وا حر قلباه! إننا نعيش في هذه الدنيا عيش الآمن في سربه، بل عيش الذي عاهده القدر على أن يسلم على الزمان فلا تكرثه الكوارث أبدا، وإننا لنشعر في أنفسنا المراح فنعبث ونضحك، ولقد يضحك لضحكنا خلق من الناس، ولا ندري ماذا يضمر لنا القدر بعد ساعة واحدة، بل بعد دقيقة واحدة، ولقد يكون فيما يضمر لنا ما يقد المتن قدا، وما يهد النفس هدا، وكذلك كان شأني يا بني فيك.
في ليلة أسهرها في داري راضيا مغتبطا، وما لي لا أكون وأولادي بخير، وأهلي جميعا بخير، وأصحابي جميعا بخير، بل لا أشكو المرض الذي طالت علي مدته حتى كاد يصبح عندي من إحدى العادات، ثم أسترسل للنوم كذلك راضيا مغتبطا، ثم أبعث في جوف الليل لا لشيء إلا لأرى مصرع ولدي، وأشهد هذه الخاتمة الوجيعة من فصول رواية تمثلها لي وتمثلها بي الحقيقة لا يمثلها الخيال!
يا هذه الليلة: كيف كنت ولم كنت؟ أفكان يفنى الدهر كله لو لم تكوني بين لياليه الكثار؟!
يا هذه الليلة! لقد رميتني فأصميت، وطعنتني فأرديت، وكأني بك وقد نفست بي على الموت، لا لأنك تؤثرين لي طول الحياة، بل لأنك تؤثرين لي طول العذاب!
آمنت يا هذه الليلة أنك كنت السهم في قوس الدهر، وأنك كنت النصل في رمح القدر!
النظرة الأخيرة
هذا ولدي يحمله حامله ويخرج به من داري إلى غير عودة أبدا، وإني لأتحامل وأجمع جسدي المحطم، وأجر ساقي المتزايلتين جرا، لأشيع إلى الباب ولدي بل لأشيع نفسي، وإني لأتزود منه بالنظرة الأخيرة، فإذا بي أحس أن كبدي وقلبي يسيلان كلاهما على عيني، فإن كانت بقيت منهما بعد هذا بقية فكالأسفنجة بعد شدة الاعتصار، ووالله ما أدري أكانت تلك النظرة أحلى ما ذقت في حياتي من ألوان المتاع، أم كانت أقسى ما شعر به حي من الحرق والآلام والأوجاع؟
اللهم اشهد أنني راض بقضائك، صابر لبلائك، شاكر لنعمائك، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
مقدمة
بقلم طه حسين
Bog aan la aqoon