ومن ثم فبدلا من «الإنسان المفكر» يكون لدينا قراء الكتب، فتنشأ طبقة المتعلمين من الكتب الذين يقيمون للكتب وزنا لأنها كتب، لا لأنها ترتبط بالطبيعة وتكوين الإنسان، ولكن لأنها تكون مع العالم والروح ثالوثا متباعد الأطراف. ومن ثم يظهر أولئك الذين يردون كل مقروء إلى أصله، ومصححو الكتب، والمولعون باقتنائها على اختلاف درجاتهم.
الكتب خير الأشياء إذا أحسن استعمالها، أما إذا أسيء فهي من شر الأمور. ما هو الاستعمال الصحيح؟ ما هو الغرض الوحيد الذي تهدف إليه كل الوسائل؟ ليس للكتب غرض سوى الإيحاء، وإنه لخير لي ألا أرى كتابا من أن تضللني جاذبيته عن مجالي ضلالا مبينا، أو أن أصبح تابعا بدلا من أن أكون صاحب رأي مستقل. إن الشيء الوحيد الذي له قيمة في العالم هو الروح الفعالة، وكل إنسان جدير بها، وكل إنسان يضمها في دخيلته، وإن قامت أمامها العقبات فلم تولد عند أكثر الناس. الروح الفعالة ترى الحق المطلق وتنطق الحق، أو تبتدع. وهي في هذا العمل موهبة، وليست ميزة يختص بها هذا الرجل المعزز أو ذاك، ولكنها ملك خالص لكل إنسان، وهي في صميمها تقدمية. والكتاب والكلية ومدرسة الفن وأي نوع من أنواع النظم ، كل هذا ينتمي إلى ما تفوه به قديما نابغة من النوابغ. يقولون: هذا حسن، دعنا نتمسك به، إنهم بذلك يحنقونني ، لأنهم يتطلعون إلى الوراء لا إلى الأمام. ولكن العبقرية تنظر إلى الأمام، فإن عيني الإنسان في مقدمة رأسه وليستا في مؤخرته. الإنسان يأمل، والعبقرية تخلق. ومهما تكن المواهب فإن الإنسان إذا لم يخلق لا يكون النور الإلهي الخالص ملكا له. وقد يكون لديه رماد ودخان، ولكن لن تكون لديه شعلة النار. وهناك آداب خالقة، وأعمال خالقة، وكلمات خالقة، أي هناك آداب وأعمال وكلمات لا تدل على عادة أو سلطان، ولكنها تنبع تلقائيا من إحساس العقل نفسه بالخير والعدل.
ومن ناحية أخرى، فبدلا من أن يرى العقل بنفسه، تراه يتقبل الصدق من عقل آخر، كأنه في فيض من النور، بغير فترات من العزلة أو البحث أو استجمام النفس، وحينئذ يتحقق ضرر قاتل؛ ففي عبقرية الفرد دائما عداء كاف لعبقرية فرد آخر، وذلك بتأثيرها الزائد. ويؤيدني في ذلك الأدب في جميع الأمم، فإن شعراء الدراما الإنجليز قد ترسموا أثر شكسبير حتى اليوم مائتي عام.
وليس من شك في أن هناك طريقة صحيحة للقراءة بحيث تصبح خاضعة للقارئ خضوعا شديدا. ولا ينبغي «للإنسان المفكر» أن يخضع لأدواته. إنما الكتب لتزجية فراغ العالم؛ فإنه إن استطاع أن يطالع الله رأسا عز وقته فلا ينبغي أن ينفق فيما دونه الآخرون من مطالعاتهم. ولكن إذا ما حان حين الظلام، ولا بد أن يحين - عندما تختفي الشمس وتسحب النجوم ضياءها - نعود إلى المصابيح التي أشعلت من أشعتها لكي نرشد خطانا صوب «الشرق» مرة أخرى حيث مطلع الفجر. ونتسمع لكي نستطيع أن ننطق. وفي ذلك يقول المثل العربي ما معناه: «إن شجرة التين إذا أطلت على شجرة للتين أخرى أثمرت.»
ما أعجب لون السرور الذي نستمده من خير الكتب. إنها تحملنا على أن نعتقد أن الكاتب والقارئ من طبيعة واحدة؛ فنحن نقرأ ما نظمه أحد كبار شعراء الإنجليز، مثل شوسر، أو مارفل، أو دريدن، بأحدث سرور، أقصد إننا نقرؤه باستمتاع ينشأ إلى حد كبير عن تجريد «الزمان» كله من نظمهم. ويمتزج سرور الدهشة بشيء من الرهبة حينما نجد أن هذا الشاعر الذي عاش في عالم قديم منذ مائتي أو ثلاثمائة عام يعبر عما يقع قريبا من روحي، أو عما فكرت فيه وعبرت عنه أنا كذلك منذ وقت قريب. ولولا ما قدمنا من دليل على المذهب الفلسفي الذي يقول بوحدة جميع العقول لافترضنا ثبوت نوع من أنواع الانسجام بين الأرواح قديم، أو لون من الألوان بعد النظر عند الأرواح من عهد بعيد، وضرب من ضروب إعداد المؤن لحاجات المستقبل، كالذي نشاهد بين الحشرات التي توفر الطعام قبل موتها للديدان الصغيرة التي لن تراها.
ولن يعجل بي حب أي نظام عام، أو المبالغة في الغرائز، إلى الحط من قيمة «الكتاب»؛ فكلنا يعلم أنه كما يتغذى جسم الإنسان بأي طعام حتى إن كان عشبا مغليا ومرق الأحذية، فكذلك عقل الإنسان يتغذى بأي لون من ألوان المعرفة. وقد ظهر رجال عظماء أبطال لم تكد تبلغهم معرفة إلا عن طريق الصحف المطبوعة. إنما أقول إن استساغة هذا الطعام تتطلب عقلا قويا؛ فلكي تحسن القراءة يجب أن تكون منشئا، أو كما يقول المثل: «من يريد أن يجلب لبيته ثروة جزر الهند لا بد أن يبذل جهدا للحصول على ثروة جزر الهند.» فهنالك إذن قراءة منشئة، كما أن هناك كتابة منشئة. حينما يقوى العقل بالعمل والاختراع تصبح صفحة أي كتاب نقرأ مضيئة بالإشارات العديدة. وتتضاعف دلالة العبارة الواحدة، ويتسع فهم المؤلف اتساع العالم. حينئذ نرى ما هو حق دائما، نرى أنه كما أن الساعة من رؤيا الرائي قصيرة نادرة في خضم الأيام والشهور، فكذلك تدوينها ربما كان أقل جزء من أجزاء مجلده. وبعيد النظر هو الذي يقرأ في أفلاطون أو شكسبير ذلك الجزء القليل فقط، أي تلك الكلمات الأصيلة التي ينطق بها الملهمون، أما ما عدا ذلك فإنه ينبذه، حتى إن كان لأمثال أفلاطون وشكسبير.
وهناك جانب من القراءة بطبيعة الحال لا غنى عنه البتة للرجل الحكيم. لا بد له من دراسة التاريخ والعلوم الدقيقة عن طريق القراءة الشاقة. وللكليات كذلك وظيفتها التي لا غنى عنها، وهي أن تعلم المبادئ، ولكنها لا تؤدي لنا خدمة رفيعة إلا إذا لم يكن هدفها التدريب وإنما الإنشاء، وذلك حينما تجمع من بعيد كل شعاع من أشعة العبقرية المتنوعة إلى موئلها الذي يحسن استقبالها، ثم تشعل قلوب الشباب من هذه النيران المتجمعة. فالفكر والمعرفة من الطبائع التي لا يجديها جهاز أو ادعاء. وثياب العلماء والأسس المالية، حتى إن كانت مدائن من ذهب، لا تعوض أقل عبارة أو كلمة ينم عنها الذكاء. فإذا ما نسينا ذلك تأخرت جامعاتنا الأمريكية في أهميتها العامة، مع ازدياد ثروتها عاما بعد عام. (3)
تسود الجميع فكرة تقول بأن العالم ينبغي أن يكون ناسكا، أو كأنه مريض في دور النقاهة، لا يصلح لأشغال يدوية أو أعمال عامة، كما لا تصلح المبراة أن تكون فأسا. إن من نسميهم «رجالا عمليين» يهزءون بالرجال المتأملين، كأنهم - لأنهم يتأملون أو ينظرون - لا يستطيعون أن يعملوا شيئا. ولقد نمى إلي أن رجال الدين، وهم دائما أكثر من أي طبقة أخرى في العالم، علماء يومهم، يحبون الخطاب الرقيق، ولا يستمعون إلى حديث الرجال الجاف التلقائي، وإنما يستمعون إلى الحديث الأنيق الخفيف، إنهم كثيرا ما يحرمون فعلا من حقهم في الانتخاب، وهناك في الواقع من يدافع عن عزوبتهم. وليس من العدل والحكمة أن يصدق ذلك على الطبقات المولعة بالدرس. وإن كان العمل للعالم ثانويا فهو ضروري، وبدونه لا يكون رجلا، وبدونه لا ينضج الفكر فيثمر الحق. وما دامت الدنيا تبدو للعين كأنها سحابة من الجمال، فإننا لا نستطيع أن نرى حتى جمال الدنيا. إن عدم العمل جبن، ولا يمكن أن يكون هناك عالم بغير العقل العامل الجريء. إن مقدمة التفكير، أو التحول الذي يمر به الفكر من اللاشعور إلى الشعور، هو العمل؛ فالمرء لا يعرف إلا بمقدار ما يعيش. وبذلك تعرف في الحال من الذي كلماته محملة بالحياة، ومن الذي كلماته فارغة.
إن الدنيا - أو هذا الظل للروح، أو نفسي الأخرى - واسعة حولي، ومفاتنها هي المفاتيح التي تفتح أفكاري وتعرفني بنفسي. وإنني لأعدو بشغف في هذا الضجيج الذي يرن صداه، وإني لأمسك بأيدي جيراني وأتخذ مكاني في حلقة الناس لكي أكابد ولكي أعمل، وقد علمتني غريزتي أن الهوة الصامتة يمكن أن يرن في أرجائها الكلام. إنني أخترق نظام العالم، وأبدد مخاوفه، وأتصرف فيه في حدود دائرة حياتي الممتدة. وعلى قدر ما أعرف عن الحياة بالخبرة فقط، يكون مدى القفر الذي أغزوه وأستنبته، أو يكون مدى وجودي أو مجال نفوذي. ولست أفهم كيف يستطيع أي إنسان، من أجل أعصابه وراحته، أن يتخلى عن أي عمل يستطيع أن يسهم فيه. العمل هو اللؤلؤ والعقيق في حديث المرء. وإن الكد والكوارث والسخط والحاجة لتعلم الإنسان شيئا من الفصاحة والحكمة. والعالم الحقيقي هو الذي يحقد على كل فرصة للعمل لا يستغلها كأنها نقص في نفوذه؛ فالعمل هو المادة الخام التي يصوغ العقل منها إنتاجه العظيم. وإنها لعملية غريبة أيضا، تلك التي تتحول بها الخبرة إلى فكرة، كما تتحول ورقة التوت إلى الحرير الأطلس. وإنها لصناعة تطرد في سيرها في كل حين.
إن الأعمال والحوادث في طفولتنا وشبابنا هي اليوم موضوعات للتأمل العميق، وإنها لتبدو كالصور الحسناء في الهواء. وليس الأمر كذلك في أعمالنا التي تمت من عهد قريب، أي في العمل الذي نشغل به اليوم أيدينا، فإننا في هذا العمل عاجزون كل العجز عن التأمل؛ لأن عواطفنا ما برحت تتخلله، فلا نحسه أو نعرفه أكثر مما نحس بالقدمين أو اليدين أو الذهن في أجسامنا. العمل الجديد لا يزال جزءا من حياتنا، وهو يبقى فترة غائصا في حياتنا اللاشعورية. وفي ساعة من ساعات التأمل ينفصل هذا العمل عن الحياة كما تنفصل الثمرة الناضجة، لكي يصبح فكرة في العقل. فالعمل يرتفع في لحظة وتتغير صورته، وما كان عرضة للفساد يصبح شيئا لا يقبل الفساد، ويصير بعدئذ شيئا جميلا مهما يكن منشؤه وبيته. ثم لاحظ كذلك استحالة وقوع ذلك قبل الأوان. إن تحول العمل إلى الفكرة يمر بمرحلة كالتي تمر بها الدودة، التي لا تستطيع الطيران ولا تستطيع الإضاءة، إنما هي دودة ثقيلة، ولكنها فجأة، ودون أن نلحظ عليها ذلك، تتفتح عن أجنحة جميلة، وتصبح ملاكا من ملائكة الحكمة. وكذلك ليست هناك واقعة، وليس هناك حادث، في تاريخنا الخاص، لا يفقد - إن عاجلا أو آجلا - صورته المائعة الساكنة، ويذهلنا بالانفصال عن حياتنا ليصبح ذكرى. لقد ولى المهد وولت الطفولة والمدرسة واللعب وخوف الصبية، والكلاب والمقرعة، وحب الفتيات والتوت، وحقائق أخرى كثيرة كانت في وقت من الأوقات تملأ السماء كلها. وكذلك الصديق والقريب، والمهنة والحزب، والمدينة والريف، والأمة والعالم، كل ذلك لا بد أن يمضي ويتلاشى ثم يستحيل نشيدا.
Bog aan la aqoon