ولكن جمالا أعذب وأقوى وأشد خفاء يظهر للإنسان عندما يتفتح قلبه وعقله للإحساس بالفضيلة. إنه حينئذ يتعلم شيئا أعلى منه، يعلم أن وجوده لا حد له، وأنه إنما ولد للخير والكمال، برغم المكانة الدنيئة التي جلبها له الشر والضعف. إن ما يقدسه لا يزال ملكا له، ولو أنه لم يدرك ذلك حتى الآن، وإنما ينبغي له أن يدركه. إنه يعلم معنى تلك الكلمة العظيمة، بالرغم من أن تحليله يعجز عن وصفها. إنه عندما يستطيع ببراءته أو بإدراكه العقلي أن يقول: «إنني أحب الحق، والصدق جميل دائما في الداخل وفي الخارج. أيتها الفضيلة، أنا لك، خلصيني، استخدميني، سوف أخدمك، ليلا ونهارا، في الكبير والصغير، حتى لا أكون فاضلا، بل أكون الفضيلة نفسها.» عندما يقول ذلك يتحقق الغرض من الخليقة، وتتحقق إرادة الخالق.
إن الإحساس بالفضيلة تقديس لوجود بعض القوانين الإلهية وابتهاج بها. فبهذا الإحساس نستطيع أن ندرك أن هذا الدور الساذج الذي نلعبه في الحياة ينطوي على مبادئ تذهل العقل، وإن بدا في حركات تافهة. إن الطفل وسط ألاعيبه يتعلم تأثير الضوء، والحركة، والجاذبية، والقوة العضلية. وفي لعبة الحياة الإنسانية يتفاعل الحب والخوف والعدالة والشهوة والإنسان وكل ما هو مقدس. وهذه القوانين تستعصي على التعبير الصحيح عنها. إنها لا تكتب على الورق، أو يعبر عنها باللسان. إنها تستعصي على التفكير المثابر، ومع ذلك فنحن نقرؤها كل ساعة بعضنا في وجه الآخر وفي فعاله، وفي ضمائرنا. إن الصفات الخلقية التي تتركز جميعا في كل عمل أو فكر فاضل، ينبغي لنا أن نميزها في الكلام، وأن نصفها أو نشير إليها بالتعداد المضني لكثير من التفصيلات. ولما كان هذا الإحساس هو لب الدين، فدعوني ألفت أنظاركم إلى الأهداف الدقيقة له. فأعدد لكم بعض أنواع تلك الحقائق التي يظهر فيها هذا العنصر جليا.
إن الإدراك الفطري للإحساس الخلقي هو تبصر بكمال قوانين الروح، وهذه القوانين تنفذ نفسها بنفسها، خارجة عن الزمان والمكان، ولا تخضع للظروف. ولذا فإن في روح الإنسان عدالة جزاؤها سريع وشامل. من يعمل عملا صالحا يكرم في حينه، ومن يعمل عملا طالحا ينقبض من مجرد قيامه بهذا العمل الطالح. ومن يخلع الدنس، يلبس بذلك الطهارة. وعندما يصبح الإنسان عادلا في صميمه، فإنه يحقق إرادة الله؛ لأن سلام الله، وخلود الله، وجلالة الله، سوف تتمثل في كل ما يفعله الرجل العادل. وإذا كان الرجل يتظاهر ويخدع، فهو إنما يخدع نفسه، ولا يتفق مع وجوده. الرجل أمام الخير المطلق عابد خاضع تمام الخضوع، غير أن كل خطوة يخطوها في هذا السبيل إلى أسفل هي خطوة إلى أعلى. الرجل الذي ينكر ذاته يدركها.
انظروا كيف تعمل هذه الطاقة السريعة الجوهرية في كل مكان، تصلح الأخطاء، وتصحح المظاهر، وتجعل الحقائق منسجمة مع الأفكار. وأثرها في الحياة، وإن أدركته الحواس في بطء شديد، إلا أنه في النهاية أكيد كما هو كذلك في الروح. هذه الطاقة تجعل الإنسان سيد نفسه، يصف عمله الصالح بالخير وخطيئته بالشر. فإن صفات الأشياء تعرف دائما. والسرقات لا تغني، والإحسان لا يفقر، وجريمة القتل تنطق بها الأسوار الحجرية. وأقل أثر من آثار الخداع كوصمة الغرور - أو محاولة إيجاد تأثير حسن أو مظهر ملائم - يلوث النتيجة فورا. أما إن نطقت صدقا فإن الطبيعة والأرواح كلها سوف تعينك على التقدم إلى الأمام تقدما غير منظور. انطق الصدق، وسوف يسندك كل حي وأعجم، بل إن جذور الحشاش نفسها التي تنمو على الأرض لتبدو كأنها تهتز وتتحرك لكي تشهد لك. وتأكدوا كذلك من كمال القانون وهو يطبق نفسه على ما بين الناس من صلات، ويصير قانون الجماعة. فكما نكون يكون رفاقنا. الطيب بالتشابه يبحث عن الطيب، والخبيث بالتشابه يبحث عن الخبيث. ولذا فإن الأرواح تسير إلى الفردوس أو إلى الجحيم بإرادتها.
هذه الحقائق كانت توحي دائما إلى الإنسان بالعقيدة السامية التي تؤمن بأن الدنيا ليست نتيجة لقوى متعددة، وإنما هي نتيجة لإرادة واحدة وعقل واحد، وهذا العقل الواحد ناشط في كل مكان، في كل شعاع من أشعة النجم، وفي كل مويجة من مويجات البركة. وكل ما يقف في سبيل هذه الإرادة يفشل ويتعرقل في كل مكان؛ لأن الأشياء هكذا خلقت، ولم تخلق على صورة أخرى. الخير إيجابي، والشر شخصي محض، وليس مطلقا، فهو كالبرودة التي هي انعدام الحرارة. الشر كله موات أو عدم. أما الخير فهو مطلق وحقيقي. وعلى قدر ما عند الإنسان من خير، يكون ما لديه من حياة؛ لأن كل شيء يصدر عن روح واحدة تسمى بأسماء مختلفة، كالحب والعدالة والاعتدال، حسب تطبيقها في مختلف النواحي، كما يسمى المحيط بأسماء مختلفة على الشواطئ المختلفة التي يرتطم بها. كل شيء يصدر عن روح واحدة ويتآمر معها. وما دام الإنسان يهدف إلى أغراض طيبة فإنه يزود نفسه بقوة الطبيعة كلها، وكلما بعد عن هذه الأغراض حرم نفسه القوة، وحرم نفسه كل معين، وينكمش وجوده عن كل تيار بعيد، ويتضاءل ثم يتضاءل، حتى يصبح ذرة أو قطرة، ويصير السوء المطلق موتا مطلقا.
وإدراك قانون القوانين هذا يوقظ في العقل إحساسا نسميه الإحساس الديني، وهو الذي تنشأ عنه سعادتنا القصوى. وما أعجب سحره وسلطانه! إنه جبل من الهواء، وهو الذي يعطر العالم. هو مر وميعة يابسة وكلورين وحصا البان. إنه يعلو بالسماء والجبال، وهو أنشودة النجوم الصامتة. به يسلم العالم وتحلو الإقامة فيه، ولا يكون ذلك بالعلم أو بالنفوذ. ربما كان أثر الفكر في الأشياء باردا جامدا، لا يلتمس غاية أو وحدة، ولكن إشراق الإحساس بالفضيلة في القلب يعطينا «القانون العام»، ويؤكد لنا أن هذا القانون يسود جميع الطبائع، فتبدو العوالم والزمان والمكان والأبد، كأنها تنفطر من السرور.
هذا الإحساس سماوي إلهي، هو سر سعادة الإنسان، هو الذي يجعله غير محدود. وعن سبيله تعرف الروح نفسها أولا. وهو الذي يصحح الخطأ الأكبر في الإنسان الصغير، الذي ينشد العظمة باتباع العظماء، ويأمل أن يستمد الفائدة «من غيره»، وذلك لأن هذا الإحساس يريه أن مصدر الخير في نفسه، وأنه - كغيره من الناس جميعا - منفذ إلى أعماق العقل. حينما يقول «ينبغي لي»، وحينما يدفئه الحب، وحينما يختار العمل الصالح العظيم بتبنيه من العلا ، حينما يفعل ذلك تتخلل روحه الأناشيد العميقة من «الحكمة العليا». حينئذ يستطيع أن يتعبد، وأن يعظم بالعبادة، لأنه لا يستطيع أن يتخلف عن هذا الإحساس. وفي أسمى تحليق للنفس، لا يمكن أن يقهر الصواب، أو يتفوق على الحب شيء.
وهذا الإحساس أساس من أسس المجتمع، وهو يخلق بالتتابع كل صور العبادة. إن مبدأ التقديس لا يموت أبدا، والإنسان الذي يقع فريسة للخرافة، أو للمتع الحسية، لا يفقد البتة رؤى الإحساس الخلقي. وكذلك يكون كل ما يعبر عنه هذا الإحساس مقدسا وثابتا على قدر طهارته. وما يعبر عنه هذا الإحساس يؤثر فينا أكثر مما تؤثر كل المركبات الأخرى. وعبارات الأزمنة القديمة التي تعبر عن هذا الورع ما برحت جديدة عطرة. وقد كانت هذه الفكرة دائما أشد تعمقا في نفوس الناس في الشرق التقي المتأمل، لا في فلسطين وحدها حيث بلغت أطهر صورة من صور التعبير، ولكن في مصر كذلك، وفي بلاد الفرس والهند والصين. وكانت أوروبا دائما مدينة بدوافعها الإلهية إلى العبقرية الشرقية، فإن ما قاله هؤلاء المنشدون المقدسون وجده عقلاء الرجال جميعا ملائما صادقا. والأثر الفريد ليسوع المسيح على البشر - وليس اسمه مكتوبا في تاريخ هذا العالم بل محفور فيه حفرا - لدليل على الفضل العظيم لهذه التعاليم المتغلغلة في النفوس.
وما دامت أبواب المعبد مفتحة، ليلا ونهارا، أمام كل إنسان، وما دام الكهان الذين ينطقون بهذا الحق لا يكفون، فإنه لا يبقى سوى شرط واحد صارم، وذلك هو الفطرة السليمة. فإن الحق لا يدخل النفس مبتذلا، وإنك في الواقع لا تستطيع أن تتلقى من روح أخرى علما، وإنما تتلقى حافزا. ما يبشر به غيرك لا بد أن تجده صادقا في نفسك أو تنبذه. وإن كلماته، وتبعيتك له - أيا كان هو - لا تجعلك وحدها تتلقى منه شيئا. بل على النقيض من ذلك، فإن في انعدام هذا الإيمان الأولي بذور التدهور . فكما يكون المد يكون الجزر. وإذا زال هذا الإيمان، أصبحت الكلمات نفسها التي صدرت عنه أو الأعمال التي قام بها زائفة مؤذية، وبذلك تنهار الكنيسة، والدولة، والفن، والأدب، والحياة. إذا نسينا مبدأ تقديس الطبيعة الإنسانية أصيبت النظم بالعلة التي تجعلها تتضاءل. كان الإنسان فيما مضى كل شيء، وهو اليوم زائدة تدعو إلى القلق، وحيث إن «الروح العليا» الكامنة في كل شيء لا يمكن تحاشيها كلية، فإن المبدأ الذي يبشر بها لا يحتمل هذا التناقض، وهو أن الطبيعة الإنسانية المقدسة تنسب إلى شخص أو شخصين، وتنكر على بقية الأشخاص، بل وتنكر في غضب شديد. لقد فقدنا مذهب الإلهام، واغتصب المبدأ الوضيع - مبدأ أكثرية الأصوات - مكانة مبدأ الروح. ولا توجد المعجزات والنبوءات، والشعر، والحياة المثالية، والحياة المقدسة، إلا باعتبارها تاريخا قديما فحسب؛ فهي ليست من عقائد الناس أو من آمالهم، وتبدو مضحكة حينما يشار إليها. والحياة تكون مدعاة للهزل أو للإشفاق بمجرد ما تختفي عن الأبصار أغراض الوجود السامية، ويصبح الإنسان قصير النظر، ولا يستطيع أن يلتفت إلا إلى ما يخاطب الحواس.
هذه الآراء العامة - التي لا ينازعها أحد ما دامت عامة - تجد لها أمثلة وافرة في تاريخ الأديان، وبخاصة في تاريخ الكنيسة المسيحية، وفي هذه الكنيسة ولدنا جميعا ونشأنا، وستشرعون يا أصدقائي في تعليم الصدق الذي تتضمنه هذه الحقيقة. وإن لها لأهمية تاريخية كبرى. ولستم بحاجة إلى أن أحدثكم عن كلماتها المباركة التي كانت عزاء الإنسانية. وسوف أحاول أن أؤدي واجبي نحوكم في هذه المناسبة بالإشارة إلى خطأين في إدارة الكنيسة، يتضخمان يوما بعد يوم من وجهة النظر التي اتخذناها منذ حين.
Bog aan la aqoon