Munqidh
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
Noocyada
تتضمن كتابات أفلاطون ثلاث عشرة رسالة بالإضافة إلى محاوراته المعروفة وبعض المقطوعات الشعرية القصيرة «الأبيجرامات» المنسوبة إليه. وقد ضمت هذه الرسائل إلى مجموع مؤلفاته منذ القرن الثالث بعد الميلاد، ولعلها كانت جزءا لا يتجزأ منها منذ القرن الأول قبل الميلاد.
والرسالة السابعة هي أهم هذه الرسائل وأشهرها؛ إذ تعد ترجمة ذاتية سجل فيها الفيلسوف جانبا من حياته الشخصية، وقدم لنا وثيقة لا غنى عنها لمعرفة اهتمامه بالشئون العامة، وتطور موقفه من السياسة والحكم، وكفاحه في سبيل تطبيق نظرياته المثالية على الواقع العملي في صقلية، واعترافه بما أصابه من خيبة وإخفاق، ودفاعه عن فلسفته دفاعا مفعما بالعاطفة الممزوجة بالألم والمرارة.
والرسالة طويلة، تعادل في طولها سائر الرسائل الأخرى مجتمعة، أو إحدى المحاورات القصيرة التي تسمى محاورات الشباب. وهي وحدها التي نجت من الشك في نسبة الرسائل إلى أفلاطون. وربما شاركتها الرسالتان الثالثة والثامنة في إجماع العلماء على صحتها إجماعا يكاد أن يكون عاما. فقد كثرت الرسائل المزيفة في أواخر العصور القديمة، واستهوى هذا الشكل الأدبي عددا كبيرا من أصحاب البلاغة الذين استغلوه لإظهار قدرتهم البيانية، وحشوه بالمحسنات اللفظية والإشارات المستفيضة للحوادث التاريخية، ونسبوا هذه الرسائل إلى كثير من الشخصيات المشهورة. ولا يتسع المقام للتعرض للمناقشات الطويلة التي دارت حول أصالة رسائل أفلاطون أو زيفها. فقد استقر الرأي في العصر القديم على أصالة الرسالة السابعة وأصبح الإجماع اليوم تاما أو شبه تام على صحة نسبتها لأفلاطون.
1
أشار إليها شيشرون ووصفها في «المجادلات التوسكونية» (5-100) بأنها تلك الرسالة الشهيرة، وأفاد منها المؤرخ المشهور «بلوتارك» في الفصل الذي كتبه عن حياة «ديون» صديق أفلاطون وتلميذه الذي أغراه بزيارة صقلية أكثر من مرة كما سنرى. ومهما يكن من أمر الاعتراضات التي لا تزال توجه إليها، فليس في أسلوب كتابتها ولا في سياق أفكارها شيء يخالف أسلوب المحاورات المتأخرة وأفكارها، كما أنها تخلو من التصنع والحشو وبراعة الصقل والتأنق التي اتسمت بها الرسائل المنحولة التي اخترعها البلاغيون المتأخرون؛ فهي في مجموعها مضطربة غير متوازنة، متقطعة ثقيلة الخطا، حافلة في بعض أجزائها بأسرار يصعب سبرها وإدراك غورها، وفي أجزاء أخرى بالغضب والندم والانفعال الذي يرتفع مع ذلك فوق التعريض والتشفي والسخرية، أي إن فيها كل مميزات الكتابة الحية التي تتدفق مع تيار الاعتراف الجارف، ويسري فيها نبض الحكمة السمحة الطيبة.
والرسالة تستحق منا أن نقرأها بعناية واهتمام، فليست مجرد اعتراف شخصي أو ترجمة ذاتية أو سيرة حياة تلقي الضوء على طموح أفلاطون لتحقيق أفكاره وأحلامه، والأخطار التي تعرض لها في فترة من أهم فترات حياته، ومحاولته «إنقاذ» البشر من بؤسهم ومتاعبهم على يد «الملك الفيلسوف» الذي يجمع القوة والحكمة في شخصه، ويقيم الدستور، ويدعم سيادة القانون على الحاكم والمحكوم جميعا؛ وإنما هي - بجانب ذلك كله - نافذة تطل منها على قلبه الذي وقف دائما وراء فكره، ونتعرف على معالم فلسفته المتأخرة التي فصلها في محاورات الشيخوخة، ولكنه لم يستطع أن يعبر عنها هذا التعبير العاطفي الحي الدقيق الذي نجده في الرسالة السابعة.
إن الرسالة - في ظاهرها - رسالة سياسية موجهة من أفلاطون إلى حلفاء صديقه ديون في سيراقوزة (أو سراقسطة كما كان العرب يسمونها) على أثر اغتيال هذا الأخير مباشرة. ولكنها كذلك تبرير شخصي للدور الذي قام به - أو تورط فيه - في الأحداث التي جرت في هذه العاصمة الصقلية والمحن التي ألمت بها، بل تبرير لفلسفته ومدرسته «الأكاديمية» أمام الرأي العام الإغريقي وأمام العالم كله. والملاحظ أن هذه الرغبة الملحة في التبرير تتكرر في الرسالة بصورة صريحة، (راجع الفقرات 330ج، 337د، 339أ، والعبارة الأخيرة التي تأتي في ختامها 352أ)، كما أن النصائح التي يوجهها لحلفاء ديون وأصدقائه - تلبية لطلبهم - تختلط بهذا التبرير المستمر الذي يوشك في بعض الأحيان أن يطغى عليها. وتتغلغل العاطفة في هذين الموضوعين الأساسيين اللذين تدور حولهما الرسالة، فهو يلح على الأصدقاء بالنصيحة ويستحثهم على الاقتداء بسيرة زعيمهم، ولكنه لا يعلق عليهم الأمل ولا يتوقع منهم الاستجابة. وهو يدافع عن نفسه وفلسفته وسمعة مدرسته وبلده، ولكنه دفاع لا تخطئ فيه الأذن نغمة الكبرياء الجريحة ومرارة الإحساس بالإهانة وشدة السخط على أعدائه الذين تمكن الشر منهم حتى يئس من هدايتهم إلى طريق الخير والحق والفضيلة. والواقع أن هذا الدفاع - أو التبرير - هو الهدف الأساسي من كتابة الرسالة، مهما أوحى إلينا بأنه مجرد هدف ثانوي بجانب الرد على حلفاء ديون. ولن نقدر هذا حتى نعرف شيئا يسيرا عن الأحوال السياسية في صقلية، والأسباب التي أدت بالفيلسوف إلى زيارتها والوقوع في شبكتها المعقدة.
زار أفلاطون صقلية ثلاث مرات، كانت زيارته الأولى لها سنة 388ق.م وهو في حوالي الأربعين من عمره . ولم تكن زيارة صقلية هي غرضه الأول؛ إذ انتهى به المطاف إليها بعد رحلة دراسية حل فيها ضيفا على صديقه النبيل «أرخيتاس» حاكم «تارنت» في جنوب إيطاليا ورأس المدرسة الفيثاغورية فيها. ولسنا نعرف - في الحقيقة - ما الذي دفعه إلى زيارة سيراقوزة، ولا ندري أيضا إن كان قد اتصل بالطاغية ديونيزيوس الأول الذي كان يحكمها في ذلك الحين،
2
ولكن القدر أتاح له أن يكسب صديقا سيظل يذكره ويعتز - طوال حياته - بوفائه وتضحيته وسيرته «الفلسفية» الحقة. ذلك هو «ديون» صهر الطاغية وشقيق إحدى زوجتيه، وكان يبلغ من العمر زهاء اثنين وعشرين عاما. اشترك الصديقان في حوار فلسفي أثر على ديون وحول شخصيته إلى درب الفلسفة تحويلا تاما. ولمست عصا المربي الساحرة أعماق الصديق الشاب، فانطوى على نفسه في البلاط الذي كان يموج بالدسائس والمؤامرات، وعكف على الحياة في عالم المثل الذي جذبه إليه المعلم الأثيني الكبير.
Bog aan la aqoon