ولقد جاء المتنبي، والمتنبي من أفحل من حذقوا لغة العرب وحصلوا غريبها، وممن خرجوا إلى البادية ليتعلموا لغة الأعراب ومنازع بلاغاتهم وطرق عيشهم، فهو من هذه الناحية غير متهم، لقد طالما أخذ إخذهم وجرى على سنتهم، ولكن للرجل عقلا عبقريا قد يسمو به عن هذا الأفق ويحلق به فوق هذا المستوى، فيدرك أشياء على غير ما أدركوا، ويتصور أشياء على غير ما تصوروا فينحط بها إلى الشعر.
ولقد يشعر بعقله لا بوجدانه، فيجري كلامه على منطق الفلسفة لا على منطق الشعر، ولقد يجازف في إصابة المعنى الذي ارتصد له بأحكام البلاغة؛ بل لقد ينشز على قوانين اللغة نفسها ما يبالي في كثير ولا قليل!
أتعرف موقع هذا من آراء علماء الأدب ونقدة الشعر؟
لقد قال بعضهم في غير تردد ولا تحبس: إن المتنبي ليس بشاعر ألبتة؟
وما كان هذا إنكارا منهم لفضل المتنبي ولا جحودا لخطره، ولكن لأن ما جاء به ليس من جنس ما يقوله الشعراء رعاية لقوانين الأدب، ومشاكلة لمنازع لهجات العرب. •••
ولقد أطلت الحديث هذه الليلة، وهذا الموضوع الذي نعالجه يحتاج إلى حديث بعد حديث، ولعلنا نوفق غدا إلى غاية الكلام إن شاء الله!
انتهى الحديث أمس بنا إلى أن قوما من نقدة الشعر قالوا: إن المتنبي على جلالة محله، لم يكن شاعرا ألبتة، ولقد تجد لأبي الطيب في بعض شعره من حسن النسج وقوة التعبير وسطوة الكلام ما تجده في شعر أبي تمام، وهذا في نحو قوله مثلا إذ يصف الأسد وما كان من تعفير سيف الدولة له بسوطه:
ورد إذا ورد البحيرة شاربا
ورد الفرات زئيره والنيلا
متخضب بدم الفوارس لابس
Bog aan la aqoon