Mukhtarat Qisasiyya Li Yukiyo Mishima
البحر والغروب وقصص أخرى: مختارات قصصية ليوكيو ميشيما
Noocyada
أما محتوى الرسائل فهو بلا هدف محدد؛ يبدأ مرسل الرسالة بالنقد والتعليق على شعر الطرف الثاني في آخر رسالة له، ثم ينتقل من ذلك إلى أحاديث لا نهاية لها، فيكتب عن آخر ما سمعه من موسيقى، والأحاديث العائلية اليومية، وانطباعه عن فتاة جميلة شاهدها، وتعريف بما قرأه من كتب، والتجارب الشعرية في تلقي الوحي لعالم شعري كامل من خلال كلمة واحدة، وحكي مفصل عن الحلم الذي حلم به الليلة السابقة ... إلخ. مثل هذه الرسائل لم يمل كتابتها أبدا لا الشاب الذي بلغ العشرين عاما، ولا الفتى ذو الخمسة عشر ربيعا.
ولكن الفتى قد لاحظ في رسائل «ر» ظلالا ضئيلة من الاكتئاب والقلق، يعرف تماما أنها لا توجد في رسائله هو مطلقا. الخوف تجاه الواقع، والقلق من ضرورة مواجهته في النهاية، أعطيا لرسائل «ر» نوعا من المعاناة والوحدة الموحشة. وكان الفتى السعيد يعتقد أن تلك الظلال ليس بينها وبينه أية علاقة، وأنه لا يمكن أن يسقط فيها. «هل يمكن يا ترى أن أستيقظ على شيء ما قبيح؟» لم يخطر هذا السؤال على بال الفتى قط، ولم يتوقعه مطلقا. على سبيل المثال من المستحيل أن يحدث له مثلما حدث مع غوته، حيث هجمت عليه الشيخوخة وتحملها لوقت طويل. كان الفتى ما زال على مسافة بعيدة من فترة ريعان الشباب التي يقال عنها إنها قبيحة، وفي نفس الوقت جميلة. ونسي الفتى تماما ما كان قد اكتشفه داخل ذاته من قبح.
الأوهام التي تخلط الفن بالفنان، الأوهام التي تجعل فتيات المجتمع المتساهلات يتجهن بأعينهن إلى الفنان، تلك الأوهام قد أمسكت بالفتى ذاته. لم يكن لديه اهتمام بدراسة وجوده الذاتي وتحليله، ولكنه كان دائما ما يحلم بذاته تلك. كان هو ذاته ينتمي إلى عالم الخيال الوهمي، ذلك الذي تتحول فيه الفتاة العارية إلى زهور صناعية. الإنسان الذي يصنع الأشياء الجميلة من المستحيل أن يكون قبيحا، هكذا كان الفتى يفكر بعناد، ولكن للأسف لم يصل عقله حتى النهاية إلى القضية الأكثر أهمية وراء ذلك. ألا وهي قضية: هل هناك ضرورة أن الإنسان الجميل يصنع أشياء أكثر جمالا؟ «ضرورة؟!» لو سمع الفتى هذه الكلمة؛ لضحك بلا أدنى شك. والسبب أن شعره لا يولد تلبية لضرورة؛ فكل أشعاره، تولد بشكل طبيعي، حتى لو رفضها الفتى ذاته. يحرك الشعر يد الفتى، ويجعله يكتب الحروف على الورق. إذا قلنا ضرورة؛ فهذا يعني أنه لا بد من وجود نقص ما، ولكن هذا النقص غير موجود. مهما أطال التفكير؛ فالنقص غير موجود؛ فأولا منبع أشعاره كلها يمكن تعويلها على الكلمة السهلة المفيدة التي تسمى عبقرية، ومن جهة أخرى فهو غير قادر على الإيمان بوجود نقص ما عميق داخله لا يستطيع هو الوعي به، وحتى لو آمن بذلك؛ فهو بدلا من التعبير عنه بكلمة نقص، كان الفتى يحب أن يسميه عبقرية.
ورغم ذلك، فلم تكن قدرة الفتى على النقد الذاتي لشعره منعدمة تماما. مثلا القصيدة ذات الأربعة أسطر التي أغرقها زملاؤه الأقدم منه مدحا، كان يرى هو أنها طائشة ويخجل منها. كانت القصيدة عبارة عن شعر يتكلم في مجمله عن قدرة عينيها الصافيتين على اختزان الكثير من الحب داخلها؛ بسبب تلك الدرجة العالية من الشفافية والزرقة مثل قطعة من الزجاج.
يسعد الفتى بمديح الآخرين له بالطبع، ولكن كان غرور الفتى ينقذه من مصير الغرق في بحر المديح. وفي الحقيقة كان الفتى لا يحمل أي تأثر أو اهتمام حتى بمواهب صديقه «ر». كان «ر» بالتأكيد ذا موهبة بارزة متميزة بين أعضاء نادي الأدب الأقدم منه، ولكنها لم تكن تصنع ثقلا في قلب الفتى بكلمات أو عبارات متفردة. كانت في قلب الفتى مناطق بالغة البرودة، وإذا لم يقم «ر» بالإسهاب في مديح مواهب الفتى الشعرية باستخدام الكثير من الكلمات، لما كان الفتى على الأرجح ليعترف بموهبة «ر».
وبديلا عن تذوق السعادة الهادئة التي تأتيه من وقت لآخر، كان الفتى يعلم جيدا أنه تنقصه العاطفة الخام التي تلائم فتى في مثل سنه. في مباريات كرة المضرب التي تقام بين المدارس التابعة لجامعة «غاكوشوين» مرتين من كل عام في الربيع ثم الخريف، عندما ينهزم فريق مدرسة «غاكوشوين» الإعدادية أمام المدرسة الإعدادية التابعة. بعد نهاية المباراة يلتف المشجعون من الزملاء الأحدث حول اللاعبين الذين ينهارون في البكاء بشدة، ويبكون معهم، ولكن الفتى لم يكن يبكي، ولم يكن يشعر بأي حزن ولو قليلا.
رأي الفتى هو: «ما هو الأمر المحزن في خسارة مباراة لكرة المضرب؟» الوجوه التي تبكي لسبب كهذا كانت بعيدة جدا عن قلبه، بالتأكيد كان الفتى يعلم أنه مخلوق سهل التأثر والتعاطف، ولكن سهولة التأثر تلك كانت تتجه في اتجاه يختلف عن الآخرين جميعا، ومن ناحية أخرى كان ما يبكي الآخرين لا يتردد صداه في قلب الفتى على الإطلاق.
زادت تدريجيا عناصر الحب فيما يكتبه الفتى من أشعار. ورغم أنه لم يسبق له خوض تجربة الحب؛ ولكنه كان قد سئم من تأليف الشعر معتمدا فقط على تحول كائنات الطبيعة، فبدأت نفسه مع الوقت ترغب في كتابة الشعر عن تحولات القلب. ولم يكن الفتى يشعر بأي حرج في كتابة الشعر عن موضوع لم يسبق له خوض تجربته بنفسه. فلقد كان من البداية متأكدا أن الأدب والفن هو كذلك . ولم يتباك على الإطلاق من عدم خبرته؛ فالحقيقة أنه لم يكن هناك أية بوادر للتصادم أو التوتر بين حقائق العالم الذي لم يخض تجربته بعد، وبين عالمه الداخلي الخاص به. ولم يكن في حاجة إلى ضرورة الإيمان بتفوق عالمه الخاص ولو بالقوة. ومن خلال تأكيد ما غير عقلاني، كان يستطيع حتى الاعتقاد أنه لا يوجد في هذا العالم أية عاطفة لم يسبق له تجربتها شخصيا. والسبب أنه كان يعتقد أنه بالنسبة لقلب حاد العاطفة مثل قلبه، يمكنه من خلال تجميع العناصر الأساسية لجوهر كافة المشاعر والعواطف في هذه الدنيا في الشكل المناسب، حتى لو كان ذلك من خلال توقعها في حالة معينة. فكل التجارب الأخرى من الممكن له التقاطها والتدرب عليها ثم إيجادها. ما هي العناصر الأساسية للمشاعر؟ كان الفتى قد وضع لها تعريفا خاصا، «إنها الكلمات».
لم يكن الفتى قد تمكن بعد من الإمساك بالكلمات أو اتخذ لنفسه طريقة استخدام لها خاصة به وحده حقا. ولكن الكثير من الكلمات التي يكتشفها في المعاجم، كلما كانت كلمات شاملة، وكانت لها معان متعددة ومحتوى متنوع، ظن أنه يملك طريقة استخدام خاصة به وتحمل بصماته. ولكنه لم يكن يعتقد بالضرورة أن طريقة الاستخدام الخاصة به تلك، تحمل صفاتها وألوانها وتتكون لأول مرة من خلال الخبرة والتجربة المعيشية.
إن اللقاء الأول لعالمنا الخاص مع الكلمات، هو تلامس الشيء الفردي مع الشيء الشامل. وكذلك الشيء الشامل يتم صقله، بالتالي يحصل على مكانه لأول مرة كشيء فردي. إن تلك التجارب الداخلية التي يصعب التعبير عنها تراكمت بشكل كاف حتى داخل الفتى ذي الخمسة عشر ربيعا. والسبب أن الفتى عندما يصطدم بكلمة ما جديدة ويشعر بغرابة تجاهها، في ذات الوقت كان ذلك يجعله يحس بتجربة عاطفة ما مجهولة داخله. وكان ذلك مفيدا له أيضا في الاحتفاظ بملامح هادئة لا تتناسب أبدا مع عمره. ولأنه كان قد تعود على التعامل عندما تهجم عليه عاطفة ما، من الدهشة التي تحدثها تلك العاطفة داخل قلبه، يتذكر على الفور إحدى العواطف المناسبة التي تم ذكرها سابقا، ويتذكر الكلمة التي سببت تلك العاطفة. ومن خلال تلك الكلمة يعطي بسهولة تلك العاطفة التي أمامه اسما. ولهذا السبب كان الفتى يعرف أشياء متنوعة مثل: «اليأس» و«اللعنة»، و«فرحة بلوغ الحب»، و«حزن فقد الحب»، و«الألم والمعاناة»، و«الذل وجرح الكرامة».
Bog aan la aqoon