312

وإني لأخاطر ثانيا على أنك لن تقع على السبب الصحيح حتى ينحدر نظرك إلى صميم هذا المقال.

ولا تحسبن الرجل من أهل المكارم يتفقد العافين، ومن تغير لهم الدهر فيجري عليهم الأرزاق، ويصلهم بكريم الصلات.

ولا تحسبن الرجل متبذخا في عيشه يلبس الحرير والديباج، ويركب الجياد الفارهة والسيارات الفخمة، ويسكن القصور يفتحها لصدقانه، والوافدين عليه فيتبسطون على طعامه، ويقلبون أعطافهم في نعمه، فما رأيته قط إلا في ثوب خلق، ولا شهدته قط إلا راجلا أو «مترما» على رأي الأستاذ الخضري، ولو كره الأستاذ السكندري، ولا أعلم أنه سكن في غير بير المش! أو كفر الزغاري أو درب الوطاويط! ثم هو لا يستريح من الناس إلى صاحب، ولا يأنس بخليل.

ولا تحسبنه مقامرا، ولا مضاربا، ولا مستهترا بشراب، ولا ممن يتخذون الخليلات فيسخون بكرائم الأموال في حليهن وأسباب زينتهن، ولو أتى هذا على كل ما ملكت أيمانهم من جليل الأموال.

وأخيرا فلا تحسبنه معتوها يتغفله الشطار، فيستخرجون ماله بوجوه «النصب» وأسباب الحيل، لا تحسبنه شيئا من ذلك، ولا تظنن أن ثروته تبتذل في مثل هذه الوجوه المأثورة عن تعساء الوارثين ...!

كل خطب الرجل أنه يحب القضايا ويكلف بها كلفا شديدا، ولست أبالغ إذا قلت لك إن غرامه بالقضايا وبالتقاضي يرجح على غرام المجنون بليلى، وابن ذريح بلبنى، وروميو بجولييت.

هو مغرم بالقضايا غراما يسيل الكبد، ويمزق شغاف القلب تمزيقا، يحب القضاء ويحب التقاضي، ويحب المحاكم ويحب المحامين، ويحب المنازعات ويحب الخصوم أيضا، ويا ويل الأرض منه والسماء إذا لم يجد مدخلا لخصومة، ولم يصب مدرجا إلى المحكمة، ولم يلف وسيلة يشاغب بها الناس أو يشاغبه بها الناس! فإذا طلع عليه نهار وليس له فيه قضية فوا حر قلباه! فما الصب كشحه كاشح في هواه، ولا «المجنون» وقد ملك عنه العاذل ليلاه، بأشد منه حرقة ولا أفدح وجدا.

وهو رجل لا يصبر على الأذى، ولا ينزل على الضيم، ولا يسلم نفسه لطوارق الأيام، ففتق له العقل أن يتخذ ذخيرة من القضايا

stock

يكفي بها الإعواز ويتقي بها - وقاك الله - شر الحاجة، فجد واجتهد حتى أجد ثمانمائة قضية دفعة واحدة، فرقها على ألوان المحاكم: أهلية وشرعية ومختلطة، جزئية وكلية واستئنافا أعلى، وفرض كذلك نصيبا لمحاكم الأخطاط، والمحاكم القنصلية، ولم ينس المجالس الملية، بحيث يستمتع كل يوم ب 10-15 قضية إذا حسبت حساب «التأجيلات»، وبحيث إنه - لا سمح الله - كلما انتهت قضية صنع بدلها قضية، حتى تظل الثمانمائة وافرة لا تكلم على الأيام!

Bog aan la aqoon