلامي، تتفق على هذه الفكرة، وكل ما في الأمر أن اليساريين يضيفون في أغلب الأحيان صفة «الليبرالية» إلى كلمة الديمقراطية، ويربطون بينها وبين نشأة الفكر البورجوازي الأوروبي وظهور الرأسمالية في مطلع العصر الحديث، على حين أن الإسلاميين يؤكدون الأصل الغربي «اليوناني» للفظ الديمقراطية، ويرون في هذه الفكرة نتاجا للحضارة الغربية منذ عهد أبعد بكثير، لا صلة بينه وبين تراثنا الإسلامي. وكل هذه المقدمات صحيحة بلا شك، ولكن النتيجة المستخلصة منها، وهي أن الديمقراطية لا تصلح إلا للمجتمعات الغربية، باطلة كل البطلان. وحسبي أن أذكر القارئ هنا بما قلته مرارا في مواضع أخرى، وهو أن كل الأفكار العظيمة في العالم يكون لها في البدء أصل معين، وترتبط نشأتها ببيئة وظروف محددة، ثم تتجاوز هذا الأصل وتتعداه، وتصبح مكسبا للإنسانية جمعاء. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن الديمقراطية والحريات المرتبطة بها تمثل مطلبا أساسيا لمجتمعات تمر بتجربة مضادة للرأسمالية الليبرالية الغربية، وأن زعيم الشيوعيين الحالي في الاتحاد السوفياتي لا يرى أي تعارض بين التمسك بالاشتراكية والمناداة بالحريات الديمقراطية، على عكس ما كانت تؤكده معظم فصائل اليسار في دول العالم الثالث ... ولا بأس هنا من إشارة سريعة، قد تبدو خارجة عن الموضوع، إلى أحداث قريبة العهد، دحضت الادعاء الآخر القائل إن العالم الإسلامي لا تلائمه الديمقراطية «المستوردة من الغرب»؛ فقد أثبتت الانتخابات الباكستانية التي انتصرت فيها بي نظير بوتو ابنة الزعيم الباكستاني، الذي وصفته جميع التيارات الإسلامية بالعلمانية، أن ذلك الشعب المسلم لم يجد أي تعارض بين عقيدته وبين ممارسة الديمقراطية، بمعناها الإنساني العام، وأنه حين واتته الفرصة عرف كيف يختار بطريقة واعية ناضجة، على الرغم من جميع الظروف الصعبة التي يعانيها.
أما الخطأ الثاني الذي كان الفكر العربي يقع فيه بشأن الديمقراطية، فهو الاعتقاد الذي شاع طويلا بأن هناك تعارضا بين الديمقراطية السياسية وما يسمى بالديمقراطية الاجتماعية، أو بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. فقد انتشرت بيننا فلسفة تبناها «الميثاق» المصري في أوائل الستينات، كما تبنتها بعض الأحزاب العربية ذات الاتجاه القومي، تؤكد أن الديمقراطية النيابية المرتكزة على الحريات المعروفة (حرية التفكير والتعبير والعقيدة، إلخ ...) تظل شعارا شكليا أجوف خاليا من المضمون، ما دام المجتمع مفتقرا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، فالشعب الجاهل، الجائع، المريض، لا يعرف كيف يمارس حرياته أو يختار ممثليه، بل إن ممارسته للديمقراطية تنتهي عمليا إلى سيطرة أصحاب المال والأرض والنفوذ عليه، فتتحول تلك الديمقراطية آخر الأمر إلى خدعة ومهزلة. هكذا قيل لنا، وعلى هذا النحو كانت تفكر الأجيال الوسطى والجديدة في عالمنا العربي، ولكن إذا لم يكن مثال باكستان الذي قدمته من قبل كافيا لإقناعنا ببطلان هذا الرأي، فإن أحداث أوروبا الشرقية تمثل تكذيبا مدويا له، فمع كل عيوب الأنظمة الحاكمة السابقة في هذه البلدان، لا ينكر أحد أنها قدمت لشعوبها، في ميدان العدالة الاجتماعية، أضعاف ما استطاع أي حزب أو تحالف شعبي عربي أن يقدمه لشعبه.
ومع ذلك فإن هذه الشعوب ثارت مطالبة بالحرية والديمقراطية، وأسقطت أولئك الذين استغلوها باسم الاشتراكية، ونشروا الظلم باسم العدالة، وطالبت بحقوق قانونية ودستورية إنسانية، وأكدت بأبلغ تعبير أن كرامة الإنسان لا تنفصل عن آدميته، وأنها مطلب يستحيل التنازل عنه مقابل أية مكاسب مادية تزعم الأنظمة أنها تقدمها إلى شعوبها.
ومن هنا فإني أعتقد أن أحداث أوروبا الشرقية قد أسدت إلى العالم العربي خدمة كبرى على صعيد المبادئ السياسية التي تطبق داخل المجتمع؛ لأنها دعمت الدعوة إلى الديمقراطية، وأكدت أن مطلب الحريات التي توصف بأنها «ليبرالية» يتجاوز حدود الثقافات الأيديولوجيات، وفندت المزاعم التي راجت بيننا طويلا حول التعارض بين ممارسة الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأكدت أن القيم الإنسانية العليا تسير كلها جنبا إلى جنب، ومن المستحيل أن يكون الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل سعيه وراء إحداها هو تنازله عن الأخرى.
ولكن هل تؤدي تلك التغييرات العالمية، التي بدأتها أحداث أوروبا الشرقية، إلى نتائج إيجابية مماثلة على صعيد السياسة الخارجية العربية؟
الحق أن الصورة في هذه الحالة تبدو قاتمة، فهناك شعور جارف لدى العرب بأنهم فقدوا، بعد هذه الأحداث، حليفا كان يساندهم في وقت الشدة، وبأن اهتمام السوفيات وبلاد الكتلة الشرقية سيتركز من الآن فصاعدا على إصلاح الأوضاع الداخلية المتردية أولا، ثم يتجه صوب أوروبا الغربية لتحقيق مزيد من الاندماج والتوحد معها، ويتجه إلى أميركا لتهدئة أجواء التوتر معها، ولأنها الطرف الذي لا غناء عنه في عملية نزع السلاح، أما الشرق الأوسط فربما أتى دوره في المراتب الأخيرة من هذه الاهتمامات.
Bog aan la aqoon