وفي أكتوبر (سنة 1035) ذهب فريق منهم خفية إلى إشبيلية، وأبلغوا القاضي ومحمد بن عبد الله، أن من السهل مباغتة يحيى لأنه لا يكاد يفيق من السكر، ولم يدع القاضي وحليفه هذه الفرصة تمر دون أن يستفيدا منها، وهنا وجه القاضي ابنه إسماعيل ومعه محمد بن عبد الله على رأس الجيش الإشبيلي، وعندما أرخى الليل سدوله كمن إسماعيل مع أكثر الجند في كمين، وأرسل كوكبة لمناوشة قرمونة ليغري يحيى بالخروج إلى ظاهرها، وقد نجح في خطته هذه، إذ كان يحيى - حين بلغه مجيء ابن عباد على رأس جيش - ثملا، فنهض وكان متكئا على سريره وصاح قائلا: «يا لها من فرصة سعيدة، هذا ابن عباد مقبلا لزيارتي، والآن أيها الجند، خذوا أسلحتكم وامتطوا جيادكم قبل ضياع الوقت.»
وخرج في ثلاثة آلاف فارس، وكان النبيذ قد لعب برأسه، فلم يتمهل ريثما يعبئ جنده وينظم خططه، يضاف إلى ذلك أن ظلام الليل الحالك كان يحجب عنه كل شيء. وفوجئ الإشبيليون منه بهذا الهجوم المباغت، فقابلوه بجلد وعنف، وأخذوا يتقهقرون بنظام نحو المكان الذي كمن فيه إسماعيل.
ومن هذه اللحظة سعى يحيى إلى حتفه بنفسه، فإن إسماعيل انقض عليه بكل قوات الجند، واضطره إلى التقهقر، وقتل يحيى نفسه في المعركة، وكاد يأتي القتل على أكثر رجاله لو لم يحل محمد بن عبد الله دون ذلك، وقال له: «إن أغلب هؤلاء المساكين من بربر قرمونة الذين أكرههم هذا الطاغية على الدخول في خدمته مع كراهتهم واحتقارهم إياه.»
فأبقى عليهم وأمر جنده بترك تعقبهم وخف محمد بن عبد الله إلى قرمونة على ظهر جواده ليسترد ملكه، وأراد زنوج يحيى الذين استولوا على أبواب المدينة أن يحولوا بينه وبين الدخول لولا أن ساعده الأهالي على دخولها من ثغرة، وسار إلى قصر الإمارة، وسلم نساء الأمير يحيى إلى بنيه، واستولى على ما في القصر من كنوز ونفائس في (نوفمبر سنة 1035م).
وقد أحدث نبأ وفاة يحيى سرورا عظيما في إشبيلية وقرطبة، وعندما وصل الخبر إلى مسامع القاضي خر ساجدا شكرا لله، وحذا حذوه جميع من كانوا حوله والآن أصبح القاضي لا يخشى شيئا من جانب بني حمود.
وقد نودي بإدريس - أحد أشقاء يحيى - خليفة في مالقة، وقد كان يعوزه الوقت الكافي الذي يستطيع فيه أن يكسب بقوة نفوذه وما يقدمه من وعود، قلوب زعماء البربر، ليجعلهم في صفه، ولهذا لم يعد في استطاعته أن يخضع الجزيرة بعد أن نادى الزنوج فيها بابن عمه محمد خليفة.
ولما رأى القاضي أن الظروف خدمته، هم بأن يقيم هو وهشام الثاني المزعوم بقصر الخلافة في قرطبة، إلا أن يقظة ابن جهور، وتصميمه على عدم التخلي عن الحكم، وقفا حجر عثرة في طريقه، فقد نجح في إقناع أهل قرطبة أن الخليفة المزعوم لم يكن سوى رجل ماكر مخادع وأن اسم هشام قد ألغي من الإمامة، وعرف أن القاضي عند مجيئه بهشام إلى قرطبة سيلقى أبوابها مغلقة في وجهه، وثمة لا يستطيع التغلب على مدينة منيعة حصينة مثلها، فيضطر أن يعود من حيث أتى.
وعول - في بداية الأمر - على أن تعسكر جيوشه عند الأمير الصقلبي، وهو الأمير الوحيد الذي أبى الاعتراف بهشام الثاني، ذلك الأمير هو زهير أمير المرية، ومنذ أراد الخليفة قاسم أن يهون على الأمير، وأقطعه عدة أملاك، بدأ زهير يناصر الحموديين. ولما نودي بإدريس خليفة بادر بالاعتراف به.
ولما صار الآن مهددا من القاضي عقد محالفة مع حيوس الغرناطي ثم زحف جيش إشبيلية، وذهب لمقابلته بجنوده وجنود حليفه إذ اضطره إلى التقهقر.
ومن المحقق أن القاضي قد بالغ في الاعتداد بقوته، ولم يحسب حساب أعدائه، وكان عليه أن يخشى مجيء الوقت الذي تغزو فيه جيوش المرية وغرناطة - بدورها - إشبيلية.
Bog aan la aqoon