لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (٣١)
مقدمة إملاء الاستذكار
للحافظ أبي عمر ابن عبد البر القرطبي
تأليف
الحافظ أبي طاهر السلفي الأصبهاني المتوفى سنة ٥٧٦ هـ
تحقيق
عبد اللطيف بن محمد الجيلاني
ساهم بطبعه بعض أهل الخير من الحرمين الشريفين ومحبيهم
دار البشائر الإسلامية
Bog aan la aqoon
جَمِيْعُ الحُقُوقِ مَحْفُوَظَةٌ
الطَّبْعَةُ الأولى
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
دَار البشائر الإسْلاميّة للطّباعَة وَالنّشر وَالتَّوزيْع
هَاتفْ: ٧٠٢٨٥٧ - فَاكسْ: ٧٠٤٩٦٣/ ٠٠٩٦١١
بَيروتْ - لبْنانْ ص ب: ٥٩٥٥/ ١٤
e-mail: [email protected]
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه ثقتي
مُقَدِّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن العناية بإخراج المخطوطات وتحقيقها جزء من المسؤولية الملقاة على عاتق الباحثين وطلبة العلم المختصين، ففي إخراجها إحياء لتراث الأمة الِإسلامية المجيد، وأداء لبعض الواجب نحو علمائها المخلصين.
وقد تتابع بفضل الله تعالى في الآونة الأخيرة ظهور كتب التراث، حيث دفعت عجلات المطابع بالعديد من الكتب إلى عالم النور، وإسهامًا في خدمة التراث الإِسلامي وإحياء كنوزه ودفائنه من الاندثار ظهرت سلسلة لقاء العشر الأواخر من رمضان في المسجد الحرام برعاية دار البشائر الإِسلامية ببيروت، وبتعضيد من أهل الخير والفضل (١).
_________
(١) إحياءً لمجالس العرض وسماع الكتب ومقابلتها، وسيرًا على مهيع المحدثين في ذلك، قرأت هذه الرسالة بفضل الله وتوفيقه بحضور جمع من أهل العلم والفضل ليلة السابع والعشرين من رمضان عام ١٤٢١ هـ في صحن المسجد الحرام تجاه الكعبة المشرفة، وطباق السماع مدوّن في آخر النص المحقق لهذه الرسالة، فلينظر هناك، والله ولي التوفيق.
1 / 3
ويسعدني أن تكون مشاركتي في هذه السلسلة العلمية المباركة بإخراج هذه الرسالة التي سطّرها "حافظ الإِسلام، وأعلى أهل الأرض إسنادًا في الحديث والقراءات مع الدين والثقة والعلم" (١): أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السِّلَفىِ الأصبهاني (ت ٥٧٦ هـ)، وهي مقدمة على كتاب الاستذكار في شرح ما رسمه الإِمام مالك في موطئه من الرأي والآثار، لأبي عمر ابن عبد البر النَّمَري القرطبي (ت ٤٦٣ هـ)، وَضَعَهَا لطلاّبه مدخلًا إلى هذا الكتاب العظيم قبل أن يشرع في تدريسه.
وتُعَدُّ هذه الرسالة من أقدم ما صُنِّفَ في افتتاحيات الكتب، إن لم تكن أقدمها، وكتب الافتتاحيات مصنّفات يضعها العالم أو يمليها برسم الشروع في إقراء كتاب من الكتب أو تدريسه، ويتناول فيها ترجمة صاحب الكتاب المراد إقراؤه، ويتحدث عن خصائص كتابه، ومنهجه فيه، كما أنه يَسُوقُ أسانيده إليه، وَيَعْرِض ما قيل في الثناء عليه نثرًا ونظمًا.
وقد أبان الحافظ السِّلفي في هذه الرسالة عن نشاطه العلمي بالمدرسة العادلية -التي تسمّت فيما بعد باسمه- وتحدّث عن مجالسه العلمية، وعَزْمِهِ على إملاء كتاب الموطأ للإِمام مالك ﵀، ثم العدول عنه إلى كتاب الاستذكار، وفي غضون ذلك أشاد بالإِمام مالك وبكتابه الموطأ، وذَكَرَ نُبَذًا من ثناء العلماء عليه، ثم ترجم للحافظ ابن عبد البر ترجمة مستفيضة أكثر فيها من الثناء عليه وعلى تصانيفه، وتفرّد فيها بذكر بعض الأقوال في ولادته ووفاته، وخَتَمَ الكتاب بذكر بعض أشعاره في الثناء على تآليفه، وبخاصة كتاب الاستذكار الذي عزم على إملائه وتدريسه لطلابه.
ولهذا كانت هذه الرسالة شهادة من الحافظ السِّلفي بجلالة ابن عبد البر، وعلو كعبه، وسعة علومه، وشهادة منه أيضًا لكتابه الاستذكار بعدم وجود نظير له
_________
(١) غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجوزي ١/ ١٠٢.
1 / 4
في بابه، فهو من أجلّ كتب الحديث والفقه، علاوة على ما حوته -رغم وجازتها- من فوائد فريدة، ومعلومات عزيزة.
وقد اعتمدت في تحقيقها على نسختين خطيتين، واجتهدت في ضبط نَصِّها، وتوثيق نقولها، والتعليق عليها، وصَدَّرْتُهَا بدراسة موجزة عَرَّفْتُ فيها بالمؤلف تعريفًا موجزًا، وَوَضَّحْتُ ما يتعلق بإثبات عنوانها، وصحّة نسبتها إلى مصنفها، مع وصف النسختين المعتمدتين في التحقيق، كما تَحَدَّثْتُ عن موضوع الكتاب، وعناية العلماء بكتاب الاستذكار.
وختامًا أضرع إلى المولى العلي القدير أن يمدني بتوفيقه، وأن يلهمني الرشد والسداد، وأن يغفر لي الزلل والتقصير، وأن يكتب لي هذا العمل في ميزان حسناتنا يوم الدين، والحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
عبد اللطيف بن محمد الجيلاني الآسفي المغربي
لطف الله به وغفر له ولوالديه
بالمسجد النبوي الشريف بتاريخ ٥/ ٢/ ١٤١٦ هـ
وأعاد النظر فيها يوم الإِثنين ١٢/ ٣/ ١٤٢٢ هـ
1 / 5
ترجمة موجزة للمؤلف
هو أحمد بن محمد بن إبراهيم، أبو طاهر السَّلَفِي الجُرْواءاني الأصبهاني، ولد سنة خمس وسبعين بعد الأربعمائة أو قبلها بسنة على ما رجّحه الذهبي ﵀، وطلب الحديث من صغره، وارتحل وهو دون العشرين سنة، فدخل بغداد وسمع بها، وسمع أيضًا بالكوفة وواسط والبصرة ومكة والدَّينَّوْر وشهرستان وبلاد أخرى عديدة، وأملى عدّة مجالس بسَلَمَاس وهو شاب، وانتخب على غير واحد من المشايخ، وكتب العالي والنازل، ونسخ من الأجزاء ما لا يحصى كثرة، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عامًا يكتب الحديث والفقه والأدب والشعر.
وقدم دمشق سنة تسع وخمسمائة فأقام بها سنتين، ثم استوطن ثغر الإِسكندرية بضعًا وستين سنة؛ بقي بها إلى أن مات ﵀ وهو ينشر العلم ويحصِّلُ الكتب التي قلّ ما لعالم مثلها في الدّنيا.
وكان مُكِبًّا على الكتابة والاشتغال والرواية، لا راحة له غالبًا إلاَّ في ذلك؛ حتّى روي عنه أنه قال: "لي سِتُّون سنة بالإِسكندرية ما رأيت منارتها إلاَّ من هذه الطاقة، وأشار إلى غرفته التي يجلس فيها".
وقال عنه تلميذه عبد القادر الرُّهاوي: "بلغني أن مدة مقامه بالإِسكندرية ما خرج منها إلى بستان ولا فُرْجة سوى مرة واحدة، بل كان لازمًا مدرسته، وما كنا نكاد ندخل عليه إلاَّ ونراه مطالعًا في شيء، وكان حليمًا متحملًا لجفاء الغرباء".
وقد اشتهر الحافظ السِّلفي بالإِكثار من الشيوخ؛ فقد ذكر الحافظ أبو القاسم
1 / 6
التُّجِيبي السّبتي أنهم يزيدون على الألف، ثم قال: "وهذا اتساع عظيم في الأخذ عن المشايخ".
وكان لَهُ عند مُلُوكِ مِصْرَ الجَاهُ والكَلِمَةُ النَّافِذَةُ، بَنَى له الوزير العادل ابن السلآر مدرسة كبيرة أطلق عليها المدرسة العادلية، ثم سميت بعد ذلك باسمه "السِّلَفية"، ووقف عليها وقفًا، وكان يدرس بها الفقه على مذهب الشافعي ويروي الحديث.
والمُتَصَفّحُ للمصادر التي ترجمت للحافظ السِّلفي يجد أن كثيرًا من الأئمة قد أثنوا عليه ثناء عاطرًا، وأشادوا إشادة بالغة بسعة علومه، وعلو مكانته.
قال المنذري: "كان أوحد زمانه في علم الحديث وأعرفهم بقوانين الرواية والتحديث، جمع بين علو الإِسناد، وغلو الانتقاد، وبذلك ينفرد عن أبناء جنسه".
وقال أبو سعد السمعاني: "السِّلفي ثقة ورع متقن متثبت، فهم حافظ، له حَظُّ من العربية، كثير الحديث، حسن اللهم والبصيرة فيه".
وقال ابن ناصر: "كان ببغداد كأنه شُعْلَةُ نار في تحصيل الحديث".
وقال أبو الربيع ابن سالم: "متفرد في الدنيا بالإِمامة في علم الحديث، وعلو الدرجة في الإِسناد، وأخذ عنه أهل الأرض جيلًا بعد جيل، وسمع الناس على أصحابه، وهو لم يبعد عهده بشبابه".
ورُوِيَ عن السِّلفي نفسه أنه قال:
ليس على الأرض في زماني ... من شأنه في الحديث شاني
نظمًا وضبطًا يلي علوًّا ... فيه على رغم كل شاني
وكانت وفاته ﵀ رحمة واسعة جزاه عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء، في صبيحة يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة، وقد تجاوز من العمر مائة سنة.
1 / 7
ويحسن في ختام هذه الترجمة المقتضبة أن أشير إلى بعض مؤلفاته المطبوعة:
١ - معجم السفر (١).
٢ - كتاب الأربعين المستغني بتعيين ما فيه عن المعين، ويعرف بالأربعين البلدانية (٢).
٣ - الوجيز في ذكر المُجاز والمُجيز (٣).
٤ - المجالس الخمسة السلماسية (٤).
٥ - مقدمة إملاء معالم السنن للخطابي (٥).
هذا ما تَسَنَّى لي تلخيصه من ترجمة الحافظ السلفي، وقد جَرَيْتُ في تدوينها مجرى الاختصار مراعاة للمقام؛ إذ لا يتسع لبسطها والإِطالة فيها، كما أنه توجد دراسات ضافية حوله سيأتي الإِشارة إليها ضمن هذه القائمة التي حصرت فيها ما أمكنني الوقوف عليه من مصادر ترجمته تسهيلًا لمن أراد التوسع في معرفة أخباره، والوقوف على مناقبه ومآثره:
الأنساب للسمعاني ٧/ ١٠٥، ١٠٦، اللباب لابن الأثير ١/ ٢٧٤، الكامل لابن الأثير ١١/ ١٩١، وفيات الأعيان لابن خلكان ١/ ١٥٠، مرآة الجنان لليافعي ٨/ ٣٦٢، المعجم لابن الأبار ص ٤٨ - ٥٠، التقييد لابن نقطة ص ١٧٦ - ١٨٠، سير أعلام النبلاء للذهبي ٥/ ٢١ - ٣٩، تذكرة الحفاظ للذهبي
_________
(١) طبع الجزء الأول منه بتحقيق د. بهيجة الحسني في العراق، ثم طبِع كاملًا في باكستان بتحقيق د. شير محمد زمان، ثم نشرته دار الفكر ببيروت اعتمادًا على طبعة باكستان ووضع على غلافه: تحقيق عبد الله البارودي!!
(٢) طبع مرتين، آخرهما بتحقيق مسعد السعدني عن أضواء السلف بالرياض.
(٣) طبع مرارًا أحسنها بتحقيق: د. عبد الغفور البلوشي في مكتبه الإيمان بالمدينة.
(٤) طبع بتحقيق مشهور حسن سلمان عن دار الصميعي بالرياض.
(٥) طبعها الشيخ محمد حامد الفقي في نهاية الجزء الثامن من كتاب معالم السنن ص ١٣٨ - ١٦٣.
1 / 8
٤/ ١٢٩٨، العبر في خبر من غير للذهبي ٤/ ٢٢٧، ميزان الاعتدال للذهبي ١/ ١٥٥، أهل المائة فصاعدًا (١) للذهبي ص ١٣٤، البداية والنهاية لابن كثير ١٢/ ٣٠٧، الطبقات الكبرى للسبكي ٦/ ٣٢، تهذيب تاريخ دمشق ١/ ٤٤٩، مقدمة تحقيق معجم السفر للدكتورة بهيجة الحسني، مقدمة تحقيق معجم السفر للدكتور شير محمد زمان (٢)، مقدمة تحقيق الوجيز في ذكر المجاز والمجيز للدكتور عبد الغفور البلوشي، مقدمة تحقيق الأربعين البلدانية لعبد الله رابح ص ٨ - ٢٢ (٣)، الحافظ أبو طاهر السلفي للدكتور حسن عبد الحميد صالح (٤)، الحافظ السِّلفي أشهر علماء الزمان لمحمد محمود زيتون (٥).
* * *
_________
(١) ضمن مجلة المورد العراقية ح ٢ ع ٤/ ١٩٧٩.
(٢) باللغة الإِنجليزية.
(٣) نشر دار البيروتي بدمشق عام ١٤١٢ هـ.
(٤) نشر المكتب الإِسلامي ببيروت عام ١٩٧٧ م.
(٥) نشر مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية عام ١٩٧٢ م.
1 / 9
التعريف بالرسالة
موضوع الرسالة:
تُعَدُّ هذه الرسالة من كتب الافتتاحيات كما نبّهت عليه في المقدمة، ويبدو أن الحافظ السِّلفي هو أول من شَهَرَ هذا اللّون من التصنيف بين المحدثين، إذ له مقدمة أخرى على كتاب معالم السنن للخطابي (١).
وممن حذا حذوه في هذا الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت ٨٤٢ هـ) حيث ألف كتاب: "افتتاح القاري لصحيح البخاري" (٢)، وكذلك ألّف الحافظ السيوطي (ت ٩١١ هـ): "رفد القاري بما ينبغي تقديمه عند افتتاح صحيح البخاري" (٣)، ثم كثر تصنيف الافتتاحيات عند المتأخرين؛ لاسيما على صحيح البخاري.
وتعتبر كتب الافتتاحيات مرجعًا مهمًا في دراسة مناهج المصنفين؛ إذ يتضمن كثير منها خلاصة الاستقراء لتلك المناهج،. كما أنها مصدر لا يستغنى عنه فيما يتعلق بتراجم العلماء، ومعرفة أسانيد الكتب ومدى انتشارها واهتمام الناس بها.
ومقدمة إملاء الاستذكار التي أتشرف بتحقيقها وإخراجها اليوم تؤرخ لجانب من النشاط العلمي في القرن السادس الهجري، وتكشف عن جهود عالم
_________
(١) نشرها محمد حامد الفقي في آخر كتاب معالم السنن ٨/ ١٣٨ - ١٦٣.
(٢) يوجد له نسخة خطية بمكتبة الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية برقم: ١/ ٢٨٦.
(٣) له نسخة خطية بالخزانة العامة بالرباط برقم: ٢٧١١ ك.
1 / 10
الإِسكندرية وحافظها أبي طاهر السِّلَفي (ت ٥٧٦ هـ) بالمدرسة العادلية -التي تسمّت فيما بعد باسمه: "السِّلَفية"- في تدريس العلوم الشرعية كالحديث والفقه، وعنايته بعقد مجالس الإِملاء التي بواسطتها حصَّل عنه تلاميذه رواياته وعوالي أسمعته الواسعة.
ومن جملة الكتب الحديثية التي أخذت حيِّزًا من اهتمام الحافظ السِّلفي كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة مالك بن أنس ﵀، فقد أملاه سنة إحدى وخمسين وخمسمائة للهجرة، وخصّص له يومين من كل أسبوع، وخلال المدة التي أملى فيها الموطأ طُلِبَ منه أن يكتب شرحًا عليه، فاعتذر عن الخوض في لُجَّة شرح هذا الكتاب العظيم تواضعًا منه ﵀ وورعًا، واستعاض عن شرحه بإملاء كتاب الاستذكار للحافظ ابن عبد البر الأندلسي لعدم وجود كتاب يضاهيه من شروح الموطأ على حد قوله.
والناظر في هذه الرسالة يجد الحافظ السِّلفي قد ذكر نُتَفًا من ترجمة الإِمام مالك، وما قيل في الثناء على موطئه، وأتبع ذلك بترجمة للحافظ ابن عبد البر، اعتنى فيها بذكر تصانيفه وما قيل في الثناء على بعضها.
ولم تخلُ هذه الرسالة من فوائد عزيزة يندر العثور عليها في مصادر أخرى، ففيها بيان اهتمام الحافظ السِّلفي بمؤلفات ابن عبد البر حيث كان عزم على الرحلة إلى الأندلس للقاء علمائها -من تلاميذ ابن عبد البر- للحصول على تلك المؤلفات، علاوة على ذلك انفردت هذه الرسالة بذكر تراجم مختصرة لبعض العلماء، وذكر بعض الأقوال في تحديد ولادة ابن عبد البر ووفاته، كما تفتّقت فيها شاعرية الحافظ السِّلفي فجادت قريحته بأبيات شعرية معبرة في مدح الإِمام مالك والثناء على تصانيف الحافظ ابن عبد البر؛ خصوصًا كتابه "الاستذكار"، وقد بلغ عدد الأبيات في مدحه كتاب الاستذكار أحد عشر بيتًا.
ومن المسائل العلمية التي احتوت عليها هذه الرسالة مسألة الخلاف بين أهل المشرق والمغرب في الإِجازة، وقد بين المؤلف رأيه في ذلك، وبهذا
1 / 11
تكون هذه الرسالة على وَجَازَتِهَا وصِغَم حجمها في غاية الأهمية لما تضمنته من فوائد وفرائد يبتهج بالاطلاع عليها طُلاَّبُ العلم وَرُوَّادُه، والله ولي التوفيق والسداد.
عناية العلماء بكتاب الاستذكار لابن عبد البر النمري:
قام الدكتور علي النجدي ناصف قبل أزيد من عشرين عامًا بتحقيق جزءين من كتاب الاستذكار (١)، ثم توقّف عن نشر بقية الأجزاء، وتأخّر صدور الكتاب كاملًا إلى سنة (١٤١٣ هـ) حيث أخرجه الدكتور عبد المعطي قلعجي في ثلاثين مجلدًا مع الفهارس.
وقد شغل هذا الكتاب اهتمام العلماء منذ القديم، فصرفوا عنايتهم إليه، وتجلّى ذلك في قيامهم باختصاره والجمع بينه وبين بعض شروح الموطأ الأخرى كالتمهيد لمؤلفه والمنتقى للباجي.
وبما أن رسالة الحافظ السِّلفي التي نحن بصدد التقديم لها تدخل في هذا الإِطار، فإنه من المناسب بيان ما وقفت عليه من جهود أهل العلم حول هذا الكتاب العظيم.
١ - شرع في الجمع بينه وبين كتاب التمهيد هشام بن أحمد المعروف بابن العواد الفقيه القرطبي (ت ٥٥٩ هـ)، ولم يكمله لوفاته (٢).
٢ - الجمع بين الاستذكار والمنتقى، لأبي الحسن علي بن عبد الله بن ملود اللُّمَائي المعروف بالمالطي القيرواني (ت ٥٣٧) (٣).
_________
(١) نشر من قبل المجلس الأعلى للشؤون الِإسلامية بمصر سنة ١٩٧٣ م.
(٢) انظر: الغنية للقاضي عياض، ص ٢١٧.
(٣) انظر: المعجم لابن الأبار، ص ٢٨١
1 / 12
٣ - الأنوار في الجمع بين المنتقى والاستذكار، لأبي عبد الله محمد بن سعيد المعروف بابن زرقون (ت ٥٨٦ هـ) (١).
٤ - المختار الجامع بين المنتقى والاستذكار (٢)، لأبي عبد الله محمد بن عبد الحق بن سليمان الكومي اليعفري، قاضي تلمسان (ت ٦٢٥ هـ) (٣).
٥ - اختصار كتاب الاستذكار، لأبي بكر محمد بن عبد الله بن أحمد الأنصاري الإِشبيلي القرطبي (ت ٦٣٠ هـ) (٤).
٦ - اختصار كتاب الاستذكار، لأبي الحسن علي بن إبراهيم بن علي الجذامي القاضي (ت ٦٣٢ هـ) (٥).
_________
(١) انظر: عنوان الدراية، ص ٢٦٣، ويوجد منه نسخة خطية بالخزانة الحمزاوية بإقليم الراشيدية بالمغرب، ولها صورة ميكروفيليمة بالخزانة العامة بالرباط برقم: ٢٢٢ حم، ويوجد بالمكتبة الأزهرية الجزء الثالث برقم: ٤٢ حديث، ويقع في ٢٨٤ ورقة، منسوخ في القرن السابع الهجري (انظر: الفهرس الشامل للتراث العربي الإِسلامي المخطوط/ الحديث وعلومه ١/ ٢٦١).
(٢) انظر: التكملة ٢/ ٦٢٣، وعنوان الدراية، ص ٣٧٤، ومنه نسخة خطية بالخزانة العامة بالرباط برقم (١٨٠/ ٤٠)، نسخت سنة ٧٣٠ هـ كتبها محمَّد بن قاسم بن عيسى، وتقع على ١٨٨ ورقة.
(٣) قال ابن الأبار: "كان حميد السيرة، مشاركًا في الفقه وعلم الكلام، معتنيًا بالحديث وروايته، معظمًا عند الخاصة والعامة، وجمع من الدواوين شيئًا عظيمًا"، وذكر ابن الأبار أيضًا أن كتابه هذا يقع في عشرين سفرًا في نحو ثلاثة آلاف ورقة، وكذلك قال ابن الجزري، وأما الذهبي فصرح بأنه في عشر مجلدات". (انظر: التكملة ٢/ ٦٢٣، وسير أعلام النبلاء ٢٢/ ٢٦١، وغاية النهاية ٢/ ١٥٩).
(٤) انظر: التكملة ٢/ ٦٣٠، قال الرعيني في ترجمته لمؤلف هذا المختصر: "كانت له عناية بالفقه وعكوف عليه، واختصر كتاب الاستذكار لأبي عمر ابن عبد البر اختصارًا حسنًا، ذاكرته في مواضع منه وتناولته من يده غير مرة". (انظر: برنامج الرعيني ص ١٣).
(٥) انظر: الديباج المذهب لابن فرحون، ص ٢١٠.
1 / 13
إثبات عنوان الرسالة، وبيان صحة نسبتها لمصنفها:
عنوان هذه الرسالة كما هو مثبت على الصحيفة الأولى من النسخة الخطية المحفوظة بالظاهرية: "مقدمة كتاب الاستذكار الذي ألفه أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ بالأندلس ﵀، في شرح ما رسمه الأمام أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي في مُوَطَّئِه رواية يحيي بن يحيي الليثي عنه ﵃ أجمعين" (١).
وأطلق الحافظ ابن رجب الحنبلي على هذه الرسالة: "مقدمة إملاء الاستذكار" (٢).
ويبدو لي أن الأنسب هو ما ذكره ابن رجب ﵀ لدلالته بوضوح على مضمون الرسالة، بعكس العنوان الأول الذي يحتمل أن يكون من وضع الناسخ نظرًا لطوله وعدم دقته، والله أعلم
أمّا بخصوص نسبتها إلى الحافظ السِّلفي فلا يتطرق أدنى احتمال للتشكيك في صحة ذلك؛ لقيام الدلائل القاطعة على ذلك منها:
(أ) ورد في أول الرسالة بعد ذكر العنوان نسبتها إليه.
(ب) وجود طباق السماع بآخر الرسالة مسندًا إليه.
(ج) موافقة مضامين الرسالة لما عرف من أخبار عن الحافظ السِّلفي في مصادر ترجمته، كمقامه بالإِسكندرية، وتدريسه بالمدرسة العادلية وغير ذلك.
(د) اقتباس الحافظ ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة (١/ ٢٢٣) من هذه الرسالة مصرحًا باسمها واسم مؤلفها.
_________
(١) نسخة الظاهرية ل ١١٦ ب (ضمن مجموع)، أمّا نسخة الخزانة المحمودية فكتب على أولها: "الجزء الأول من إملاءات في مجالس على موطأ الإِمام مالك"، ويبدو أنه من وضع الناسخ، والله أعلم.
(٢) ذيل طبقات الحنابلة ١/ ٢٢٣.
1 / 14
وصف النسختين الخطيتين المعتمدتين في التحقيق:
عثرت لهذه الرسالة على نسختين خطيتين:
الأولى: وهي من محفوظات المكتبة الظاهرية (مكتبة الأسد حاليًا)، وتقع ضمن مجموع برقم (٧١) (١)، ومنها صورة بقسم المخطوطات بالجامعة الإِسلامية بالمدينة النبوية ضمن مجموع (٤٨٤).
وتشتمل هذه النسخة على سبع لوحات (من ل ١١٦ إلى ١٢٠) كل لوحة تشتمل على وجهين، كل وجه يحتوي على ١٦ سطرًا، كل سطر يتضمن حوالي ١٢ كلمة، والخط الذي كتبت به مشرقي واضح سوى كلمات يسيرة وقع فيها طمس أو غموض تصعب معه القراءة.
وهذه النسخة مقابلة ومصحّحة فقد كتب في آخرها: "قوبل وصحّ إن شاء الله تعالى"، ومع نهاية كلام الحافظ السلفي كتب الناسخ: "وهذا أول الكتاب. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وآخر من نقل من كلام شيخنا والحمد لله"، ثم كُتِبَ بعد ذلك طباق السماع الذي يبين قراءة هذه النسخة على المؤلف من طرف الشيخ العدل أبي محمد عبد العزيز بن عيسى بن عبد الواحد اللخمي، وفيه بيان أسماء السامعين على المؤلف، وختم الناسخ أسماءهم بذكر اسمه، وهو حماد بن هبة الله بن حماد الحراني (٢)، ثم ذكر تاريخ السماع وهو يوم الجمعة السادس عشر من شوال من سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة بثغر الِإسكندرية المحروس بالمدرسة العادلية.
_________
(١) انظر: المنتخب من مخطوطات دار الكتب الظاهرية - قسم الحديث، ص ٣٠٢.
(٢) هو حماد بن هبة الله بن حماد بن الفضل أبو الثناء الحراني التاجر السَّفَّار، رحل إلى مصر والعراق وخراسان، وكتب وخرج وأفاد، قال الذهبي: "وكان له عمل جيد في الحديث"، ولد سنة ٥١١ هـ، وتوفي بحران سنة ٥٩٨ هـ قال ابن نقطة: "وكان ثقة". (انظر ترجمته في: التقييد لابن نقطة، ص ٢٥٨، والذيل لابن رجب ١/ ٤٣٤، وشذرات الذهب لابن الحماد ٤/ ٣٣٥).
1 / 15
أمّا أول الرسالة ففيه بيان العنوان واسم المؤلف، ونصّ وقف هذه النسخة على جميع المسلمين بالمدرسة الضيائية بسفح قاسيون، وتضمنت أيضًا نص سماع الشيخ حماد بن هبة الله الحراني، وهو الناسخ كما تقدم ذكره (١).
وقد اعتمدت هذه النسخة أصلًا في التحقيق لصحتها وضبطها ومكانة ناسخها، وإليها أشير بقولي: "الأصل".
أمّا النسخة الثانية: فهي من محفوظات المكتبة المحمودية الواقعة ضمن مجموعة المكتبات الوقفية التي تضمها مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة النبوية، ورقمها: ٣٩٦، وهي في الحقيقة مقدمة الجزء الأول من إملاءات في مجالس على موطأ الإِمام مالك ﵀ للعلامة أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السِّلفي.
وهذه النسخة غُفْلٌ من ذكر اسم الناسخ أو تاريخ النسخ، وتقع في ست ورقات ونصف الورقة، كل ورقة تتكون من جهتين، كل جهة تحتوي على حوالي سبع عشرة سطرًا، كل سطر يتضمن سبع كلمات تقريبًا، وهي بخط مغربي واضح، وهذه النسخة فيما يظهر عتيقة أيضًا، ويوجد بها بعض الاختلافات والفروقات مع نسخة الظاهرية، لكنها عارية من السماعات أو التصحيحات التي تدل على المقابلة، وبذلك تكون دون النسخة الأخرى -التي اتخذتها أصلًا- في الصِّحَّة والضّبط، وقد رمزت لهذه النسخة بحرف: "م".
منهجي في التحقيق:
ويتلخص ذلك في النقاط التالية:
١ - قدّمت للرسالة بدراسة موجزة.
٢ - قمت بنسخ الرسالة من نسخة الظاهرية التي اتخذتها أصلًا وفق
_________
(١) وكتب بعد ذلك أيضًا ما يدل على أن الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي قد تملك النسخة.
1 / 16
القواعد الإِملائية الحديثة، ثم قابلتها على نسخة المحمودية، ونبّهت على الفروق بينها وبين نسخة الأصل، ووضعت الزيادات في المتن بين معقوفين مع الإِشارة إلى ذلك في الهامش.
٣ - وثقت نقول المؤلف في هذه الرسالة من مصادرها الأصيلة.
٤ - اعتنيت بتوضيح مراد المؤلف في بعض المواطن من الرسالة.
٥ - شرحت بعض المصطلحات العلمية التي ذكرها المؤلف.
٦ - عرَّفت بالأعلام غير المشهورين ممن ورد ذكرهم في الرسالة.
٧ - عرّفت ببعض الأماكن والبلدان.
٨ - اعتنيت بضبط الأسماء والألفاظ.
إلى غير ذلك مما يجده القارئ في ثنايا الرسالة.
* * *
1 / 17
صورة لورقة العنوان من مخطوطة الظاهرية (الأصل)
1 / 18
صورة لبداية مخطوطة الظاهرية (الأصل)
1 / 19
صورة لنهاية مخطوطة الظاهرية (الأصل) وفيها يبدو طباق السماع
1 / 20