وأعد الحلفاء من البربر خطة الزحف على إشبيلية ريثما يجمعون شتات جيوشهم ويتصل بعضهم ببعض، وعرف المعتضد ذلك فانتهز فرصة وجود المظفر في منطقة نفوذه بعيدا عن حلفائه بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه وبلاده، فعمد - أول الأمر - إلى تخريب كورة بطليوس ثم سار مخالفا عادته على رأس جيشه، وزحف على «لبلة» وهجم أعداءه في مضيق على مقربة من أبواب المدينة، ورد فريقا منهم إلى «الأحمر»، ولكن المظفر وفق لجمع رجاله، وحمل بهم حملة صادقة اضطرت المعتضد أن يتقهقر نحو إشبيلية، وتمكن المظفر حينئذ أن ينضم إلى حلفائه.
ولكن بينما هو يوقع التخريب في البلاد التابعة لإشبيلية خرج ابن يحيى من حلف هؤلاء، وانضم إلى المعتضد ودخل في حلفه - على كره منه - وقد عاقبه المظفر بالاستيلاء على أمواله التي كانت مودعة عنده، وأعمل السلب والنهب في كورة «لبلة»
4
فاستصرخ ابن يحيى بالمعتضد إشفاقا على بلاده من التخريب والتدمير، فعمد هذا إلى إرسال جنوده لمقاتلة جند بطليوس، فاستدرجوهم إلى كمين وتمت الهزيمة على عسكر بطليوس، فاضطروا إلى التقهقر، ولم يقتنع بهذا الانتصار بل عمد إلى تخريب جهات «يابره» بواسطة ابنه إسماعيل، ولكن أمير بطليوس أمر أن يتقلد السلاح كل من يستطيع القتال من الرعية ، وبذلك تمكن من صد هجمات جيوش إشبيلية، ولما اتصلت به الإمدادات من إسحاق أمير قرمونة سير رجاله لمنازلة العدو، وعبثا حاول بربر قرمونة أن يقنعوه بالعدول عن عزمه الذي صمم عليه بدافع الغرور والجهل بقوة عدوه، ومما قالوه له: «إنك - بلا شك - لا تقدر جيش إشبيلية قدره، وتجهل وفرة عدده، ونحن أعرف منك بذلك، فقد وصلت إلينا أنباؤه فضلا عن أننا رأيناه رأي العين، ووقفنا على ما فيه من عدد وعدة.» ولكن تحمس المظفر وحدة طبعه أبيا عليه أن يعمل بمشورة ناصحيه، أو يصدق لهم قولا، ومضى في سبيله بدافع الجرأة التي كلفته ثمنا باهظا، فقد حلت به الهزيمة وتقهقر تاركا ثلاثة آلاف قتيل على أقل تقدير، وكان من بين من قتل في هذه المعركة ابن أمير قرمونة الذي كان يتولى قيادة جيش أبيه، وقد حملت رأسه إلى المعتضد، فوضعها في صندوق مع رأس جد هذا الأمير الشاب. •••
بعد هذه المعركة المشئومة ظهرت بطليوس مدة طويلة في مظهر مزعج، ومنظر مخيف، تستوحش منه النفس، وينقبض له الصدر، إذ دامت حوانيتها مقفلة، وأسواقها مقفرة، بعد أن قتل في هذه المعركة المستأصلة صفوة أهلها، ومما زاد الحالة سوءا وبلاء أن الإشبيليين إبان المعركة أتلفوا المزارع ودمروا الحصاد، فأناخت المجاعة بكلكلها على أنحاء المملكة، ولم يستطع المظفر عمل شيء بإزاء هذه الكارثة المجتاحة، وتخلى عنه حلفاؤه بعد أن حاول عبثا أن يستعين بهم على تخفيف هذه النازلة التي حلت ببلاده، وظل ساكنا ببطليوس يحرق الأرم، وتتآكل نفسه غيظا وندما.
ومع ما هو واقع فيه من سوء الحالة وتحرجها لم يشأ أن ينزل عن عزة نفسه وإبائها، ويقبل صلحا شريفا بواسطة ابن جهور، بينا عدوه الظافر قد أظهر تمام الاستعداد لقبول هذا الصلح.
ولم يكتف بهذا بل تظاهر أنه غير مكترث لما أصابه من خسارة، ولحق ببلاده من أزمة ومجاعة، وبدافع هذا التظاهر الكاذب أرسل إلى قرطبة في طلب قينات - وكن في ذلك الحين نادرات - وبعد عناء البحث اشتريت له اثنتان لم تكونا على جانب من الحسن والبراعة في الغناء. ودهش الناس لركون المظفر إلى اللهو والخلاعة، وهو المعروف بالجد والوقار، والبعد عن العبث وسماع القينات، ولم يدرك القوم كيف أنه يركن إلى اللهو في هذا الوقت الذي تظهر فيه بلاده بمظهر الخراب والاضمحلال، ولكنهم أدركوا السر في هذا السلوك الغامض حين علموا أن المظفر يريد أن يظهر لخصمه أنه في الوقت الذي يستطيع فيه أن يبيع أشياء مملوكة له، كذلك يستطيع - وهو مرتاح الخاطر - أن يشتري مغنيات يلهو بهن.
وبالرغم من هذا كله فقد واصل ابن جهور جهوده للتوفيق بين الخصمين وإبرام صلح شريف عاجل بينهما، وفي شهر يوليو سنة 1051 كللت جهوده بالنجاح، وتم بوساطته - بعد مفاوضات طويلة - عقد صلح بين المظفر والمعتضد.
وحينئذ وجه المعتضد جميع قواته إلى ابن يحيى أمير «لبلة» الذي انفصل عن حلفائه وعاد وحيدا دونهم، ولم تكن هذه الحملة حربا، بل كانت بمثابة نزهة حربية، ولم يحاول «ابن يحيى» - لضعفه عن المقاومة - أن يدافع حتى عن نفسه، بل تحول إلى قرطبة، وعول على أن يقضي بها سائر أيام حياته، وقد عطف عليه المعتضد وأرسل ثلة من فرسانه كحرس له في الطريق.
وأدرك الأمير الذي كان باسطا حكمه على «ولبة» وعلى جزيرة «سالطس»
Bog aan la aqoon