Munaadolojiya
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
Noocyada
ينفي ليبنتز أن يكون الترابط بين الجسد والنفس من النوع السكوني (أو الإستاتيكي)؛ لأنه في الحقيقة يعبر عن علاقة حية إلى أبعد حد. فكل الأجسام في حالة تغير وتحول دائمين، وحتى الأجسام العضوية تفقد باستمرار بعض الأجزاء وتكتسب أجزاء غيرها. وما نسميه «الموت» لا يعدو أن يكون حالة خاصة من أحوال التغير الدائم والصيرورة المتجددة. والنفس تفقد جزءا من المونادات التي تتحكم فيها، ولكنها تحتفظ بأجزاء أو تكسب أجزاء أخرى، ولهذا فليس هناك موت بالمعنى الطبي الدقيق لهذه الكلمة.
وهذا هو ما يعبر عنه ليبنتز في المونادولوجيا (72-73) بقوله: «وهكذا فإن النفس لا تغير جسمها إلا ببطء وبالتدريج، بحيث لا تجرد أبدا من جميع أعضائها دفعة واحدة، وكثيرا ما يتم التحول بين الحيوانات، ولكن تقمص الأرواح أو تناسخها لا وجود له على الإطلاق، كذلك لا توجد نفوس قائمة بنفسها أو مستقلة تمام الاستقلال (عن الأجسام) ولا أرواح بغير أجسام. إن الله وحده منزه عن الجسمية كل التنزيه، ولهذا السبب لا يوجد أبدا تولد كامل ولا موت كامل بالمعنى الدقيق، أي بمعنى انفصال النفس عن الجسد. وما نسميه بالتوالد إنما هو نوع من التطور والنمو، أما ما نسميه بالموت فهو انكماش وتناقص.»
هكذا يحاول ليبنتز أن يقلم مخالب الموت، ويجعل منه حالة خاصة من العمليات البيولوجية العادية، ولا شك أن هذا شيء يستثير سخطنا ودهشتنا؛ فالموت يحيط بنا في كل لحظة، وليس مجرد ضيف ثقيل نلقاه في نهاية الطريق، إنه مأساة تخيم على وجودنا كله، ولولا تحديه الدائم ما كان فن ولا أدب ولا فلسفة، هو الصخرة الخالدة التي تدمي أجسادنا وأرواحنا على مر العصور، من قلل من خطره أو أخذه مأخذا هينا حرم نفسه أعمق ينابيع التأمل الفلسفي، ومن واجهه بالكلمات الفخمة والبطولات الطنانة أضاع سره العظيم المخيف (فالفلسفة تأمل دائم للموت كما يقول أفلاطون)، وكلام ليبنتز عن الموت يوحي بأنه لم يفهم شيئا عن هذا الجانب المظلم من وجود الإنسان وقدره. ولعله أيضا أن يحملنا على مواجهة تفاؤله العقلي بالابتسام المرير، بدلا من أن يشجعنا على الفرح والبهجة بالحياة في «أفضل عالم ممكن!»
إذا كانت العلاقة بين العقل والجسد العضوي شرطا لا غنى عنه لوجود العقل نفسه، فما هي طبيعة هذه العلاقة؟ هل يمكن أن تكون نوعا من التفاعل المشترك بينهما؟ وهل يستقيم هذا مع فكرته عن انعزال المونادات التي لا نوافذ لها؟ ألا يكون قد خان هذه الفكرة الأساسية في مذهبه؟
الحق أنه ظل على وفائه لهذه الفكرة؛ ولهذا نجد عنده في النهاية نوعا غريبا من ثنائية النفس والجسم، وهي ثنائية لم تنشأ عن اختلاف طبيعة الطرفين وماهيتهما، كما هو الحال مثلا عند ديكارت، بل جاءت من أن كليهما له طبيعة المونادة، وهذه الطبيعة تحتم عليهما الانعزال والاكتفاء الذاتي، ولكن هذا لم يمنعه من القول بوحدة النفس والجسم، وهو يفسر هذه الوحدة بنفس الطريقة التي يفسر بها وحدة العالم في مجموعه، أعني بالرجوع إلى فكرته عن الاتساق المقدر أو التجانس والتواؤم السابق في علم الله. استمع إليه وهو يقول: «وقد أتاحت لي هذه المبادئ وسيلة تفسير اتحاد النفس مع الجسم العضوي، أو بالأحرى اتساقها معه تفسيرا طبيعيا. إن النفس تتبع قوانينها الخاصة، كما يخضع الجسم لقوانينه الخاصة، وهما يتوافقان بفضل الاتساق المقدر بين جميع الجواهر؛ لأنها جميعا تمثلات عالم واحد بعينه» (المونادولوجيا 78). •••
إذا كانت هذه هي طبيعة العلاقة بين العقل الإنساني والجسم، فما هو القول في نشاط العقل وفاعليته؟
يرى ليبنتز أن معرفة الإنسان ونشاطه العقلي هي التي تحدد طبيعته. يقول في الفقرة التاسعة والعشرين من المونادولوجيا: «بيد أن المعرفة بالحقائق الضرورية والأبدية هي التي تميزنا عن الحيوانات الخالصة، وبها نحصل على العقل، ونتزود بالعلوم، حين ترتفع بنا إلى المعرفة بأنفسنا وبالله، وهذا هو الذي يسمى فينا بالنفس العاقلة أو العقل» (29).
ولكن عملية الإدراك ليست مقصورة على الإنسان، فالحيوانات تدرك أيضا، وهي قادرة على الربط بين المدركات عن طريق الخبرة والذاكرة. والمثل الذي يذكره ليبنتز يوشك بالإلهام والحدس الصائب أن يستبق تجارب بافلوف الشهيرة، إذ يكفي كما يقول أن يرى الكلب العصا التي ضربه بها سيده لكي يعوي وينجو بجلده؛ لأنه تذكر الألم الذي سببته له في المرة السابقة، وإذا كنا لا نستطيع أن نصف ليبنتز بأنه تجريبي، فإن هذا لا يمنعنا من الإشادة بحسه الواقعي السليم، فمعظم إدراكات الإنسان تترابط في رأيه بطريقة تجريبية مشابهة لطريقة ترابطها عند الكلاب بل إنه ليؤكد - بنغمة لا تخفى مرارتها - أن البشر تجريبيون في ثلاثة أرباع أفعالهم وتصرفاتهم، ولهذا فهم في هذا الجانب السلوكي لا يختلفون في شيء عن الحيوانات، غير أن الربع الباقي من أفعالهم هو الذي يميزهم حقا عن سائر الحيوانات. فمعرفة الإنسان لا تقف عند حقائق التجربة أو حقائق الواقع؛ لأنها بطبيعتها حقائق عرضية يمكن أن توجد ويمكن ألا توجد، بل تتعداها إلى المعرفة بالعلل والأسباب، ولهذا يمكنه أن يبصر العلاقات الضرورية بين الأفكار، ويدرك حقائق العقل الضرورية الخالدة التي تتوفر في المنطق والرياضة بوجه خاص.
بهذا يقف ليبنتز في وجه النزعة التجريبية السائدة في عصره، على نحو ما نجدها في فلسفة توماس هوبز (1588-1679م) وجون لوك (1632-1704م). ولكن ينبغي علينا ألا نسيء فهم النقد الذي وجهه للنزعة التجريبية أو نتصور أنه يقلل من قيمة الحقائق التجريبية. فالواقع أنه كان يقدر قيمة التجربة الحسية كل التقدير، كما كان يتابع نتائج البحث التجريبي باهتمام لا مزيد عليه. ولم يكن هذا مجرد حب استطلاع أو رغبة في الإحاطة الموسوعية بكل جديد. فالواقع يشهد بأنه استفاد في بناء مذهبه بكثير من الدراسات العلمية التي تمت في عصره، كما كان له فضل الإسهام فيها. ويكفي أنه تنبه إلى نتائج البحوث التي قام بها العالم الهولندي فان لويفنهوك (1622-1723م) الذي اكتشف عددا كبيرا من الكائنات الحية الدقيقة عن طريق الميكروسكوب، كما استعان بهذه الكشوف في تدعيم نظرته الحيوية (انظر المونادولوجيا من 66-69).
وإذا كانت التجربة الحسية تمثل عنصرا هاما من عناصر المعرفة البشرية، فإن قيمتها في رأيه محدودة، ولا يمكنها أن تستوعب إمكانيات المعرفة. وقد أشرنا إلى نقده للنزعة التجريبية، وقلنا إنه لا يريد من هذا النقد أن يقلل من شأن الوقائع التجريبية، أو يحط من قيمتها، فالواقع أنه يهدف من ورائه إلى ضمان الحقيقة، الحقيقة التي لا تعتمد على الوقائع التجريبية، بل تظل محتفظة بصدقها وقيمتها ولو تغيرت كل هذه الوقائع عما هي عليه. إنه يدافع عن هذه الحقيقة المطلقة بكل ما يملك من قوة وإخلاص، ويحاول أن يدفع عنها أخطار النسبية والشك. وهو لا يكتفي بتأكيد استقلالها التام عن المصالح البشرية، والوقائع التاريخية، بل يذهب إلى حد القول بأنها مستقلة عن إرادة الله؛ لأنها ثابتة ومطلقة وخالدة خلود الله نفسه، ولا ريب في أن هذا الموقف يستحق منا كل إعجاب وتقدير. •••
Bog aan la aqoon