فأمير البربر كان من البربر أو أقرب إلى خشونة البربر منه إلى شيء آخر، ساخرا من آداب اللياقة، بعيدا عن الحصافة والثقافة، لا يعنى بأساليب الحضارة، ولا يترك لها عادات البداوة، ولم يكن الشعراء لتطأ أقدامهم أبهاء الحمراء ليمتدحوا بالشعر العربي ملكا لا يعرف غير رطانة البربر.
أما المعتضد فقد كان على النقيض من ذلك، قد أخذ بطرف مناسب من الثقافة والتعليم الحسن، ولم يكن - في الحقيقة - قد توسع في العلوم حتى يكون جديرا في زعمه أن يوضع في مصاف العلماء ويستحق لقب عالم، ولكنه أوتي من المواهب، ودقة الشعور، ولطف الإحساس، وسلامة الذوق، وحدة الذكاء، وقوة الذاكرة، ما جعله يعلم ما لا يعلمه رجل عادي.
وشعره الذي نظمه قصائد ومقطعات له قيمته إذا أريد الوقوف على كنه أخلاقه، بغض النظر عن قيمته اللغوية والأدبية، على أن هذا الشعر قد أكسبه بين مواطنيه مكانة شاعر مجيد
1
وكان محبا للأدب شغوفا بالفنون أريحيا جوادا يغمر الشعراء بالعطاء الكثير ، على المديح القليل، له ولع شديد بتشييد القصور الفخمة، وكانت أساليبه في الظلم مقرونة بشيء من المهارة، ينهج في ذلك منهج خليفة بغداد الذي انتحل لنفسه لقبه، واختط في أحكامه خطته، بينما كان باديس لا يعرف من أمر هذا الخليفة شيئا بل ربما كان يجهل العصر الذي كان فيه.
وكلا الملكين كان مولعا بشرب الخمر كما عرفت إلا أن باديس - لخشونته وجفاء طبعه - كانت تتمثل في مجلس شرابه الوحشية والجفاء، وكان لبربريته الجافية لا يمنعه الخجل أن يسف في شرابه إسفافا معيبا.
أما المعتضد وهو ذلك الرجل المثقف المهذب، والإنسان الرقيق الحاشية، والملك العظيم الشأن، فما كان يقدم على هذا الأمر إلا بشيء من الرقة والدعة واللطف، وكان لما يمتاز به من الذوق ولطف الإحساس وقوة التمييز، لا يخلو مجلس شرابه من شروط اللياقة، وجمال الذوق، وحسن التنسيق، وكان يتعاطى الخمر بطريقة غير معتدلة، وكان هو وندماؤه ينشئون في امتداح هذه النقيصة الخمريات البديعة التي تكون آية في لطف الشعور، وجمال الذوق ودقة التعبير، وقد ساعدته قوته الجسمانية على مواصلة أعمال الدولة والقيام بأعباء الملك مع إدمانه الشراب، وانكبابه على الشهوات واللذات، وقد كان من آيات نشاطه للعمل، وانصرافه لمهام الدولة، أن يكف عن شهواته في الأوقات التي يتطلبها العمل، فيعنى بمهام دولته كملك، ويبذل في ذلك جهد الطاقة ليوفر من أوقات العمل وقتا للهو والراحة واستجمام القوى يعود فيه إلى شرابه، ويلهو فيه بلذاته. •••
ومن الغريب أن هذا القاسي الجبار - مع ما كان يلقيه في قلوب حرمه وجواريه الحسان من الفزع والرعب بنظراته المفزعة المروعة - كان ينظم فيمن يقع في حبالتهن من أولئك الغيد الحسان أشعارا تجمع إلى الرقة والسلاسة اللذة والمتعة.
فبين باديس إذن وبين المعتضد من البون الشاسع في الفساد ما يفصل بين الفاسد المتبربر الخشن، والفاسد المتحضر الظريف، ولكن مما يجب الاعتراف به هنا أن البربري كان أقل من زميله فسادا وخبث نفس، فقد كان باديس في جرائمه وشناعاته على جانب من النزاهة والصراحة، بينا عينه المتفرسة الباحثة تتحسس الأفكار الخفية في نفس غيره وتتبحثها لتكشف عن مكنوناتها، دون أن يظهر ذلك في معارف وجهه، أو نبرات صوته. •••
ولم يمت ملك غرناطة في فراشه بل طاح في ساحة القتال، أما ملك إشبيلية فقد كان - على خوضه غمار كثير من المعارك والحروب - دونه شجاعة وبسالة، لأنه لم يتول بنفسه قيادة الجيش في هذه الحروب سوى مرة أو مرتين في حياته، وكان من دأبه أن يضع الخطط الحربية للمعارك، ويدع تنفيذها لقواده، وهو منزو في خبائه بعيدا عن خطوط القتال، كما روى ذلك بعض مؤرخي العرب.
Bog aan la aqoon