260

والعقاد كذلك قسيم الوجه، وسيم الطلعة، والعجيب أن تحضرني الآن صورته، فإذا هو عظيم الشبه بالشيخ سلامة حجازي!

والعقاد نيف ولا شك على السبعين، إذا لم يكن قد أطل على الثمانين، فإذا أسقطت من هذه السن عشرين أو ما دون العشرين (وهي سنو التعليم) فثق بأنه قضى الباقي المستأثر بالزعامة والتقديم، والمنقطع النظير بين جميع الضاربين بالقانون.

وقبل أن أعرض لفن العقاد أقدم لك أن هذا الرجل - على ما تستدرج إليه مهنته من مقارفة ألوان من المعاصي بحكم السهر المتوالي، وحاجة مجالس الغناء إلى ما يذكي الحس، ويشد المتن، ويثير الشجن، ويطير الخيال - لم يذق الخمر قط، ولم ينقطع عن أداء حقوق العبادة قط، ولم يتنفس بالدخان في مجلس القرآن قط، وهو إلى هذا شديد الأدب، جم التواضع، عظيم التوافي للناس، كريم اللسان فيهم، لا ترى أنامله تجري على أوتار قانونه إلا وهو ضاحك أو مبتسم مهما كرثه من أحداث الزمن!

أما العقاد في فنه فقد رزق أولا تلك الموهبة الإلهية التي يختص الله بها من يشاء من عباده ما ندري لها تعليلا، ولا نفقه لمتنزلها تأويلا، وهي في جماعة الضراب على آلات الطرب ما يدعونه بحلاوة الأصابع، فلقد كانت أنامل العقاد بالغة من ذلك غاية الغاية.

وإنني ألفتك في هذا المقام إلى شيء حقيق بالالتفات، ذلك أنك ترى رجلين يوقعان لحنا على العود أو القانون، وكلاهما بمنزلة سواء في حذقه وتجويده ، بل في كل نبرة من نبراته، وغمزة من غمزاته، ومع هذا تجد لأحدهما من الحلاوة والتطريب والشجا ما لا تجده لصاحبه! وتلك هي الموهبة التي حدثتك عنها، والتي ظفرت بأعظم الحظوظ منها أنامل العقاد.

ويقع هذا الرجل من أول نشأته، في طريق نابغة الغناء في مصر عبده الحامولي، فيتخذه ويهذبه ويطبعه على محاكاته في توقيعه وتنغيمه، فيسايره العقاد ويرضى بالقانون مطمعه في مذاهب غنائه، حتى ما يستريح عبده إلى الغناء في الأعراس وفي مجالس الملوك والأمراء إلا إذا كان يسنده العقاد!

ولقد كنت تجد لصوت قانون العقاد من القوة والروعة والوضوح والنصاحة والحلاوة، وبراعة المطلع وسلامة المنزع وجلالة المقطع، ما لا يمكن أن تجده لقانون آخر، وإنك أثناء هذا كله لا تشعر - لولا أنك تمد بصرك - أن هناك أنامل تصك الأوتار صكا، ولكنك تشعر أن الأوتار تتنغم من تلقاء نفسها تنغما!

وهنا ينبغي أن تذكر لهذا الرجل مزيتان لعله لم يشركه فيهما غيره من محترفي التوقيع على القانون: أولاهما أن المغني إذا مد صوته ب «يا ليل، يا عين» أو بمواليه أو بمقطوعاته، فليس على صاحب القانون، إذا أمسك المغني إلا أن يطلق أنامله بما يشاء، ولكن في حدود النغمة التي فيها المغني، ليستمر مذهب الطرب في آذان السامعين، ولكيلا يلتوي على المغني نفسه ما كان فيه حين يعود إلى وصل الغناء، أما العقاد فقد انفرد من بينهم جميعا بأن يحكي كل ما جال به صوت المغني حرفا بحرف، ونبرة بنبرة، وغمزة بغمزة، مهما أطال ذلك وكثر فيه تصرفه، وتردد في أبواب النغم دخوله وخروجه، فكانت ذاكرة العقاد في هذا عجبا من العجب!

أما مزيته الثانية، فليس يخفى أن أوتار القانون ترتفع على السبعين، وهي إلى هذا مرهفة الحس، شديدة التأثر بالجو، محتاجة في كل تصرف إلى شد أو إرخاء، ولهذا كثيرا ما ترى صاحب القانون ينقطع عن الجماعة ليسوي بعض أوتاره، فاخترعوا لعلاج بعض هذا ما يدعونه «بالعرب» وهي قطع معدنية في شكل القروش تقوم تحت أوتار القانون، يحركها الضارب في تلك الأحوال فتغنيه عن طول الانقطاع للشد والإصلاح.

ومع هذا لقد أنف العقاد أن يدخل هذه «العرب» على قانونه، واستغنى عنها «بعفق» أنامل يسراه، فلا هو ينقطع وينحبس للعلاج والإصلاح، ولا هو يشد الأوتار بتلك القطع المعدنية تدخل على صوت القانون شيئا تحسه الآذان السليمة المرهفة، وإن غفلت عنه آذان سائر الناس.

Bog aan la aqoon