Debates of Ibn Taymiyyah with the Jurists of His Time

مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره

Publisher

دار الكتاب العملي

Publication Year

1405 AH

مناظرات ابن تيمية

مع فقهاء عصره

تأليف

الدكتور السيد الجميلي

1

جميع الحقوق محفوظة

لِدار الكِتَابُ العَرَبي

بَيرُوت

الطبعة الأولى

١٤٠٥ هـ - ١٩٨٥ مـ

دار الكتاب العربي

الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع

تلفون: ٨٠٥٤٧٨/٨٠٠٨١١/٨٠٠٨٣٢
تلكس: ٤٠١٣٩ LE كتاب
برقيا: الكتاب ص. ب: ٥٧٦٩ - ١١ بيروت - لبنان

2

مَنَاظراتْ ابن تيمية

3

-

4

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة لا بد منها

- [ كلنا أهل القبلة موحدون، وما اختلفنا فيه بعضنا مع البعض الآخر من مسائل في الفروع أو الأصول إنما هي مجال بحث ودراسة وتمحيص يناط به إظهار الحجة ومقارنة الأدلة، وهذا هو دأب العلماء وأولي الفضل، ونحن نرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا إليه دائماً وهو المستعان على كل خير. ]

والله غالب على أمره.

5

-

6

المقدمة

إن الحمد لله رب العالمين، وحده لا شريك له، وأصلي وأسلم على خير خلقك، وأكرم رسلك وأعظم أنبيائك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.

فإني أؤثر قبل كل شيء، وقبل أي شيء، أن أوضح وأجلو أمراً بالغ الأهمية ألا وهو أننا لا نحمل على شخص، ولا طائفة معينة بذاتها ولا نرجو ذلك ولا نتمناه، إنما هي مناقشة أفكار ودراسة آراء وإبداء وجهات نظر، قد يضيق بها البعض كما قد يغبط بها آخرون، والرائد كما قال سيدنا رسول الله ﷺ لا يكذب أهله.

وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من كبار أئمة الدين ومن عظام نقهائه الذين نافحوا عن الدين وذبوا عن التوحيد وأثروا الفقه الإسلامي بالعطاء الجزل والفهم القويم.

وقد كانت الخصومة بينه وبين أعدائه ضارية حامية الوطيس لم يخب سعيرها لحظة حتى لقى الرجل ربه ولقوا ربهم أجمعون وقد أفضوا إلى ما قدموا.

- ونحن لا نضم صوتنا لفريق دون فريق إلاّ بحجة وبرهان ودليل واقتناع فليس أحب إلى نفوسنا من الحق والعدل والصواب ونحن لا نقدس أشخاصاً كما

7

لا نعترض على أشخاص بذواتهم إنما التعصب للفكر، والتحزب على الفكر، عن علم وهدى وبصيرة، لأن التعصب الأعمى لا يصدر إلا من الجهل العظيم الذي نربأ بأنفسنا عنه كما لا نرضاه لأحد من أهل القبلة الموحدين.

وليس ابن تيمية، ولا ابن القيم ولا أحدٌ ممن سبقهم أو خلفهم يستطيع أن يدعى العصمة لنفسه، فمن ادعى ذلك فقد ورَّط نفسه في حماقة الغرور التي يدين إليها فساد الملكات الإِنسانية الخيرة من قديم الزمان.

ولو أن أحداً من السلف أو الخلف خالف صريح النص القرآني أو السنة الصحيحة المأثورة عن سيدنا رسول الله ﷺ، فنحن أبرياء منه بل في حل من رأيه ومذهبه، وقد برئت ذمة الله منه.

والحكمة ضالة المؤمن، وبها تتطهر النفس البشرية من أوضار ورجس الشيطان ونزواته التي ينزو بها على الفطرة البريئة الموحدة في نفس الإِنسان فيفسد عليها استقامتها وعبوديتها.

والذي ينشد الحكمة في غير كتاب الله ضالٌ مضلٌ مبتدعُ دعيٌ كذابٌ أشرٌ لا يقبل الله منه عدلاً ولا صرفاً، كذلك الذي يتتبع سقطات العلماء فهو عطل من الفضيلة عارٍ من الخلق القويم، لأن عورات المسلمين منوطة بالكتمان وعلى الله قصد السبيل وهو يتولى السرائر، (حتى لا يظن ظان أننا نعمد إلى إثارة حرب فكرية بين أنصار السلف وأهل الإبتداع إنما التعويل كله على بيان الحجج والبراهين ومقارنة الأدلة، والمقيم على عقيدة لا يطيق تغييرها إلاَّ بإرادة الله سبحانه وتعالى في الخير له، وفي يقيني أن الإنسان لا يبدأ بعيش الفضيلة إلاَّ عندما يبدأ محاسبة نفسه وتوبيخها على إسرافها في الأمر وتقصيرها في جنب الله.

والذي أحب بيانه أننا لسنا ممن يستثمرون اللحى، ولا يتناحرون على الغانية ولا يرمون إلى سلطان زائل إنما مرادنا هو مرضاة الحق جل شأنه، ودحر الجهل الذي ران على كثير من القلوب ولولاه لصلح أمر كثير من الناس المخطئون.

ولا جرم أن عنصر الخير موجود في أمة رسول الله ﷺ والفضيلة حرية بأن

8

تجمع أصحابها وذويها على المحبة والتواد والتراحم لأنها من قيم الإِسلام، وكثير من إخواني وأصدقائي ابتلاهم الله في نفوسهم وأهليهم وأموالهم فزالت نعمهم لكن لم تزل مروءاتهم التي ظلوا عليها مقيمين وبها مطمئنين، ويحمل الكل على أهل الفضل. أجل. وفي هذه الدراسة نروي ونحقق ما ورد بين شيخ الإِسلام ابن تيمية ونظرائه وشانئيه من مناظرات ومحاورات ومجالس من واقع مراجع التاريخ الشهيرة كالبداية والنهاية أو تاريخ ابن كثير، وتاريخ الطبري ومجموع الفتاوي وغيرها من المصادر العريقة المعتمدة.

فلقد استهوتني هذه المناظرات لما فيها من علم وفضل وفقه وتجربة وجدل ومحاورة ومقارعة ومناوشة، فلما أحسست بالمتعة مضاعفة، رأيت أن أنقل هذه المتعة إلى قرائي الأعزاء لعلي أظفر بدعوة بظهر الغيب لقاء ما بذلته في جمع شتات هذه المجالس والمناظرات التاريخية، وما صبرت عليه من جهد في الشرح والتعليق.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا السوء وأن يصرفنا إلى طاعته، وأن يحبب الخير إلينا ويحبينا فيه، وأن يقينا شر نفوسنا وأن يجمعنا بالصالحين في دار المقامة، إنه على كل فضل وخير مستعان، وله الحمد في الأولى والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

القاهرة في أكتوبر سنة ١٩٨٤م. السيد الجميلي

المحرم سنة ١٤٠٥ هـ.

9

-

10

المناظرة التاريخية الجلية

بين ابن تيمية وابن عطا الله السكندري رحمهما الله

هذه المناظرة التاريخية جليلة القدر عظيمة القيمة بين الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية كبير أعلام السلف المتمسكين بالكتاب والسنة والإجماع، وبين الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري وهو بدوره من كبار علماء ورجال التصوف الذين طبقت شهرتهم الآفاق وقد مارس التصوف عن وعي وعلم وبصيرة.

وهذه المناظرة ذات قيمة تاريخية، وذات أهمية علمية وفقهية لأنها بين علمين كبيرين، وهي تتناول مواضيع في غاية الحيوية تمس عقيدة الإسلام، وهي تناقش قضية التصوف وما تصل بها من فروع ومسائل مثل التوسل، وموقف كل من الشيخين من الشيخ محيي الدين بن عربي.

وقد تحدث عن هذه المناظرة وأمثالها من مناظرات ومجالس ابن تيمية كثير من الأئمة والمؤرخين مثل ابن كثير والعديد من العلماء الذين أرَّخوا لكبار الأئمة.

وقد نقلها من المحدثين الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، ونقلتها منه أيضاً مجلة المسلم الصادرة عن العشيرة المحمدية بالقاهرة (العدد ٤، ٥) الصادر في ٢٠ من أغسطس ١٩٨٢م. الموافق غرة ذي القعدة سنة ١٤٠٢ هـ (السنة الثالثة والثلاثون).

11

وقد حدثت هذه المناظرة التاريخية في عصر الملك الناصر محمد بن قلاوون(١). لما أن نفى الشيخ ابن تيمية إلى الإسكندرية، وكان قد ألف حياة السجن حيث قضى فيه أغلب أوقات عمره وشبابه، حتى أنه كان يجد فيه متعة نفسية طيبة فقال قولته الشهيرة (حبسي خلوة وقتلي شهادة، ونفيي سياحة) فوجئ الإمام الفقيه المناضل المعذب بغتة بالعفو عنه، فجاء إلى القاهرة، ثم ذهب ليصلي المغرب بالأزهر خلف الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري.

وكما قلنا سلفاً أن الفضيلة تجمع أصحابها على المحبة والمودة والتآلف والتراحم، مهما بلغت درجات الاختلاف ووجهات النظر، فإن القدماء والمحدثين متفقون جميعاً على أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

وبالنقاء والصفاء النفسي بعيداً عن السخائم والإحن تتطهر النفوس من حوبها وأوضارها، وإني لأطمئن إلى الحكمة (أن أختلف مع ألف عالم خير لي وأطيب من الاختلاف مع جهول واحد) وعداوة الجاهل خير من صداقته.

وبعد صلاة المغرب، فوجئ ابن عطاء الله بالشيخ أحمد بن تيمية يصلي خلفه، فهش له، واغتبط به، وهنأه بسلامة الوصول.

ثم قال له ابن عطاء الله: - "ألفتُ أن أصلي المغرب في جامع مولانا الحسين، وأصلي العشاء هنا، فانظر تقدير الله.. قدر لي أن أكون أول من يلقاك... أعاتب أنت عليَّ يا فقيه؟".

فقال ابن تيمية: - "أعرف أنك ما تعمدت إيذائي، ولكنه الخلاف في الرأي، على أنَّ كلَّ من آذاني فهو منذ اليوم في حل مني".

قال ابن عطاء الله: "ماذا تعرف عني يا شيخ ابن تيمية؟".

قال: "أعرف عنك الورع، وغزارة العلم، وحدة الذهن، وصدق القول، وأشهد أني ما رأيت مثلك في مصر ولا في الشام حباً لله أو فناء فيه، أو انصياعاً لأوامره ونواهيه، ولكنه الخلاف في الرأي، فماذا تعرف عني أنت؟ هل تدعي عليَّ بالضلال إذ أنكر استغاثة غير الله؟".

(١) الملك ناصر الدين محمد ١٢٨٥ - ١٣٤١ ابن السلطان قلاوون تاسع المماليك البحريين.

12

قال ابن عطاء الله السكندري: أما آن لك يا فقيه أن تعرف أن الاستغاثة هي الوسيلة والشفاعة، وأن الرسول ﷺ يستغاث ويتوسل به ويستشفع؟.

قال ابن تيمية: أنا في هذه أتبع السنة الشريفة، فقد جاء في الحديث الصحيح (أعطيت الشفاعة) وقد أجمعت الآثار في تفسير الآية الشريفة: ﴿عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً﴾(١) على أن المقام المحمود هو الشفاعة.

والرسول ﷺ لما ماتت أم أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما، دعا لها الله على قبرها:

((الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين)) فهذه هي الشفاعة، أما الاستغاثة ففيها شبهة الشرك بالله تعالى.

وقد أمر الرسول ابن عمه عبد الله بن العباس ألا يستعين بغير الله.

قال ابن عطاء الله: أصلحك الله يا فقيه، أما نصيحة الرسول ﷺ لابن عباس فقد أراد منه أن يتقرب إلى الله بعلمه لا بقرابته من الرسول وأما فهمك أن الاستغاثة استعانة بغير الله فهي شرك، فمن من المسلمين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ورسوله يحسب أن غيره تعالى يقضي، ويقدر، ويثيب ويعاقب؟!.

فإنما هي ألفاظ لا تؤخذ على ظاهرها ولا خوف من الشرك لنسد إليه الذريعة، فكل من استغاث الرسول ﷺ، فهو إنما يستشفع به عند الله مثلما تقول أنت أشبعني هذا الطعام، فهل الطعام هو الذي أشبعك أم أن الله تعالى هو الذي أشبعك بالطعام؟.

(١) الإسراء (٧٩/١٩) والمقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون هو مقام الشفاعة العظمى، يقول المفسرون (عسى) في كلام الله سبحانه وتعالى للتحقيق، لأنه وعد الكريم ولأن وعد الكريم محقق فهو لا يتخلف ولا بد من تحقيقه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: عسى من الله واجبة تفيد القطع. راجع صفوة التفاسير للشيخ الصابوني (٧٦٨/١٥) بتصرف.

13

وأما قولك أن الله نهانا أن ندعو غيره، فهل رأيت من المسلمين أحداً يدعو غير الله؟.

إنما نزلت هذه الآية في المشركين الذين كانوا يدعون آلهتهم من دون الله، إنما يستغيث المسلمون محمداً ﷺ بمعنى التوسل بحقه عند الله، والتشفع بما رزقه الله من شفاعة، أما تحريمك الاستغاثة لأنها ذريعة إلى الشرك، فإنك كمن أفتى بتحريم العنب لأنه ذريعة إلى الخمر، ونخصي الذكور غير المتزوجين سداً للذريعة إلى الزنا. وضحك الشيخان!!!

واستطرد ابن عطاء الله، وأنا أعلم ما في مذهب شيخكم الإمام أحمد من سعة، وما لنظرك الفقهي من إحاطة، وسد الذرائع يتعين على من هو في مثل حذقك، وحدة ذهنك، وعلمك باللغة أن يبحث عن المعاني المكنونة الخفية، وراء ظاهر الكلمات، فالمعنى الصوفي روح، والكلمة جسد، فاستقصى ما وراء الجسد، لتدرك حقيقة الروح.

ثم استطرد ابن عطاء الله يقول: ثم إنك اعتمدت في حكمك على ابن عربي، على نصوص قد دسها عليه خصومه، وأما شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام فإنه لما فهم كتابات الشيخ، وحل رموزها وأسرارها، وأدرك إيحاءاتها استغفر الله عما سلف منه، وأقر بأن محيي الدين بن عربي إمام من أئمة الإسلام.

وأما كلام الشاذلي ضد ابن عربي فليس أبو الحسن الشاذلي هو الذي قاله، بل أحد تلاميذه من الشاذلية، وهو ما قاله في الشيخ ابن عربي، بل قاله في بعض المريدين الذين فهموا كلامه على غير وجهه.

وسأل ابن عطاء الله مرة أخرى: وما رأيك في الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟.

أجاب ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه: في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)).

14

هو المجاهد الذي لم يبارز أحداً إلا غلبه، فسن للعلماء والفقهاء من بعده أن يجاهدوا باللسان والقلم والسيف جميعاً في سبيل الله.

وكان كرّم الله وجهه أقضى الصحابة، وكلماته سراج منير أستضيء به في حياتي بعد الكتاب والسنّة: (وآه من قلة الزاد وطول السفر ووحشة الطريق!).

فقال ابن عطاء الله: فهل يسأل أمير المؤمنين الإمام علي كرم الله وجهه عن بعض من شايعوه، فقالوا: أن جبريل أخطأ، فجاء بالرسالة محمداً بدلاً من علي؟ أو عن الذين زعموا أن الله حل في جسده، فصار الإمام إلهاً، ألم يقاتلهم؟! ويقتلهم؟! أما أفتى بقتلهم أينما ثقفوا؟!

قال ابن تيمية: (وبهذه الفتوى خرجت لقتالهم في الجبل بالشام منذ أكثر من عشرة أعوام).

قال ابن عطاء الله: والإمام أحمد رضي الله عنه: أيسأل عما فعله بعض أتباعه، من كبس الدور، وإراقة الخمور، وضرب المغنيات والراقصات واعتراض الناس في الطرقات باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما أفتى رضي الله عنه بتعزير هؤلاء فجُلدوا وسُجنوا وطيف بهم مقلوبين على ظهور الحمير، أم هل الإمام أحمد رضي الله عنه مسؤول عن تلك الأعمال التي ما زال أراذل الحنابلة يأتونها حتى يومنا هذا باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فالشيخ محيي الدين بن عربي بريء مما يصنعه أتباعه من إسقاط التكاليف الدينية، واقتراف المحرمات، أترى هذا.

قال ابن تيمية: ولكن أين تذهبون من الله وفيكم من يزعم أنه بشر الفقراء بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فسقط الفقراء منجذبين، ومزقوا ملابسهم، وعندئذ نزل جبريل وقال للنبي ﷺ إن الله تعالى يطلب حظه من هذه المزق فحمل جبريل واحدة منها، وعلقها على عرشه تعالى، ولهذا يلبس الصوفية المرقعات ويسمون أنفسهم الفقراء.

15

قال ابن عطاء الله : ما كل الصوفية يلبسون الخرق، وهأنذا أمامك فما تنكر من هيئتي؟!.

قال ابن تيمية : أنت من رجال الشريعة، وصاحب حلقة في الأزهر.

* * *

قال ابن عطاء الله: والغزالي كان إماماً في الشريعة والتصوف على السواء وقد عالج الأحكام والسنن والشريعة بروح المتصوف وبهذا المنهاج استطاع إحياء علوم الدين.

نحن نُعلم الصوفية أن القذارة ليست من الدين، وأن النظافة من الإيمان، وأن الصوفي الصادق يجب أن يعمر قلبه بالإيمان الذي يعرفه أهل السنة.

لقد ظهر بين الصوفية منذ قرنين من الزمان، أشياء كالتي تنكرها الآن واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات... وادعوا أنهم تحرروا من رق الغفلات والأغلال، ثم لم يروضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أغلى الحقائق والأحوال كما وصفهم القشيري الإمام الصوفي العظيم فوجه إليهم الرسالة القشيرية، ترسم طريق الصوفي إلى الله، وهي تمسكه بالكتاب والسنة. إن أئمة الصوفية يريدون الوصول إلى الحقيقة، ليس فقط بالأدلة العقلية التي تقبل العكس بل بصفاء القلب ورياضة النفس، وطرح الهموم الدنيوية، فلا ينشغل العبد بحب غير الله ورسوله.

وهذا الانشغال السامي، يجعله عبداً صالحاً، جديراً بعمارة الأرض، وإصلاح ما أفسده حب المال والحرص على الجاه والجهاد في سبيل الله.

* * *

وقال ابن عطاء الله: إن الأخذ بظاهر المعنى يوقع في الغلط أحياناً يا فقيه، ومن هذا رأيك في ابن عربي، وهو إمام ورع من أئمة الدين، فقد فهمت

16

ما كتبه على ظاهره، والصوفية أصحاب إشارات وشطحات روحية ولكلماتهم أسرار.

قال ابن تيمية: هذا الكلام عليك لا لك.

فالقشيري(١) لما رأى أتباعه يضلون الطريق قام عليهم ليصلحهم، فماذا فعل شيوخ الصوفية في زماننا؟؟!!.

إنما أريد من الصوفية أن يسيروا على سنة هذا السلف العظيم من زهاد الصحابة، والتابعين وتابعيهم بإحسان، إني أقدر من يفعل منهم ذلك وأراه من أئمة الدين.

أما الابتداع، وإدخال أفكار الوثنيين من متفلسفة اليونان، وبوذية الهند، كادعاء الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ونحو ذلك مما يدعو إليه صاحبك فهذا هو الكفر المبين.

***

قال ابن عطاء الله رضي الله عنه: ابن عربي(٢) رضي الله عنه كان أكبر فقهاء الظاهر بعد ابن حزم(٣) الفقيه الأندلسي المقرب إليكم يا معشر الحنابلة. كان ابن عربي ظاهرياً، ولكنه يسلك إلى الحقيقة طريق الباطن، أي تطهير الباطن!! وليس كل أهل الباطن سواء!!.

(١) القشيري: هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوري القشيري، زين الإسلام؛ شيخ خراسان في عصره، زهداً وعلماً أقام بنيسابور وتوفي فيها سنة ٤٦٥ هـ. راجع تاريخ بغداد (٨٣/١١) وطبقات السبكي (٢٤٣/٣ - ٢٤٨) ووفيات الأعيان (٢٩٩/١).

(٢) ابن عربي: هو محمد بن علي بن محمد بن العربي أبو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف بمحيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر وهو صاحب الفتوحات المكية، فصوص الحكم وصاحب نظرية الحلول والاتحاد وهو إمام يجله الصوفية ويعتبرونه من الأقطاب والأولياء الخلصاء وقد كفره ابن تيمية ورماه بالزندقة. توفي سنة ٦٣٨ هـ. ميزان الاعتدال (١٠٨/٣) فوات الوفيات (٢٤١/٢) ومفتاح السعادة (١٨٧/١) ولسان الميزان (٣١١/٥) وجامع كرامات الأولياء (١١٨/١).

(٣) ابن حزم: هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، أبو محمد: عالم الأندلس في عصره، وأحد أئمة الإسلام، ولد بقرطبة سنة ٣٨٤هـ وتوفي في بادية (لبلة) من بلاد الأندلس سنة =..

17

ولكيلا تضل أو تنسى أعد قراءة ابن عربي بفهم جديد لرموزه، وإيحاءاته تجده مثل القشيري، قد اتخذ طريقه إلى التصوف في ظل ظليل من الكتاب والسنة، إنه مثل حجة الإسلام الشيخ الغزالي(١) يحمل على الخلافات المذهبية في العقائد والعبادات، ويعتبرها انشغالاً بما لا جدوى منه، ويدعو إلى أن محبة الله هي طريقة العابد في الإيمان فماذا تنكر من هذا يا فقيه؟ أم أنك تحب الجدل الذي يمزق أهل الفقه، لقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يحذر من الجدل في العقائد، ويقول: (كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص الدين).

قال الغزالي: (اعلم أن الساعي إلى الله تعالى لينال قربه هو القلب دون البدن، ولست أعني بالقلب اللحم المحسوس، بل هو سر من أسرار الله عز وجل لا يدركه الحس).

إن أهل السنة هم الذين لقبوا الغزالي - شيخ المتصوفة - بحجة الإسلام، ولا معقب على آرائه، فقد غالى بعضهم في تقدير كتابه إحياء علوم الدين فقال: - (كاد الإحياء أن يكون قرآناً).

***

إن أداء التكاليف الشرعية في رأي ابن عربي، وابن الفارض، عبادة محرابها الباطن، لا شعائر ظاهرية، فما جدوى قيامك وقعودك في الصلاة إذا

= ٤٥٦ هـ حيث لجأ إليها طريداً من ملوك وسلاطين الأندلس، حيث اتهمه فقهاء عصره وعلمائه بالادعاء عليه لأنه تناولهم وانتقدهم فاستطالوا عليه وسعوا بالفتن والمؤامرات عليه. وقد خلف ابن حزم نحواً من أربعمائة مجلد وهو ما يقع في قرابة ثمانين ألف ورقة.

نفح الطيب (٣٦٤/١) ولسان الميزان (١٩٨/٤) ووفيات الأعيان لابن خلكان (٣٤٠/١) واللباب (٢٩٧/١).

(١) الغزالي: هو محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي الطوسي، فيلسوف المتصوفة، وإمام الباطنية، لقِّب حجة الإسلام، له نحو مائتي مصنف ولد سنة ٤٥٠ هـ وتوفي سنة ٥٠٥ هـ بالطابران (قصبة طوسٍ بخراسان) ورحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد فالحجاز ثم بلاد الشام ثم مصر، ثم عاد أخيراً إلى بلدته وتوفي فيها رحمه الله.

وفيات الأعيان (٤٦٣/١) وطبقات الشافعية (١٠١/٤) ومفتاح السعادة (١٩١/٢ - ٢١٠) وآداب اللغة (٩٧/٣).

18

كنت مشغول القلب بغير الله؟! مدح الله تعالى أقواماً بقوله تعالى ﴿الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾(١) وذم أقواماً بقوله: ﴿الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾(٢) وهذا هو الذي يعنيه ابن عربي بقوله إن التعبد محرابه القلب أي الباطن لا الظاهر.

إن المسلم لا يستطيع أن يصل إلى إدراك علم اليقين، وعين اليقين، إلا إذا أفرغ قلبه مما يشوش عليه من أطماع الحياة الدنيا، وركز في التأمل الباطني فغمرته فيوض الحقيقة، ومن هنا تنبع قوته.

***

الصوفي الحق - كما يقول ابن عطاء الله - ليس هو الذي يستجدي قوته، ويتكفف الناس، إنما هو الصادق الذي يهب روحه وقلبه، ويغني في الله بطاعة الله، ومن هنا تنبع قوته، فلا يخاف غير الله.

ولعل ابن عربي قد أثار عليه بعض الفقهاء لأنه أزرى على اهتمامهم بالجدل في العقائد، مما يشوش على صفاء القلب، ثم في وقوع الفقه وافتراضاته فأسماهم (فقهاء الحيض) وأعيذك بالله أن تكون منهم.

ألم تقرأ قول ابن عربي (من يبني إيمانه بالبراهين والاستدلالات فقط لا يمكن الوثوق بإيمانه، فهو يتأثر بالاعتراضات، فاليقين لا يستنبط بأدلة العقل إنما يعترف من أعماق القلب).

ألم تقرأ هذا الكلام الصافي العذب قط؟!!

(١) المؤمنون (٢٣/٢).
قال ابن عباس عن قوله تعالى ﴿الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾ أي خائفون ساكنون، متذللون في صلاتهم لجلال الله وعظمته لاستيلاء الهيبة على قلوبهم.

(٢) الماعون (١٠٧/٥) لما نزلت هذه الآية قال ابن عباس: الحمد لله الذي قال ((عن صلاتهم)) ولم يقل ((في صلاتهم)) فما من أحد إلا وهو يسهو في الصلاة. وقال المفسرون إنه تعالى لما قال (عن صلاتهم) علم أنها في المنافقين.

راجع الفخر الرازي الكبير (٣١/١٦٢) بتصرف وكذلك الجامع لأحكام القرآن (٢٠/٢١١) ط. دار الكتب.

19

قال ابن تيمية : أحسنت والله - إن كان صاحبك كما تقول فهو أبعد الناس عن الكفر، ولكن كلامه لا يحمل على هذه المعاني فيما أرى.

قال ابن عطاء الله: إن له لغة خاصة، وهي مليئة بالإشارات والرموز والإيحاءات، والأسرار والشطحات.

ولكن فلنشتغل بما هو أجدى، وبما يحقق مصلحة الأمة فلنشتغل بدفع الظلم، وحماية العدل المنتهك، أرأيت ما فعله بيبرس وسلار بالرعية منذ خلع الناصر نفسه، فانفرد بالحكم، وإن عاد السلطان الناصر وهو يؤثرك على كل الفقهاء. ويستمع لك فأسرع إليه وانصح له.

20