حضرة محرر اليوميات
أرجو إن سمحت، أن تنشر خطابي هذا وتتفضل بالإجابة عما عزب عن علمي، وتحير في تعليله فهمي، ولك الأجر والثواب، من الكريم الوهاب:
روى لنا التاريخ أن السلطان «سليم» كافأه الله بما يستحق، لما تم له فتح مصر واعتزم القفول إلى بلاده، فيما جمع أمهر الصناع وأحذقهم، ممن لا تزال آثارهم في المساجد، والأسبلة، والرباطات (التكايا)، وما حوت المتاحف، ناطقة بما بلغت مصر من علو الكعب، والبراعة البارعة في مختلف الفنون والصناعات، وبلغت عدة هؤلاء المفتنين والصناع في رواية بعض المؤرخين عشرة آلاف، وزاد بعضهم عليها، ونقص بعضهم منها، وأشد المؤرخين قصدا من قدرهم بألف، وعلى كل حال فقد انحطت الصناعة على أثر ذلك في مصر واضمحل منها كثير.
على أننا، لأول عهدنا بالحياة، شاهدنا كثيرا من الصناعات البلدية تعالج كلا منها طوائف من الناس، ويتخذ كل أرباب حرفة، وبخاصة في القاهرة، رقعة معينة، فصناع القرب مثلا في القربية، وصناع الأحذية البلدية (المراكيب) في السروجية، وصناع الشمع في السكرية، وخراطو الخشب تحت الربع، والقرادون (القرداتية) في حوش بردق، «والأدباتية» والحواة في «عشش الترجمان»، والشحاذون في عرب اليسار إلخ إلخ.
وما برحت هذه الحرف تنقبض وتضمحل رويدا رويدا، بما يهجم عليها من مصنوعات الغرب وأسبابه، فحلت «السيارة» محل البغل، ومياه الصنابير (الحنفيات) محل قربة السقاء، و«السينما» محل خيال الظل، وموسيقى الأروام التي يطوفون بها المقاهي، محل جوقة «ألا يا بدر لم أنظر مثالك»، واللاعبون من أولئك بالكمان محل «رمز» إلخ إلخ.
ولم يبق ثابتا قويا على الأيام إلا طائفة الشحاذين «والبركة فيهم»!
وكل هذا لسوء الحظ معقول مقبول، ما دامت سنة الكون واحدة لا تتبدل ولا تتحول، وهي بقاء الأنسب، وعدم ثبات الضعيف أمام القوي.
ولكن الذي لا يعرف سببه، ولا تفهم علته، زوال مهنتين قويتين كانت تحتكر كلا منهما أسرة واحدة! والأسرتان كلتاهما كانتا تسكنان حارة اليهود.
وفاتني أن أذكر لك أن هاتين المهنتين كانتا تدران الرزق على أصحابهما، فكانوا يعيشون في أوسع عيش، ويتقلبون في أنضر نعمة، ألا وهما طائفة «الملاقياتية»، وطائفة «التعويضجية»، وكذلك يدعون في عرف العارفين.
وأفراد الطائفة الأولى، كانوا يخرجون بعيد انصداع الفجر، فيتقسمون بينهم مناطق حي الأزبكية: هذا يطلب ميدان إبراهيم باشا، وهذا يطلب شارع «وجه البركة»، وهذا شارع «كلوت بك» إلخ، فإذا بلغ الواحد منهم أول المنطقة مشى وئيدا، وهو متكفئ يحدد نظره في الأرض، ويتفقد كل دقيق على ظهرها، حتى إذا انتهى إلى آخر المنطقة، عاد في خط مواز للخط الذي قدم منه، ولا يزال كذلك رائحا غاديا في خطوط متساوية، فعل الحراث في الأرض، وكلما أصاب لقطة من كيس أو دينار أو درهم أو حلية، أسرع فالتقطها ودسها في جيبه، ثم عاد إلى داره يعيش أخفض العيش، بفضل هذا الغنم الذي لم يجشمه إلا ما رأيت!
Bog aan la aqoon