والواقع أن العبقرية في الفن لم تعرف علتها ولا سبيلها للناس ولا للعبقريين أنفسهم، ولقد تسأل العامة وأشباه العامة عن فلان المغني أو القارئ: بماذا كان أبرع أهل فنه حتى ذهب له ما لم يذهب لهم من صيت وذكر، وليس بأنداهم صوتا ولا بأعرقهم فنا؟ فيجيبونك من فورهم «فتوح من الله»، ولقد تسألهم عن العقاد بماذا تفرد «بالقانون» دهرا طويلا لم يتعلق بغباره أحد؟ فيجيبونك «حلاوة إصبع» يا سيدي!
ولقد تسأل الخاصة عن الشاعر فلان أو الكاتب فلان، وبماذا برعا وبذا؟ فيجيبونك: «إنها الموهبة!»، ولا أرى بين مذهب العامة ومذهب الخاصة في هذا فرقا كبيرا ولا صغيرا، فكلاهما يدل على تمام العجز عن إدراك ذلك الشيء الذي تتهيأ به العبقرية للمرء في فن من الفنون!
والآن يمكننا أن نحدد الفرق بين البراعة في الفن والبراعة في العلم: فالتبريز في العلم أساسه تحصيل قضاياه وحسن تفهمها، والاستعداد والذوق شرطان فيه، أما التبريز في الفن، فأساسه الذوق والاستعداد، وتحصيل قضاياه وحسن تفهمها شرط فيه.
ومما يجلو لك هذا المعنى وينير سبيله بين يديك، أنك لا تستطيع أن تحكم بصحة القضية الرياضية، أو المنطقية، أو بفساد النظرية الطبيعية، إلا إذا كان لك إلمام بالعلم وبصيرة فيه، على أنك تقرأ شعر الشاعر فيروعك ويعجبك، وتسمع غناء المغني فيهزك ويطربك، وترى صورة المصور فتروقك وتخلبك، في حين أنك لم تحصل من قضايا تلك الفنون كثيرا ولا قليلا؛ ذلك بأن مرجع الحكم فيها كما قلنا، إلى الذوق أولا، والذوق غريزة لا يخلقها الدرس ولا التعليم، فإذا كان للتعليم في هذا الباب فضل، فهو مجرد التهذيب والصقل، على ما سلف عليك من الكلام.
ولا يفوتك أن الفن لا يدل على موضع الجمال، اللهم إلا الغافلين ومن تقاصرت أذواقهم إلى حد بعيد، ولكنه يسمي مظاهر بأسمائها التي وقع بها الاصطلاح، كما يدل على مذاهب المفتن في ألوان تصرفه، ولقد يكون بهذا أقدر من غيره على إدراك مبلغ الحذق في كيفية التصرف وطريقة الأداء، على أنك مع هذا لو جئت برجلين ذيقين، أحدهما خبير بفن الموسيقى والآخر غير خبير، فإنهما كليهما ليطربان لجيد التوقيع، وإن عرف أولهما أن اللحن جار في نغمة الرمل مثلا، وجهل ثانيهما إلى ماذا ينسب اللحن من مذاهب الأنغام، لأن إدراك الجمال والانفعال به لا يحتاجان كما قلنا إلى تعليم ولا تلقين.
وهنا شيء يتصل بهذا الباب ما ينبغي لنا أن نتجاوزه وألا ندل عليه، ذلك أن كل ما تخرجه عبقرية العالم من طريف القضايا ومستحدث النظريات في العلوم، لا يعدو أن يكون مجرد استكشاف لأمر موجود في ذاته، وكل الخطب فيه أنه كان مجهولا حتى تهدت عبقرية العالم إليه، ودله ذهنه أو تجاريبه عليه.
أما ما تنتضح به عبقرية المفتن من ذاك، فإنشاء وخلق من عدم، ومن هنا ندرك لماذا كانت الفنون أشد تطورا من العلوم، وأبلغ منها قبولا للتغيير والتحوير؟ ذلك لأن مردها كما علمت إلى الذوق، والذوق أسرع تكيفا بحكم الزمان والمكان والعادات والأحداث. •••
وبعد، ففي نفسي أن أتحدث عما صنع العالم قديمه وجديده للفن تعرفا للجمال، وضبطا لمذاهبه، وتربية لملكاته، ولكن لقد طال الكلام اليوم، فلندع هذا إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
في علوم البلاغة
سيداتي، سادتي
Bog aan la aqoon