231

ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة فمن شاء فيه تجديدا - وحتم الحتم على القادرين أن يجددوا - فليتقدم ولكن من هذه السبيل.

سيداتي، سادتي

لعلي أطلت عليكم في دفاعي عن نفسي وإثبات براءتي من الجمود والجامدين، ولكن مما يشفع لي عندكم في ذلك أن هذا الدفاع قد صرح لكم في الوقت نفسه عن رأي في التجديد والمجددين، وهذا ولا شك وثيق الصلة بالموضوع الذي عقدنا له هذا الحديث.

عرفتم إذن أنني لست والحمد لله، من الجامدين العاضين بالناجذ على كل ما هو قديم لأنه قديم، وعرفتم كذلك أنني أرى وجوب التجديد لأن طبيعة الحياة تقتضيه، بل إن التطور والتجدد من علامات الحياة، على ألا يكون هذا التطور والتجديد ضربا من المسخ والتشويه!

وبعد، فالمقام ما برح محتاجا إلى شيء من البسط والتفصيل، فلنمض على اسم الله، في معالجة هذا البيان بقدر ما يتسع له الوقت المقسوم.

تعلمون أيها السادة، أن العلوم على وجه عام، إنما تستمد قضاياها من العقل والتجارب، أما الفنون الجميلة على وجه خاص، فإن استمدادها في الجملة من الذوق، فهي من الذوق تنشأ وإلى الذوق تعود، والذوق شيء ليس في الكتب.

وإذا كانت العقول الصحيحة قل أن تختلف بإزاء الحقائق الواقعة باختلاف الأشخاص أو البيئات والعصور، فإن الاثنين مثلا ضعف الواحد، وزوايا المثلث تساوي قائمتين، وهذا في كل زمان وفي كل مكان، إذا كان هذا هكذا، فإن الفنون التي مردها إلى الذوق - أعني الفنون الجميلة - تفترق افتراقا قد يكون يسيرا وقد يكون شديدا، طوعا لاختلاف الأشخاص والعصور والبيئات، فما يعجب قوما ويلذذهم ويشيع الطرب فيهم، لقد ينشز على أذواق آخرين ويدخل الضجر عليهم، بل لقد يزعجهم ويغثي نفوسهم.

ذلكم بأن حاجة الأذواق ليست من آثار منطق العقل، ولا هي وليدة الحقائق الواقعة حتى تشترك الخلائق على اختلاف أصنافهم وأعصرهم في تقبلها والتسليم بها، بل إنها لوليدة البيئة والتاريخ، ومأثورة العادة والإلف الطويل، ولا شك في أن من عناصرها المهمة كذلك حظ الأمة من العلم والثقافة، ولون هذه الثقافة، ومبلغ الأمة كذلك من دقة الحس ورهافة الشعور.

من هنا كان لكل أمة أدبها، وكان لكل أمة موسيقاها، وكان لها غير هذين من ألوان الزخرف والتصوير، وغير الزخرف والتصوير، من كل ما يدخل في معنى الفن الجميل، فليس من حق جماعة أن تقول لأخرى: إن هذا الأدب الذي تصطنعين لا يترجم حق الترجمة عن شعورك، ولا يواتي منازع عواطفك، أو إن هذا اللون الذي تتخذين من الموسيقى لا يوائم ذوقك.

ولا يلذذك ويدخل الطرب عليك، ذلكم بأن مظاهر هذه الفنون إنما هي أمور نسبية، لا تكاد تتصل بأحكام العقل أو الواقع خلافا لقضايا العلوم، وقد تقدم في ذلك الكلام. •••

Bog aan la aqoon