ولقد أخرج الجاحظ كتاب «الحيوان»، بحث فيه طبائع الحيوانات وعاداتها، وعقد المناظرات الكثيرة بين أصحابها، والجاحظ رجل واسع العلم، شديد التمكن من النفس، قوي الحجة، يملك من ناصية البيان ما لا أحسب أن قد ملكه بعده كثير، فهو لا يزال يمهد على لسان هذا الرأي، ويفلج بالحجة، ويبعث بالشاهد في عقب الشاهد، ويضرب المثل بعد المثل، حتى يأخذ عليك مخانق الطرق، فلا تجد بعدها محيصا من الإذعان والتسليم، ثم يبعث لك الطرف الآخر، فما يزال يدافع تلك الحجج، وينقض ما قام بين يديك من الأدلة والشواهد، ثم ما يزال يبريها ويفريها حتى تستحيل هباء يتفرق في الهواء، ثم يردك إلى مكانك الأول، ثم يعود بك إلى الثاني، ويظل يرجحك بين الرأيين المختلفين بقوة حجته، وسلاطة بيانه، حتى إذا قدر أنه دوخك وأرضى شهوته بإذلال ذهنك، رحمك فعدل بك إلى حديث آخر!
ولقد عرض الجاحظ في كتاب «الحيوان» لمسائل من العلم ومن الحكمة، وحلل شيئا من الطباع والأخلاق، بل لعله بالتكنية الغامضة والتورية البعيدة قد مس أشياء تتصل بحياة المجتمع، ولكن لا تنس، مع هذا، أنه لا الجاحظ ولا ابن المقفع، ولا من نحا نحوهما عرض لاصطناع القصة على النحو الذي كان يعرفه قدماء اليونان ونعرفه نحن اليوم، وكل ما طلبوه من هذا فيما أخرجوا من الكتب لا يعدو أن يكون حكما منثورة، وعظات جزئية لا ينتظمها سبب، ولا يجمع بينها نسب «أما القصة بمعنى اختراع الأشخاص، وتمهيد المكان، وابتكار الحوادث، وخلق الوقائع، ونفض الصفات على ممثليها، على أن يتجه كل ذلك إلى غاية واحدة، ويدرج إلى غرض معين، فذلك ما لم يعن به العرب ولم يتوجهوا إليه».
ولكن لا ينبغي لنا أن نغفل، في هذا الباب، أمرا آخر له أثره وله خطره: ذلك أن العرب، وخاصة في عصر الدولة العباسية، قد عنوا بلون من القصص، وهو الحكايات القصيرة يضيفونها إلى بعض الناس لتشهيرهم والعبث بهم، أو لمجرد التفكيه والترفيه بما يتندرون به عليهم، وهذه الأقاصيص وإن عرضت في بعض الأحيان لتحليل جانب من نفس إنسانية، فإن ذلك لا يترامى إلى الغرض الذي تجتمع له القصة على ما كان يعرفه لها قدماء اليونان ونعرفه لها نحن اليوم.
وعلى هذا كتاب «البخلاء» للجاحظ، ولا أظن أن الجاحظ كان صادقا في أكثر ما روى عن بخلائه، ولعله إن صدق في أصل بعض فقد غلا فيه غلوا كبيرا! وعلى كل حال، لقد كان الرجل في تصويره وتخييله، وتشبيهه وتمثيله، بارعا تام البراعة، رائعا بالغ الروعة!
وهناك غير أحاديث «البخلاء» أحاديث فيها عجب وفتنة، ما أحسب أكثرها إلا قد اخترعت اختراعا لا لشيء إلا للتشهير والعبث، أو لمجرد التفكيه وإدخال السرور على نفوس الناس، ولعلي أوفق يوما إلى أن أعرض طائفة منها للقارئ الكريم.
وعلى أي حال فإن أثر هذا اللون من القصص لا يجاوز التسلية والتفريج عن النفوس بالإتيان بالعجيب يتعاظم الأحلام!
على هذا فهم العرب القصة، وعلى هذا اتخذوها، فنشأ القصاص تعد لهم الحلق ليحدثوا الناس عن أبطال الحرب، وعن أبطال الجود، وعن أبطال الغرام وعن غير أولئك من الأبطال، وتجمعت أحاديث «ألف ليلة وليلة»، وبرزت قصة «عنترة»، ووضع كتاب «قصص الأنبياء»، وخرج كتاب «بدائع الزهور، في وقائع الدهور»، وكتاب «سيف بن ذي يزن»، ثم استرسلت العامية في مصطفى منظومها ومنثورها في سيرة أبي زيد الهلالي وأصحابه، واحتفلت الاحتفال كله لذكر وقائعهم ومغازيهم وفتوحهم، وما يكون منهم، إذا استحر القتال، وتداعى الأبطال للنزال، فترى الواحد منهم يقط الأعناق عشرين وثلاثين بضربة من السيف واحدة! ... إلخ.
ولا زال الشعراء - وليسامحنا شوقي وحافظ ومطران وإخوانهم في هذا التعبير فإنه الشائع في السواد - ما زال هؤلاء الشعراء يتخذون لهم مجالس عالية في بعض المقاهي البلدية ليقصوا على العامة سيرة أبي زيد وأصحابه في ترتيل وتنغم يوقعونه في لباقة ولطف أداء على «رباباتهم»، ولأولئك العامة بهم ما شاء الله من افتتان، ولهم ما شاء الله من التطريب على تلك الألحان!
على أن تأليف الحكايات في العربية وإجراءها مجرى الخيال لم ينقطع في زمن من الأزمان، ولعل أبرز ما ظهر من ذلك أثناء هذه النهضة الحديثة كتاب «علم الدين» للمرحوم علي مبارك باشا، و«حديث عيسى بن هشام» لمحمد بك المويلحي، و«حديث موسى بن عصام» لأبيه إبراهيم بك، عليهما رحمة الله، وما قام على ترجمته المرحوم عثمان بك جلال.
ومن أوائل من وضعوا القصة في مصر، بالمعنى المعروف، أحمد شوقي بك «النضيرة بنت الضيزن»، وأحمد حافظ بك عوض «رواية اليتيم»، ولقد ترجم المترجمون مع هذا في هذا العصر من قصص الغرب ما لا يحصى كثرة.
Bog aan la aqoon