دخول الصنعة في الشعر
سيداتي، سادتي
لقد امتحن الشعر العربي من العصر العباسي الأول بدخول شيء من الصنعة عليه، وكانت هذه الصنعة أول الأمر تعتريه في رفق ولين ، وكان أكثر ما يتغشاه من ألوان البديع الطباق والتقسيم والتجنيس، وكيفما كان الأمر فإن الاحتفال للصنعة في الشعر مما يفتر في الترجمة عن صادق الحس، وكلما أمعن الشاعر في الاحتفال للصنعة ازداد - بالضرورة - التراخي بينه وبين نفسه.
ثم ما برح يطرد هذا الصنيع ويشيع في الشعر العربي، إلى أن يطلع في العصر العباسي الثاني فيلسوف الأدباء قاطبة وأعني به أبا العلاء المعري، يطلع بديوان كامل، ديوان تضمن أجل ما تنزل عليه من الحكمة، ينتظم جميع أبياته لون واحد من البديع، وهو لزوم ما لا يلزم من إجراء القافية على حرفين أو أكثر!
ولقد شاعت هذه المحنة وتغلغلت، لا في الشعر وحده، بل في الشعر والنثر جميعا، وكان لمصر منها حظها العظيم.
وليس يتسع هذا المقام للحديث في أصحاب البديعيات من الشعراء، ولا في القاضي الفاضل وتلاميذه من الكتاب، وكل ما أستطيع أن أرده الآن في هذا الباب، أن الأدب كله أصبح عبدا للصنعة، يرتصد للنكتة البديعية، ولا يزال يتحرف باللفظ لإصابتها واقعة ما وقعت بعد هذا مرامي الكلام، حتى لقد ترون الشاعر يعقد في قصيدته القافية على حرف عزيز كالثاء مثلا، دلا ومكاثرة، فيستخرج القوافي أولا، ثم ما يزال يجد ويجهد في تجنيد الألفاظ لها، وقسر الكلام عليها، حتى يصيبها عن طواعية أو استكراه!
وعلى الرغم من أن مصر قد استوفت قسطها من هذا اللون من الأدب، فقد بقي فيها الشعر والنثر كلاهما يحملان طابعها الخاص: حلاوة في اللفظ، ورقة في الغزل، ودقة في وصف مشاهد الطبيعة.
الأدب في عهد الترك
سيداتي، سادتي
لقد كرث الحكم التركي مصر في كل شيء: في العلم، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي الصناعة، وفي التجارة، وفي سائر وسائل العيش، فأصبح من الطبيعي أن يتلون الأدب، على الزمن، بلون هذه الحياة، ولو قد ظل مع هذا على شأنه الأول من القوة وسعة التصرف لما كان أدبا مصريا، ولا كان مما يتسق لأذواق المصريين!
Bog aan la aqoon