وعلى قدر الرغبة في قوة العراك وشب القتال، يكون عدد تلك الخواتم، فمن الناس من يقدم الاثنين، ومنهم من يقدم الثلاثة، ومنهم من يضاعف هذا المقدار، إعلانا للسطوة وإيذانا بالرغبة في استحرار القتال! أما المستضعفون من الناس، فلا يقدمون شيئا من ذلك إيذانا بإيثار العافية، وطلب الدعة والأمان!
وكان نظام الموكب - موكب «زفة العريس» - يجري على الوجه الآتي، الطبل البلدي وبين يديه طائفة من الغلمان والفتيان، ثم الموسيقى الأهلية، إذا كان «العريس» على شيء من اليسار، ثم حملة خواتم سليمان، تضطرب من فوقها ألسنة الشموع، ثم جمهرة الفتوات يلوحون بعصيهم في الهواء، ثم حملة «الشمعدانات» في صفين متقابلين، ثم «العريس» يحيط به أصدق صحبه، وفي أيديهم الشموع والأزاهير، وقد تقف القافلة بين حين وآخر لاستماع من يغني القوم بالأغاني البلدية، فتراهم يحسنون الإصغاء، حتى إذا فرغ من نبرته عجوا بأصوات الاستحسان من نفس الطبقة التي يجري فيها الغناء، وهنا تسمع الصياح من كل جانب من نحو «يا ربنا والملايكة»! و«احنا الصبوات العتر»!
فإذا بلغت «الزفة» في مسراها ذلك الموضع، أعني الرقعة الواقعة بين مسجدي الحنفي والشيخ صالح، إذ الأعداء متربصون هناك، أذن المؤذن بنشوب القتال، وكانت أول عصا تهوي على رءوس الزمارين المساكين، فاكتسبوا هم الآخرون بطول التدريب والتمرين مهارة في اتقاء الضرب، وفي احتماله، وفي الفرار وتولية الأدبار؛ وكان أشدهم في هذا عناء هم الطبالين لما يثقلهم من حملهم، وكثيرا ما تتخرق طبولهم بضربة العصا، أو بقبضة يد من ضارب صناع!
ويزخر الميدان، ويتلاقى الأقران، ويستحر القتال والطعان، فلا ترى إلا عصيا تتهاوى على الأبدان، فتشق الرءوس شقا، وتدق الأصلاب دقا، وتخسف الأصداغ خسفا، وتقصف الأضلاع قصفا، والدماء تسيل حتى تجلل الثياب، وتفيض على الأرض بما يروي من غلة التراب، وهذه الدماء هي أوسمة الشرف يتحلى بها الكماة الأبطال، إذا رجعوا إلى معشرهم من معترك القتال.
ولقد تسمع الكمي وقد واجه عدوه وشرع عصاه، وتهيأ للوثاب وهو يصيح: وارايا ... وهو كلام قبيح لا يجوز رده على الآذان.
سيداتي، سادتي
لم يكن البوليس ليجرؤ، في غالب الأحيان، على اقتحام هذه الملاحم، أو يستطيع ضبط تلك المواقع، بل لقد كان يولي عنها فرارا، وهنا ينبغي أن يذكر أن أحدا من هؤلاء الفتوات أو أوليائهم لا يمكن ولو بجدع الأنف أن يتقدم بالشكوى إلى البوليس أو غير البوليس، ولو كان الضرب قد أتلفه وأرداه، بل لقد كان في ذلك العار ليس بعده عار، والشنار ليس وراءه شنار!
هذه كانت بعض مظاهر البطولة عند أولاد البلد في الجيل الماضي، وثم مظهر آخر من مظاهرها، وأعني به الحرب الجبلية، ولا يتسع الوقت لوصفها وعرض حديثها، ولعلنا نجرد لذلك محاضرة أخرى!
ومهما توصف هذه الحالة بالوحشية، أو الهمجية، أو الاحتفال للعدوان، والخروج على النظام، فلقد كانت بطولة لها قيمتها على كل حال!
ولسنا الآن بسبيل العوامل التي قضت على هذه البطولة عند أولاد البلد، ولكنا نسجل فقط أنها قضى عليها القضاء التام، ولم يبق من آثارها إلا مجرد ادعائها والتظاهر بها، فيما تسمعه من هؤلاء أولاد البلد أثناء «الشروع في الخناقات» من ألوان الوعيد والتهديد، بتهشيم الآناف، وتحطيم الأكتاف، وتكسير الرءوس، وإزهاق النفوس، فليس وراء هذا النفخ «المعر» شيء أبدا.
Bog aan la aqoon