سيداتي، سادتي
لم تقتصر مهمة الأدب على تقييد نوادر هؤلاء الذين امتحنوا بهذا الشذوذ الخلقي، وقص ما كان منهم من طرائف ونكت، وما تطرف به أصحاب البدائه عليهم، بل لقد حركت هذه الخلال فيهم ملكات الشعراء والكتاب، فجاءوا في هذا برائع الوصف وبارع التشبيه، مما زاد البيان ثروة، بل لقد بسطت في الأخيلة فأعظمت الصغير من النوادر، وأجلت الدقيق من الحوادث، بل ربما اخترعتها اختراعا، واختلقت القول فيها اختلاقا، وهذه نوادر البخلاء في كتاب الجاحظ ما أحسب كثيرا منها إلا منشأ مصنوعا.
ومن أبدع ما قرأت في نوادر الطفيليين، مما لا أظنه إلا حديثا مصنوعا، هذه الحكاية التي أترجمها لكم بلغتي الضعيفة، فلقد مضى على قراءتي لها دهر طويل، ولما بيت النية على هذا الحديث، بحثت عنها فيما كنت أقدر لها من المظان فلم أصبها مع الأسف الشديد، وهي في أصلها مكتوبة بلغة بارعة لا يتعلق بغبارها هذا البيان، وسأنتهز هذه الفرصة، حين يعرض ذكر ألوان الطعام، فأبدل ما لا نعلم من السكباجة والطهباجة والمضيرة، بما نعرف من الصحاف الدائرة في مصر الآن:
حدث رجل من أهل الكوفة أو البصرة (لا أذكر) قال: كنت امرأ واسع النعمة عريض الغنى، ثم تغير لي الدهر وألحت علي السنون، حتى لم يبق في يدي ما أتجمل به بين أهلي ومعشري، فانحدرت إلى بغداد، إن لم أدرك الغنى فلا يراني على هذه الحال من كان يراني في يسري وأبهتي، وبينا أنا واقف على بعض مداخلها حيران لا أدري لي فيها مذهبا، إذ جاز بي رجل حسن البزة، فما إن رآني حتى وقف يتأملني، ثم تقدم إلي فسلم وسلمت، فقال: لعلك غريب حدرتك السنون إلى هذا البلد في طلب الرزق، ما تعرف هنا خطة ولا تعرف أحدا؟ قلت: بلى قال: فهل لك في أن تأكل أزكى الطعام وتلبس أفخر الثياب، وتأخذ مالا يعود بما يجتمع منه على شملك، إذا رجعت إلى أهلك؟ قلت: وأصنع ماذا، في كل هذا؟ قال: حسبك أن تكون طيعا أمينا، قلت: لقد رضيت، وما لي لا أكون كذلك؟ قال: الشرط أملك، فتعال معي ، وتبعته فما زال يخرج بي من طريق إلى طريق، وينفذ من درب إلى درب، حتى أفضينا إلى دار عالية البناء رحبة الفناء فدخلها وأنا وراءه، ثم أفضى بي إلى حجرة فسيحة حسنة الرياش، جلس إلى جانبيها مشيخة من الناس، لهم هيئة حسنة، وجلس في الصدر شيخ أعمى عليه مطرف، وهو أكبرهم عمامة، فتقدمني صاحبي إليه وأسر في أذنه كلاما، فدعا بي، فسلمت وسلم القوم، وقال لي ذلك الشيخ، وعرفت أنه كبيرهم: هل علمت شرطنا ورضيت به؟ قلت بلى يرحمك الله؛ قال: إذن فاعلم أنك قد توجه إلى الوليمة فتقتحم على القوم طعامهم بلطف حيلتك وحسن مدخلك، فكل ما شاء الله لك أن تأكل، فإذا أصبت غفلة من العيون، فدس في أطواء ثوبك كل ما يتهيأ لك دسه من اللحم والحلوى، وإذا وصلك رب الصنيع بمال قل أو كثر، فعليك أن تجيء بالمال وبالطعام، فيقسم هذا وهذا بين الجماعة لكل سهم، وللشيخ (يعني نفسه) سهمان، وهذا شأن إخوانك جميعا، قلت: أفعل إن شاء الله ولا فضل لي فيه، بل الفضل أجمعه إليكم، وقاسمتهم على هذا، فجعل الشيخ يعلمني وينصح لي بما لم أجد ما أحتاج معه إلى مزيد، ثم دعا لي بخير.
ولما نزلت الشمس للمغيب، أفرغوا على كل منا طيلسانا وعمموه عمامة كبيرة، وزودوه بما أمسى له به هيأة وسمت، ثم جعل الشيخ يفرقنا في ولائم الليلة، وألزمني رجلا من الجماعة ليعرفني الطريق، ويفرخ عني ما عسى أن أجد أول الأمر من الهيبة والتحشم، وليريني كيف يكون التجمل لهذا الأمر والتلطف فيه.
ومضينا لوجهنا فأصبنا من فاخر الطعام ما شاء التطفيل أن نصيب، ثم عدنا بما دسسنا من الطعام وما أفدنا من الدراهم إلى الجماعة، حتى إذا عاد سائرهم ونفضوا ما حملوا تقسموه، وأخذت قسمي، وادخرت فضل الطعام لغدي.
وما زلت على هذه الحال حتى عرفت خطط بغداد ودروبها، والمتبسطين على الطعام من أجوادها، وتمت لي البراعة في هذا الأمر، وأصبحت لا أحتاج فيه إلى رديف، فحسنت حالي، وكثر المال في يدي، فاكتريت دارا لي أنام فيها، وفيها أقضي وقت فراغي.
ثم بدا لي أن أبعث في طلب أهلي وعيالي، فما مثل هذا العيش عيش، ولا وراء ما أنا فيه من النعمة نعمة!
وذات عشية أذن الشيخ في القوم بأن لا ولائم الليلة في المدينة، فمن شاء قام إلى بيته، فبدا لي أن أتفرج صدرا من ليلي في أرجاء بغداد، وما برحت سائرا يزلقني طريق إلى طريق، ويستدرجني درب إلى درب، حتى رأيتني في ظاهر البلد، وإذا عرس يرد عليه الناس زرافات وشتى، فاختلطت بهم ودخلت الدار معهم، وآكلتهم وشاربتهم، ونفحني رب الصنيع بدينار، فوسوس لي الشيطان أن أستأثر به وأكتم صحبي أمر هذه الوليمة، فما جاءتهم عيونهم عنها بخير.
ومضيت إلى الجماعة من غدي، فما رأوني حتى وقفوا صفا، وقد احمرت أحداقهم ، ورجفت شفاههم، وقال قائل منهم: أين كنت ليلة أمس؟ قلت: طلبت داري من ساعة فارقتكم ولازمتها حتى الساعة، فجذبني أولهم إليه وشم راحتي، وقال بل كنت في وليمة وأكلت «ديكا روميا»، وصفعني صفعة شديدة ودفعني إلى الذي يليه، فشم راحتي وقال: وأكلت بعده «بامياء مرصوصة»، وصفعني صفعة أطارت صوابي، ودفعني إلى الذي يليه، فصنع صنعه، وقال: وأكلت «كستليته» مشوية، وصفعني صفعة كادت والله تسل خيط نخاعي، وقال الرابع: وأكلت كيت، وهكذا ما أخطأ - والذي نفسي بيده - واحد منهم قط فيما تشمم وحزر، ثم انتهيت إلى الشيخ المكفوف، فشم باطن يدي وقال: وأخذت دينارا؛ وصفعني صفعة لو وزن بها كل ما نالني في ليلتي لرجحت به، وما زالوا بي صفعا بالأكف، وركلا بالأرجل حتى ألقوا بي في ظاهر الدار لا أعي شيئا!
Bog aan la aqoon