وقد يقول قائل: وهل يفعل ذلك عاقل؟ قلت: ذلك ما صنعه كل الفرق المتأولة، الذين ينكرون حقائق الأسماء والصفات الإلهية من المعتزلة وغيرهم ممن تأثر بهم من الخلف، ولا نبعد بك كثيرا بضرب الأمثال وإنما نقتصد مثلين من القرآن الكريم، أحدهما يشبه المثال السابق تماما، والآخر له صلة بصلب موضوع الكتاب.
الأول: قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ فقيل في تأويلها: "وجاء ربك"! وقيل غير ذلك من التأويل. ونحو كذلك أولوا قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ . فقال بعضهم: يأتيهم الله بظلل. فنفى بذلك حقيقة الإتيان اللائق بالله تعالى بل غلا بعض ذوي الأهواء فقال: "قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ حكاية عن اليهود، والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظلل من الغمام ليروه جهرة، لأن اليهود كانوا مشبهة يجوزون على الله المجيء والذهاب"! نقله الكوثري في تعليقه على "الأسماء والصفات" "ص٤٤٧-٤٤٨" عن الفخر الرازي وأقره!!
فتأمل -هداني الله وإياك- كيف أنكر مجيء الله الصريح في الآيتين المذكورتين. وهو إنما يكون يوم القيامة كما جاء في تفسير ابن جرير لقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ فذكر "١٢/ ٢٤٥-٢٤٦" في قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ عن قتادة وابن جريج: يوم القيامة، ونحوه عن ابن مسعود وغيره. في "الدرر المنثور" "١/ ٢٤١" وانظر كلمة الإمام ابن راهويه في إثبات المجيء في الفقرة الآتية من الكتاب "٢١٣".
فنفى هذا المتأول ببركة التأويل إتيان الله ومجيئه يوم القيامة الثابت في هذه الآيات الكريمة، والأحاديث في ذلك أكثر وأطيب، ولم يكتف بهذا بل نسب القول بتجويز المجيء على الله إلى اليهود، وأن الآية نزلت في حقهم! ضلال وكذب، أما الضلال فواضح من تحريف الآيات المستلزم الطعن في الأئمة الذين
1 / 23