بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا أبو محمد عبد الله الفرغاني، قراء مني عليه، قال: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن يوسف الكاتب، قراءة مني عليه، قال:
شدد الله فكرك، وأحسن أمرك، وكفاك مهمك
إن أشد على الممتحن من محنته، عدوله في سعيه عن مصلحته، وتنكبه الصواب في بغيته، ولكل وجهة من الجدوى مأتى تستنزل به عوائدها، ويقرب معه ما استصعب منها، يستثيره حسن الروية، [ويهدي إليه] صالح التوفيق.
وقد رأيتك لا تزيد من رغبت إليه -فيما تحدوه على برك، وتحثه لما أغفل من أمرك- على نص مكارم من سلف. وترى أنه يهش إلى مساجلتهم، فلا تبلغ في هذا أكثر من إحراز الفضيلة للمرغوب إليه، ولا توجد في الراغب فضيلة تحثه على شفيع قصده. ولو عدلت عن مكارم من رغب إليه، إلى حسن مكافأة من أنعم عليه، لكانت لك ذرائع يمت بها الراغب، توجد المرغوب إليه سبيلا إلى الإنعام، وتفسح أمله في مواترة الإحسان.
ولم يؤت الجود من مأتى هو أغمض من مغادرة حسن المكافأة. ولو أنعمت النظر فيها: لوجدتها أقوى الأسباب في متع القاصد، وحيرة الطالب. ولو كانت توجد مع كل فعل استحقها، لآثر الناس قاصديهم على أنفسهم، ولجروا على السنن المأثورة عنهم.
Bogga 3
[وقد كتبت لك] في هذه الرسالة أخبارا -في المكافأة على الحسن والقبح، تنعم الخاطر وتقرب بغية الراغب- مما سمعناه ممن تقدمنا، وشاهدناه بعصرنا، وبالله التوفيق.
Bogga 4
[1] المكافأة على الحسن
1 - حدثني أبو محمد يحيى بن الفضل، عن عبد العزيز بن خالد الأموي، عن أبيه خالد، قال: أخبرني محارب بن سلمة كاتب خالد القشري:
((أن ديوانبان خالد أخرج من ديوانه وثيقة على بعض المتضمنين فدفعها إليه ببر تعجله منه لله فدعا به خالد وأمر بقطع يده بين يديه، فقال له: ((استبقني، أصلح الله الأمير!))، فقال: ((وما يكون من مثلك؟))، فقال له: ((إن لم يقدر في الزمان رفعتي إلى منزلتك، فلا تأمنه على حطك إلى منزلتي، فيكون مني ما تحمده!))، فقال خالد: ((أطلقوه ففيه عظيم!)).
فلم يمض حول حتى ورد العراق يوسف بن عمر متوليا لعمله فحبسه في حجرة من ديوانه، ووكل بباب الحجرة جماعة. فتدسس الديوانبان حتى دخل في جملتهم، وتلطف للجماعة حتى رأسها بالخبرة وحسن المداخلة. وتحرم خالد طعام يوسف بن عمر -خوفا من أن يكون مسموما- فطوى.
وتأمل من ذلك الديوانبان، فجعل في منديل نظيف ما يكف جوعته من طعام قد تأنق فيه، ودخل إليه كالمتجسس عن حاله، فقال له: ((أنا الديوانبان الذي عفوت عنه، وهذا طعام تأمن فيه ما تخافه من غرة)). فأقام أياما يأتيه من طرائف الأطعمة والفواكه ما ينسى به وحشته، ويكف فاقته، ثم دخل إليه فقال: ((ليس هذا الذي أفعله مقدار ما يقتضيه إحسانك إلي؛ وقد استأجرت الدار التي في هذه الحجرة، وأحضرت قوما أثق بهم من حذاق النقابين، حتى نقبت سربا إلى موضعك، ولم يبق إلا أن تركض بعض بلاط هذا المجلس ركضة فتفضي إلى السرب.
وقد أعددت في الدار نجيبين أحدهما لك والآخر لي)).
فلما صلى الديوانبان العصر أغلق الباب، ومضى إلى الموضع المكترى، وركض خالد الموضع وخرج من السرب، وركبا نجيبيهما وحثا المسير. فما فطن بخالد إلا في غد ذلك اليوم، فطلبته الخيل والنجب ففاتها. ولم يزل يوضع في البلاد حتى لحق مسلمة بن عبد الملك، فشفع له إلى هشام ورده إلى عمله.
Bogga 5
2 - وحدثني هارون بن ملول، قال:
((كنت عند أحمد بن خالد الصريفي -وهو يتولى الخراج بمصر، ووجوهها عنده، وقد أكب على حاصل ما استخرج في أمسه، وهو يقابل به ثبت المصادرة-، فقال لصاحب حمالته: ((ما أرى اسم فلان المتضمن في هذا الحاصل، وقد صادرنا بالأمس على خمس مائة دينار؟)) فقال: ((ما صح له شيء!)) فقال: ابعث إليه من يسحبه صاغرا حتى يحمله على خطة المطالبة))، فقال له رجل من المتضمنين يعرف بما شاء الله بن مرزوق: ((الخمس المائة -أيدك الله- تصح لهذا الرجل في هذه العشية إن شاء الله، إن أعفى مما قد أمرت به فيه))، فقال: ((هي عليك؟))، فقال: ((نعم!))، فتقدم إلى صاحب الحمالة ألا يعرض له، فالتفت إلي ما شاء الله فقال: ((تعرف هذا الرجل؟))، فقلت: ((نعم! ومن العجب ألا تعرفه!))، فقال: ((يا أخي أمر في رجل يجري مجرانا في معاشنا بما لم أطق والله احتماله، وعندي ضعف ما طولب به، وكانت صيانته أحب إلي مما حويته. فإذا لقيته فعرفه أني أورد المال عنه لئلا يورد المال مضعفا)).
وانصرفت من مجلس أحمد بن خالد، فلقيت الرجل في طريقي، وهو مجدود، فسألته عن خبره وأخبرته الخبر، فقال: ((يا أخي! وما في هذا من #8# الفرج؟ إنما انتقلت من غم إلى رق! ومتى أقضي إلى هذا الرجل إحسانه إلي؟ والله لوددت أن أمر السلطان نفذ في، ولم أتحمل هذه العارفة منه!)).
قال أحمد بن يوسف، فقال لي هارون: ((وحضرت [موت] ما شاء الله بن مرزوق بعد هذا بأربع سنين -في الوقت الذي توفي- فاتفق أن كان إلى جانبي رجل قد ألقى بعض ردائه على وجهه، وهو يعج بالبكاء والشهيق، ثم كشف وجهه فكان الرجل الذي أورد ما شاء الله عنه الخمس مائة الدينار. فقال: ((من الوصي من جماعتكم))، فقال له الوصي: ((هأنذا!))، فقال: ((عندي لهذا الرجل رحمه الله ألفا دينار وخمس مائة دينار، فقلت له: ((حدثت بينكما معاملة بعدي؟))، فقال: ((لا والله، ولكنها الخمس مائة الدينار، صرت بها إليه عند تيسرها فقال: ((وما [أبغي بها]؟ تكون عندك إلى أوان حاجتي إليها)). فسألته [الإذن] في شغلها. فقال: ((هو مالك، اعمل به ما شئت)) فلم تزل تنمي وتزيد حتى بلغت هذا المقدار. فقال هارون: ((ووجدت ما خلفه ما شاء الله لبنات كن معه شيئا نزرا، فجبرهن الله بذلك المال)).
Bogga 7
3 - وحدثني أحمد بن دعيم -وكان من خاصة قواد أحمد بن طولون- بعد أن ترك الديوان، وحسن انقطاعه إلى الله، قال: ((قلدني أحمد بن طولون الصعيد الأوسط. وخرج عليه سوار أبو عبد الرحمن العمري، فكتب إلي يستخبرني عن حاله، فأعلمته ضعف يده، وانتشار أمره لقلة المال. وقبضت على رئيس من الأعراب اتهمته بمكاتبته وأنهيت خبره إليه. فكتب إلي أحمد بن #9# طولون: يأمرني بحمل الأعرابي، [وجمع ] ما قدرت عليه من النجب، والشخوص إليه؛ ليقف من مشافهتي على مالا تبلغه المكاتبة. فامتثلت أمره.
فما سرت مرحلة حتى لحق بي وجوه تجار العمل، ومعهم شاب أعرابي، وقالوا لي: ((جئناك في أمر هذا الأعرابي المحمول، فإن معنا من يبذل في إطلاقه خمس مائة دينار))؛ فقلت لهم: ((قد أنهيت أمره إلى الأمير!))؛ فقال الأعرابي الذي معهم: ((فخذ الخمس مائة على أن تجعلني مكانه))؛ قلت: ((أفعل)). فأحضرت الأعرابي؛ وكان من عشيرتي؛ فقلت له: ((والله لقد كنت مغموما بك حتى سرني خلاصك!))؛ قال: ((بماذا تخلصت؟ فقلت: ((بذل لي رجل خمس مائة دينار على أن يكون بمكانك وأطلقك!)).
فقال: ((ومن هذا الرجل؟))؛ فأحضرته إياه. فلما رآه قال: ((امض لشأنك))، ثم التفت إلي فقال: ((يحسن بشيخ مثلي أن يتربح في المعروف؟ هذا رجل لقيته وقد أكبت عليه خيل لتسلبه ثيابه وما كان معه، ففرقتها عنه حتى تخلص، فرام أن يخلصني بحصوله في موضع لا يخرج منه أخرى الليالي، و[هو] غرم ثقيل على مثله. والله هذا مما لا أقبله ولا أركن إليه))، فقلت له: ((انصرف في حفظ الله فقد رضي الرجل))، فقال: ((والله لئن أمضيت هذا لألحقنك، ولأخبرن الأمير بصنيعك))، فتوقفت، وبكى الأعرابي فقال: ((إذا كان محبس الأمير على ما تصف، وليس ترجو خلاصا منه؛ فما أعمل في عارفتك عندي؟ وأنا أنشدك الله لما قبلت مني ما بذلته وأعظم منه؛ وأزلت هذه العارفة عن عنقي؛ فإن عارا ونقيصة على الكريم أن يموت وعليه دين من ديون المعروف))؛ فقال له: ((إذا رأيت رجلا أحاطت به خيل تريغ سلبه فذدتها عنه؛ فقد #10# كافأت عارفتي؛ انصرف مصاحبا)). فعرض عليه ما معه من المال؛ فقال: ((ما بي إليه حاجة!))، فأكب على رأسه ورجليه يقبلها ويبكي؛ فأبكى جماعتنا.
فلما دخلت على أحمد بن طولون شافهته من خبر العمري بما سره؛ وعرضت عليه النجب؛ فقال: ((حسنة والله))؛ فقلت: ((معي أيها الأمير ما هو أحسن من هذا)). وحدثته الحديث. فأحضر الأعرابي وخلع عليه وأثبته في ديوانه، وأمرني بإنفاذ رسولي معه في الأعرابي الآخر، فلما وافى خلع عليه وأثبته. فلم يزالا في خاصته إلى وفاته.
Bogga 8
4 - وحدثني موسى بن مصلح المعروف بأبي مصلح -وكان هذا من الثقات عند أحمد بن طولون-.
أن أحمد كان يراعي أمر المحبوس حتى يمضي له حول، فإذا جازه لم يذكره. وكان يقول لي سرا: ((إذا تبينت من رجل براءة ساحة فسهل عليه واستأمرني؛ فإني أستعمل التشدد للضرورة إليه)).
قال موسى بن مصلح: ((وكان في الحبس رجل قد زاد على سنتين منقطعا إلى الله برغبته؛ لا يسألنا شيئا من أمره؛ وهو يكب على الصلاة والتسبيح والتضرع إلى الله.
فقلت له يوما: ((الناس يضطربون في أمورهم؛ ويسألوني إطلاق الرقعة إلى ذوي عناياتهم؛ وأنت خارج عن جملتهم؟))، فجزاني خيرا. ورق قلبي عليه وكبر في نفسي محله، فخلوت به وقلت له: ((لو استجزت إطلاقك بغير إذن لفعلت؛ ولكن استعن بي في أمرك)). فقال: ((والله ما أعرف في هذا البلد #11# غير أبي طالب الخليج- وكان هذا الرجل يتولى شرطتي أحمد بن طولون بمصر -ولو وصلت إليه سرا؛ أو برسالة مع من يفهم، لرجوت تسهيل أمري)) فقلت له: ((والله لآتين في أمرك ما أخطر به على نفسي. أنا أطلقك سرا على أن توثقني بأيمان محرجة أنك لا تهرب عني ولا تخفرني))، فقال: ((إذا كنت عندك بمنزلة من يشك فيه؛ فلا حاجة لي بإخراجك إياي)). فوافقته -من غير يمين ارتهنته بها- على أن يقيم ثلاثة أيام، فأطلقته ليلة الجمعة، وفارقته على أن يصير إلي ليلة الاثنين.
فلما كان سحر يوم السبت، وافاني كما فتحت باب السجن، فلما دخل سجد وحمد الله، وقال لي: ((بعثت إلى أبي طالب الخليج امرأة من أهلنا وطويت عنه إطلاقي، وسألته أن يلطف في أمري فوعد بذلك، وخلف المرأة حتى ترجع إلي بالجواب. وركب إلى الأمير عشية الجمعة، فأقام إلى قريب من العتمة، ثم انصرفت إلى المرأة فقالت: ((وافى أبو طالب الأمير وهو مغموم، فقال لي: ((كلمته فيه فقال: ((والله لقد أذكرتني رجلا يحتاج إلى عقوبة!))، ثم تقدم إلى رجل أن يصير بك إليه عند جلوسه في يوم السبت، ووجه إلي أن أرجع إلى الله عز وجل في أمرك، فليتني لم أتكلم فيك!)). فسحرت -مع ما تيقنته في أمري- خوفا أن يأتيك رسوله فلا يجدني، فيلحقك مكروه منه. ورأيت كل ما يوعدني به أسهل علي من أن أخفر ظنك بي، وتقديرك لي)).
فما ترجل النهار حتى وافى الرجل فتسلمه مني. وحضرت الدار -وقد #12# أحضره أحمد بن طولون، ومجلسه بين الخاص والعام - فلما رآه بكته بالإجلاب عليه في الثغر، فاعتذر بعذر قبله، ولقيه بالرأفة، بضد ما خفته عليه، وأطلقه فكان من آثر إخواني عندي إلى أن فرقت الأيام بيني وبينه)).
Bogga 10
5 - وحدثني عمي إسحاق بن إبراهيم، قال:
((انتظرت أبا عبد الله الواسطي -كاتب أحمد بن طولون- في داره، حتى رجع من عند أحمد بن طولون. فأوصل إليه بعض الحجاب ثبت من وقف بالباب، فرأى فيه إسماعيل بن أسباط فسأل عنه. فقيل له: ((وقف بالباب طويلا وانصرف)). فقال: ((إن هذا الرجل ممن عمر هذه المنزلة مدة طويلة، ولست أشك أن مجيئه لحاجة له، ومن الجميل أن أركب إليه فأقتضيه حوائجه، وأبلغ فيها محبته)). ثم ركب وسرت معه، حتى دخلنا دار إسماعيل بن أسباط -وهي التي ملكها الشير بعده-، فرأينا دارا عارية من الستور والفرش، وتأملنا من فيها من الحشم على حال سيئة. فاستقبله إسماعيل بالشكر والدعاء له، فقال له الواسطي: ((إنه لا فرق بينك الساعة عندي في المرتبة التي كنت فيها. ومن جمالنا فيما أفضى إلينا أن نحسن فيه خلافة من تقدمنا، وأن نراهم كالآباء المستحقين البر من أولادهم))، وسأله عن حاجته، فقال: ((أخبرك بها بعد أن أحدثك بشيء يدل على أن المعروف ينفع عند مستحقه من غير المستوجبين له)).
((كانت لي -أيدك الله- دار خيل نحو المنظر، وكنت أركب إليها في غداة الليلة التي أعاقر فيها إخواني. فركبت إليها يوما فألفيت في الصحراء، جمعا من العامة، وقد ضاقت بهم، ومعهم عامل المعونة. واستقبلتني امرأة قد هتكت #13# سترها، وكشفت شعرها، فقالت: ((يا سيدي! أخي ، وواحدي، وكافلي، يعرض على القتل الساعة!)). فعدلت إلى صاحب المعونة وسألته عن حال الناس، فقال: ((اجتمعنا لضرب خناق بالسوط))، فقلت له بحضرة الناس: ((ما حق هذا إلا الإحراق بالنار، وأنا أكتب فيه إلى السلطان))، فأعلن الجميع بالدعاء لي، وانصرفوا. فسألته البعثة بالخناق إلي، فوعدني بذلك في المساء. فلما صليت عشاء الآخرة أنفذ إلي منه شابا مكفهر الوجه لا تخفى قسوته، فقلت له: ((أما تستحي من الله وتخافه في طعمتك؟))، فقال: ((يا سيدي! أنا أشهد الله أني لا أعاود هذا الفعل أبدا))، فأوصيته بخير، وأضفت إليه من أخرجه عن البلد في حال ستر)).
((وأقمنا بعد ذلك سنين، وتقاصرت أمورنا وتغيرت أحوالنا بتقليد إسحاق بن تميم علينا. فلما بلحنا بما نطالب به، أشخصني وأخي أحمد إلى الحضرة، فطالبنا الوزير بما لفقه ابن تميم علينا، فشكونا إليه شدة اختلالنا، فقال: فلان!)) فوافاه رجل بمنزلة أثيرة عنده: غليظ الطبع، كريه الوجه، تتأمل الشر في سجاياه، فقال: ((استخرج من هذين مائة ألف دينار اليوم)).
فانتزعنا من بين يديه بفظاظة أيقنتنا بالهلكة، ثم صار بنا إلى حجرة له في دار الوزير، فسألنا عن بلدنا ونسبتنا، فلما سمع ((أسباط)) سكن فوره ورق قلبه، وقال: ((من تكونون من إسماعيل؟)) فقلت: ((أنا إسماعيل!)) فبكى وأنكب على رأسي ورجلي، وقال لي: ((يا سيدي أتعرفني؟)) قلت: ((لا))، قال: ((أنا الخناق الذي أطلقتني بمصر! ووالله ما خنقت أحدا بحمد الله بعد إطلاقي، ولكن شراسة طبعي عدلت بي عن الزهادة إلى ما دون الخنق، وهو استخراجي للوزير الأموال بالتعذيب، وقد وجد عندي فيه ما لم يجده عند غيري)). ثم طعن في تلك الحجرة فأخرج إلي صندوقا يحمله غلامان، فقال: ((في هذا من #14# المال والحلي ما نكتفي به، فقوموا بنا حتى نهرب لئلا يقع بكم باس)). فأعلمته أنا نخاف في الهرب تتبع الولد والأهل: فرجع إلى الوزير يبكي بين يديه ويحدثه محلنا -كان- وما أوليناه، فعجب الوزير من رقته علينا، لما وقف عليه من فظاظته، وكان -شهد الله- أقوى الأسباب في دفع المطالبة عنا .
((ثم سأل أبا عبد الله الواسطي -بعد هذا الحديث- حوائج وقع بها في مجلسه، ووكل بها متنجزا من خاصته، ولم تزل ألطافه تعتاده إلى أن توفي)).
Bogga 12
6 - وحدثني يوسف بن إبراهيم والدي، قال: حدثني إبراهيم بن المهدي عن إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه:
أنه كان مع أبي عبد الله محمد بن علي -أبي الخلفاء- برصافة هشام بعد وفاة أبي محمد علي بن عبد الله، وأنه أقام ثلاثة أشهر برصافة هشام لا يأذن له هشام عليه، إلى أن بلغ أبا عبد الله إجماع مسلمة القدوم على هشام، #15# فتلقاه على أميال من الرصافة، وشكى إليه جفوة هشام وتأخيره الإذن عليه. فقال له مسلمة: ((أرجو أن يزول هذا بقدومي))، وأمره أن يقيم بباب هشام إذا دخل عليه مسلمة، ولا يريم ما أقام مسلمة عنده؛ فأقام أبو عبد الله إلى وقت زوال الشمس.
قال عيسى بن علي: فخرج مسلمة إليه، فقال له: ((قوض رحلك أبا عبد الله! فما لك عند الرجل من خير! لأني خاطبته في أمرك -بعد ما تقضى سلامي عليه-: ((محمد بن علي بن عبد الله على شابكة رحمه برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقيم ثلاثة أشهر ببابك فلا يؤذن له عليك؟)). فقال: ((أله عنه أبا سعيد))، فأمسكت حتى حضر الطعام، فأعلمته أني لا أستجيز الأكل وإنه قائم على الباب! فغضب غضبا زاد به حوله، وقال: ((يسمي ابنيه عبد الله وعبد الله، ويرجو بهذا أن يليا الخلافة، ثم يطمع في خير مني! والله لولا ماسة رحمه برسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعت من وسطه شبرا)).
ثم عانق أبا عبد الله، قال: ((رسولي إليك صائر)). فرجع أبو عبد الله إلى رحله فقوضه، وبقي في حيرة لعجزه عما ينهضه. ووافاه رسول مسلمة يقول: ((لم أقدر في سفري هذا طول اللبث، وأشهد الله أني ما حملت معي إلا ألفا وثلاثمائة دينار، وقد وجهت إليك بالألف، وخلفت الثلاثمائة لنفقتي)) قال إبراهيم بن المهدي: فحدث بهذا الحديث الرشيد في حديثة الموصل فبكى، وقال: ((وصلت أبا سعيد رحم، والله لا دخلت الرقة حتى أقضي عارفته عندنا!)). فلما وافينا حصن مسلمة، أحصى من فيه من ولده الذكور والإناث فوجدهم أربعين، فأمر لهم بأربعين ألف دينار)).
Bogga 14
7 - وحدثني أحمد بن وليد، قال:
((ودعت إسحاق بن نصير العبادي في بعض خرجاتي إلى بغداد، فأخرج إلي ثلاثة آلاف دينار وقال: ((إذا دخلت بغداد، فادفع ألف دينار إلى ثعلب، وألف دينار إلى المبرد، وصر إلى قصر وضاح فانظر إلى أول دكان للوراقين، فإنك تجد صاحبها -إن كان حيا لم يمت- قد شاخ، فاجلس إليه وقل له: ((إسحاق بن نصير يقرأ عليك السلام: وهو الغلام الذي كان يقصدك كل عشية -راجلا من دار الروميين- بدراعة وعمامة ونعل رقيقة. فيستعير منك الكتاب بعد الكتاب، فإذا اقتضيته كراء ما نسخ منه قال: ((اصبر علي إلى الصنع)). فإذا استقرت معرفتي في نفسه دفعت إليه هذه الألف الدينار وقلت له: ((هذه ثمرة صبرك علي)).
قال لي أحمد بن وليد: فلما دخلت بغداد -ودفعت الألفي دينار إلى ثعلب والمبرد-، مضيت إلى قصر وضاح، فألفيت الدكان التي وصف لي قفرا ليس فيه كتاب، ورأيت فيها الشيخ الذي وصفه لي في حال رثة وثياب خلقة، وقد أفضى به الأمر إلى التوريق للناس. فجلست إليه وسألته عن حاله، فقال: ((يا أخي! ما ظنك بحال: ما تتأمله في أحسن ما فيها؟)) ثم خرجنا إلى المسألة إلى أشياء #17# كان فيها خبر إسحاق بن نصير، فقال: ((قد كان يجيئني من دار الروميين غلام -ووصفه- فأسمح له بالنسخة بعد النسخة -يقال له: ((إسحاق))، وكان يعدني في كل شيء يأخذه إلى الصنع، وأخبرت أنه وقع بنواحي مصر وما حصل لي منه شيء!؟ فأخرجت الألف الدينار وقلت له: يقول لك: ((هذه ثمرة صبرك))، فكاد والله يموت فرحا. فقلت له: ((ليست دراهم وهي دنانير!)). وانصرفت عنه وهو أحسن من في سوقه حالا.
قال لي أحمد بن وليد: واجتزت بعد ذلك فرأيت دكانه معمورة، وهو متصدر فيها على أحسن حال وأوفاها)).
Bogga 16
8 - وكان بنحو دار العنقود شيخ يتنخس في الدواب -يعرف بابن الزنق- قد لحق بمصر أكابرها، ورأيته في أيام أحمد بن طولون قد علت سنه، وضعف عن التصرف. وكان له ابن أخت -خفيف الروح، مقبول الصورة، حلو الألفاظ، يتنخس في الدواب -فخف على قلب القاسم بن شعبة. وكان شعبة من أكابر أصحاب أحمد بن طولون، ومات في طاعته، فرد إلى القاسم ابنه إحدى الشرطتين بمصر. فانصرف ابن أخت ابن الزنق من عند القاسم وقد خلع عليه دراعة خز من تحتها جبة ملحم، فنظر إليها خاله ابن الزنق، فقال: ((ما هذه الخلعة الرائعة؟))، فقال: ((خلعها علي القائد!))، يريد القاسم بن شعبة. فقال: ((يا بني! إن كنت تصبر على التدلي معه في محنه، كما تتدلى في نعمه، وإلا فاعتزله، ولا تفضحنا بالقعود عنه في نوائبه))، فقال: ((أرجو أن يصونه الله وما أنعم عليه به، من نائبة تلحقه، أو مكروه يقع به))، فقال: ((وأنا أرجو هذا أيضا له، ولكن ينبغي أن لا تنسى نصيبه منك في الشدة، كما عني بك في النعمة)).
واتصل بأحمد بن طولون عن القاسم بن شعبة شيء أنكره، فحبسه ووكل بداره جماعة، واختفى النخاس في دار خاله. فسأله بعد يومين عن سبب ملازمته المنزل، فقال: ((وجدت علة))، إلى أن اتصل الخبر بالشيخ، فدخل إلى ابن أخته فقال: ((قبحك الله! سرقت معروف هذا القائد، وخليته يقارع شجوه بمحنته؟!)). وأسرج حمارا له وركبه، وجيرانه يناشدونه الله ألا يفعل، فقال: والله القتل أحسن مما أتى به هذا الوغد)).
ثم قصد دار القاسم بن شعبة -وعليها جماعة من الموكلين وأصحاب الأخبار، فوقف على الباب فقال: ((كيف حال القائد أبي محمد أيده الله؟))، فقالوا: ((امض يا شيخ))، فقال: ((ما أمضي حتى أبلي عذرا! هذا رجل قد لزمتني له عارفة، وهذا أوان قضائها)). فوقع خبره إلى أحمد بن طولون فأحضره، وقال: ((ما كنت تعمله للقاسم بن شعبة؟))، قال: ((أولاني في بعض أقاربي جميلا، فانتصبت الساعة لما يحتاج إليه؛ وما أحق الأمير أن يفضلني بحسن المكافأة عن طاعة والده ، فقد كان مشهورا بها!)).
فحدثني أبو العباس الطرسوسي. أن أحمد بن طولون قال له في هذا المجلس: ((ما أحسن ما اهتدى هذا الشيخ إلى إذكاري بحق قاسم وعطفني عليه!)). ثم أحضر القاسم بن شعبة وخلع عليه خلعة رضى، وصرفه إلى منزله، وعدل الشيخ ولم يدخل معه داره؛ وانصرف إلى بيته وقد قام بما قعد عنه ابن أخته.
Bogga 17
9 - وحدثني هارون بن ملول، قال:
لما مات أبي ورثت منه مالا جما ومستغلات نفيسة -وكان يقصرني على #19# زي التجار، ويمنعني من التخرق والسرف في الهيئة-، فعمدت إلى أثواب وشي سعيدي كانت في المتاجر التي خلفها والدي فقطعتها، وقطعت لخدم -أرتبطهم للتجارة- من الملحم والديباج ما لا يتسمح به أحد من أبناء الترفه وجلست في الوشي، وقام الغلمان بين يدي فيما قطعته لهم.
ووافانا إسحاق بن إبراهيم [بن تميم] مفتقدا، فتأملني فقال: ((لقد سرني بعد يتمتك وحسن زيك، بارك الله عليك، وأحسن إليك!)). ثم وافى جماعة من إخوان أبي وأصفيائه، فوالله ما أنكر علي واحد منهم ما خرجت إليه من زي أسلافي. فلما كان في عشي ذلك اليوم، وافاني رسول إسحاق بن تميم: ((عندي من لا تحتشمه، فتؤنس جماعتنا بحضورك؟ فقد أعجبني اليوم حسن زيك!)). فزدت في الخلعة وركبت، فلما دخلت إليه لم أفقد عنده أحدا من إخوان والدي. فلما توسطت الصحن ابتدرني الغلمان، وصاح بي إسحاق: ((تتوهم يا جاهل أن أباك مضى واسترحت! ولا تعلم أن أباك خلف لك هؤلاء الآباء بأسرهم يردونك عن الخطإ بأليم العقوبة، ولا يشفعون في مصلحتك من عظيم ما كان أبوك يرق عنه فيك؟)) ثم بطحت في وسط الدار، فصحت بهم: ((يا سادتي! والله ما قرعت قط بمقرعة!))، فقال إسحاق: ((ولا أتيت بمثل هذا الفعل!)). وضربت ضربا مبرحا، ولم ترفع المقرعة عني حتى حلفت لهم ألا أزيد على معرض والدي واقتصاده، فأقمت على هذا إلى اليوم)).
ومازال عنه إلى أن توفى.
Bogga 18
10 - ولما استفحل أمر ابن الخليج، انحاز عنه جيش مصر إلى الإسكندرية وخلا الفسطاط منهم، وكنت بمدينة أهناس ، واضطربت النواحي، واحتجت إلى مشاهدة الفسطاط، فتخفرت بأربعة نفر من القيسية. دفعت إليهم عشرين دينارا وخرجت معهم، فأحسنوا العشرة، وأجملوا الصحبة. وكنا لا نجتاز بحي لا وجماعة إلا كفونا مؤونة كلامهم، وصرفوا عنا بأسهم. ولم يزل كذلك دأبنا حتى بلغنا قصر الجيزة، فأقبلت رعلة من الأعراب -قدرتها برأي العين خمسين فارسا- كانت من غير حيهم، فصممت نحونا برماحها، وعملت على نهبنا وقتلنا، ورأيت الموت في أسنتهم. وأحسن الأربعة -الذين تخفرنا بهم- لقاءها والتضرع إليهم، وناشدوهم ألا يخفروا ذمتهم، وأجملوا التأتى حتى انصرفوا.
وجددنا في السير حتى انتهينا إلى حي المخفرين لنا، فقال المخفرون: ((قد بلغت إلى من تأمنه، فحط رحلك، فما تستقل دوابك الزيادة على هذا السير)). فنزلت وتقدمت إلى الغلمان في إطعامهم، ولم أجد للطعام مساغا من فرط ما لحقني من الروع. وعملت في المخفرين هذه الأبيات:
جزى الله خيرا معشرا حقنوا دمي ... وقد شرعت نحوي المثقفة السمر
دراهمهم مبذولة لضعيفهم ... وأعراضهم من دونها الغفر والستر
إذا ما أغاروا واستباحوا غنيمة ... أغار عليهم في رحالهم الشكر
وإن نزلوا قطرا من الأرض شاسعا ... فما ضره ألا يكون بها قطر
فلحظني واحد منهم وأنا أكتبها، فظن أني أكتب إلى السلطان فأشتكي ما كان من الفرسان الذين لقونا بقصر الجيزة، فقال: ((قد سلمك الله من أولئك #21# القوم، وقد أحسنوا إلينا في حسن الإجابة لنا، فلا تكتب فيهم بشيء)). فقلت: ((والله ما كتبت فيهم ولا في غيرهم إلى السلطان بشيء))، فقال لي شيخ من المخفرين -وقد قرب مني-: ((فما تكتب؟))، قلت: ((أكتب أبيانا مدحتكم فيها))، فقال: ((وإنك لتقرض الشعر؟))، قلت: ((نعم!))، قال: ((أنشدني على اسم الله))، فأنشدته إياها، فقال: ((برك الله ووصلك!)).
ثم صاح بالثلاثة، فلما اجتمعوا أنشدهم إياها، فما خرم -شهد الله- حرفا واحدا، فعجبت من حفظه لها ولم أعد عليه حرفا منها، وتبينت الفرح في سائرهم، وحفظوها بأجمعهم. ثم صاح بهم الشيخ: ((ما تنتظرون؟ ارحضوا السوءة عنكم)). فأدخلوا أيديهم في جيوبهم، وجمعوا شيئا أخذه الشيخ منهم، ثم قال لي: ((قد شكرنا صنيعتك، والله لا نجمع بين شعرك ووفرك!))، ووضع العشرين الدينار بين يدي فأكبرت ذلك وأعظمته. فقال لي: ((والصواب ألا يعلم بها عشيرتنا، فيرجع عليك منها أكثر مما خفته ممن لقيك بقصر الجيزة)). وركبت فسرت مع جمع كثير منهم وهم ينشدون تلك الأبيات، فالتمست أن يقبلوا مني برا فلم أصل إلى ذلك، ورأوا أن الشعر أحسن موقعا مما ملكته.
Bogga 20
11 - ونزل في حارتنا غلام أمرد تأخذه العين، وكنت أسلم عليه إذا اجتزت به، كما أفعل هذا بغيره من جيرتي. فانصرفت يوما إلى منزلي فوجدته قائما على بابه، فدفع إلي رقعة يذكر فيها أنه عباسي من ولد المأمون، ويسألني فيها بره. ودخل من كان معي بدخولي، فقضيت شغلي بالجماعة حتى انصرفوا، ووضعت المائدة بيني وبين العباسي فأكلنا، وهو يتأملني فلا يجد في شيئا قدره. فلما غسل يده، دفعت إليه ثلاثة دنانير، واعتذرت إليه من تقصيري في حقه، وانصرف وقد رأيت تبجيلي في حماليق عينيه.
فلما كان بعد ذلك بسنيات -وأنا في ضياع تقبلت بها ولي فيها غلة بمال جسيم، فخفت أن أدخل الفسطاط فتخرب الضياع وتتعطل عمارتها، فكنت أكمن نهارا في بعض منازل الفلاحين، وأظهر ليلا فأعقد منها ما تهيأ لي عقده. فإني لكامن في يوم من الأيام حتى سمعت رجة شديدة، فدخل إلي بعض غلماني. فقال: ((دخل أصحاب دميانة الضيعة، وعملوا على نقل الغلات!))، وأيقنت بتلف أكثر ما أملكه، ثم سكنت أصواتهم.
ودخل إلي غلام لي فقال لي: ((يا مولاي! كانت هذه الضياع قد أشفت على نقل ما فيها، حتى نظر إلي العباسي الذي كان في جوارنا، فقال لي: ((ألست غلام أحمد بن يوسف؟)) قلت: ((نعم!)) قال: ((فهذه ضياعه؟))، قلت: ((نعم!)) فصاح بالجماعة التي دخلت من أصحاب دميانة: ((اخرجوا بأسركم عنها))، فخرجوا. ثم قال لي: ((قل لمولاك: يا سيدي! محلي عند الأمير دميانة محل الأخ، فاظهر واركب إليه، فقد آمنك الله على نفسك ومالك)). فسألت الغلام: ((ما كان زيه؟)) قال: ((كان عليه كساء صوف مما ينام فيه؛ وتحته خفتان)).
فأحضرت بعض مشايخ الضيعة، وحملت معه إليه دراعة خز كحلية، ومطرف خز، وخمسين دينارا، وسألته أن يقبل ما يحتاج إليه من ناحيتي. #23# فقبل الدراعة الخز، ورد المطرف والدنانير، وقال لرسولي: ((والله للثلاثة الدنانير -التي وهبها لي لشرفي لا لشيء مما ظننته به- أحسن موقعا عندي مما رددته إليه، فكثر الله في الناس مثله!)).
فلم يزل عضدا لي وسترا علي، حتى انصرف دميانة عن الناحية.
Bogga 21
12 - وحدثني يحيى بن الفضيل، عن يحيى بن نجه -وكان هذا الرجل حسن الكتابة- قال:
((ترددت إلى عمر بن فرج الرخجي مدة، فدخلت عليه في يوم من الأيام. فقال: ((قد أنضيناك! قد استتممت في هذا اليوم سنة))، ووقع لي بتقليد عمل سني. واضطربت فيما أحتاج إلى التجهز به، فلما لم يبق علي إلا نص ركابي، برزت ظهري وثقلي، ووقفت على باب دار أمير المؤمنين المنتصر أنتظر توديع عمر والخروج إلى عملي. فرأيت غلمان عمر يتسللون فسألت عن السبب، فقيل لي: ((سخط أمير المؤمنين على عمر!)) فحرت، #24# وخفت أن أرجع إلى منزلي فأخسر جميع ما أنفقته. فإني لفي تلك الحيرة حتى خرج عمر بن فرج، ومعه رجل من شيعة بني العباس، فقال لي: ((أين كل من كان معي؟))، فقلت: ((تسللوا للحادث!))، فقال: ((وقد وكل بي هذا الشيعي على أن ينفيني إلى بلاد الترك، ولم أعد شيئا ولا أجد من يعده لي))، قلت: ((هذه قبة وظهر يقلك، وأنا أصحبك شكرا على ما أسلفتني من التقليد)).
فركب القبة، وأحضر الشيعي قبة له، وركبنا وأنا أعادله، وانتهى المسير بنا إلى خراسان. وكنا لا نفضي من بلدان خراسان إلى بلد إلا وجدناه أغلظ طبعا من البلد الذي فارقناه، حتى بلغنا بخارى، فرأينا قوما في نهاية من غلظ الطباع، فقال لي -حين رآني أتعجب منهم-: ((كيف لو رأيت الترك وبلدانهم؟ يقتلون المستجير بهم، ويغير بعضهم على بعض، فيهلك النازع إليهم بينهم!))، فزادني هذا القول تهيبا للسير معه، ثم ملكت ما استغرب مني، وتماسكت.
وجد بنا السير عن بخارى إلى أرض الترك، وإني معه في القبة وهو يحدثني بشيء قد شغلني عن تبينه ما يقلقني من ركوب ما أقدمت عليه من الخطر -حتى سمعنا حلق البريد، فتشوفنا لها، ووافى بها رسول أمير المؤمنين وكتابه بما أمره بالحضرة: من الرضا عنه ورده إلى مرتبته؛ ويأمره فيه بكشف مدن خراسان، وتجريد عقودها على أصوب ما استقرت عليه، واستثارة التوفير بها والزيادة فيها. فلما استتم قراءته؛ حمد الله، وألقى الكتاب إلي؛ وقال: ((بارك الله لك في الخلاص وهنأك المزيد)). ورد إلي تأمل ما أمر به أمير المؤمنين من كشف عقود النواحي)).
فانصرفت إلى منزلي بمائة ألف دينار؛ مع ارتهان شكر المعاملين وإحماد السلطان)).
Bogga 23
13 - وحدثنا أحمد بن يوسف، قال:
((حبس أحمد بن طولون يوسف بن إبراهيم والدي في بعض داره -وكان اعتقال الرجل في داره يؤيس من خلاصه-، فكاد ستره ينهتك لخوف شمله عليه. وكان له جماعة من أبناء الستر يتحمل مؤنها، مقيمة عليه لا تنقطع إلى غيره. فاجتمعوا -وكانوا زهاء ثلاثين رجلا- فركبوا إلى دار أحمد بن طولون، فوقفوا بباب له يعرف بباب الجبل، واستأذنوا عليه فأذن لهم. فدخلوا إليه، وعنده محمد بن عبد الله بن الحكم وجماعة من أعلام مستوري مصر، فابتدروا كلامه بأن قالوا: ((قد اتفق لنا -أيد الله الأمير- من حضور هذه الجماعة مجلسه، ما رجونا أن يكون ذريعة إلى ما نأمله؛ ونحن نرغب إلى الأمير في أن يسألها عنا، ليقف على منازلنا)). فسألهم عنهم، فقالوا: ((قد عرضت العدالة على أكثرهم فامتنع منها)).
فأمرهم أحمد بن طولون بالجلوس؛ وسألهم تعريفه ما قصدوا له؛ فقالوا: ((ليس لنا أن نسأل الأمير مخالفة ما أمر به في يوسف بن إبراهيم، لأنه أهدى إلى الصواب فيه، ونحن نسأله أن يقدمنا إلى ما اعتزم عليه فيه: إن آثر قتله أن يقتلنا؛ #26# وإن آثر غير ذلك أن يسلف بنا، وهو في حل وسعة منه))، قال: ((ولم ذلك؟))، فقالوا: ((لنا ثلاثون سنة ما فكر في ابتياع شيء مما احتجنا إليه؛ ولا وفقنا بباب غيره. ونحن والله أيها الأمير نرتمض البقاء بعده من السلامة من شيء من المكروه وقع فيه))، وعجوا بالبكاء بين يديه. قال أحمد بن طولون: ((بارك الله عليكم فقد كافأتهم إحسانه وجازيتم إنعامه))، ثم قال: ((علي بيوسف بن إبراهيم))، فأحضر. فقال: ((خذوا بيد صاحبكم وانصرفوا)). فخرجوا معه؛ وانصرف بهم إلى منزله)).
Bogga 25
14 - قال:
((وطالبني بعض عمال الخراج بمصر بمال زاد على ما في حاصلي؛ فاحتجت إلى معاملة بعض التجار عليه؛ فدللت على رجل من أهل الشام يعامل برهون؛ فصار إلي -وأنا في بيت المال- منه شيخ حسن الصورة جميل اللقاء، فقال: ((إلى كم تحتاج؟)) قلت: ((إلى مائتي دينار)). فأخرج من كمه مالا فوزنه، واستزاد من غلام كان معه دنانير حتى أكمل المائتين، ثم سلمها إلي واقتضاني خطا بها، وقال: ((قد كفيت مؤونة الرهن))، فقلت: ((فكيف أكتب الخط؟)) قال: ((بمائتي دينار كما أعطيتك))، فقلت له: ((سبيل المعاملة غير هذا!))، فقال: ((والله لا قبلت منك فيها ربحا، ولو وهبتها لك لكان من أصغر حقوقك علي))، ثم قال لي: ((تعرفني؟))، قلت: ((لا!)).
قال: ((ركبت مركبا أريد الفسطاط من تنيس، وحملت فيه تجارة لي #27# ما كنت أملك غيرها، حتى إذا بلغت المحلة، ووازيت ضياعا كانت في يدك، كسر بنا، وغرق جميع ما أملكه، وسلمت بحشاشة نفسي، فجلست على الشط أبكي وأنتحب، فأقبلت في جماعة معك فسألتني عن حالي فأخبرتك بها، فبثثت في حشد من يغوص على المركب وما فيه وحططت على الشط، فأخرجوا بزا كان لي وتلف ما سواه؛ واستحلفتني على ما ذهب لي فأخبرتك به -وكانت قيمته سبعين دينارا- فقسمتها لي على وكلائك وكتابك فلما حصلت لي أعطيتني دنانير من عندك وقلت لي: ((هذا أرش ما لحقك في الثياب))، وأمرت أن يكترى [لي] إلى تنيس، وكتبت لي إلى جماعة معامليك بتنيس بما لحقني، وبمعونتي على أمري، فرجع بك إلي ما أملك، واكتسبت جاها بتنيس تضاعف مالي به، وحسنت معه حالي)).
((وأخذ خطي بالمال وانصرف)).
Bogga 26
15 - وسمعت أبا العباس أحمد بن بسطام يحدث أبا الطيب أحمد بن علي قال:
((لما سخط الموفق على صاعد وكل به من يطالبه ، وأقرني والطائي على ما كنا نتقلده له. وكان صاعد محسنا إلينا، جميل العشرة لنا، #28# فلم نترك شيئا نصل إليه مما خفف عنه إلا بلغناه. وكانت بيني وبين الطائي إحنة، فدعاني الموفق في يوم من الأيام -ونحن بواسط وقد بلح صاعد، واستنزل المستخرج جميع ما وصل إليه منه-، فقال لي: ((أحمد! ادخل إلى صاعد فقل له: أظنك أرضيت المستخرج حتى فتر في مطالبتك، وتالله لئن لم تخرج محتجبك لأتولين تعذيبك بنفسي!)).
فدخلت إليه وأديت الرسالة، فقال لي: ((يا أحمد! والله ما بقي لي شيء، وما ملكت قط ما هو أحب إلي من نفسي، فتقول له: يا سيدي! والله ما أملك على الأرض ولا فيها دينارا ولا درهما ولا جوهرا، وأنت أولى بالتطول على خادمك)). فانصرفت من عنده وأنا أخاف أن يغريه ذلك الجواب. ودخلت إليه وقلت له: يقول لك: ((يا سيدي! ما أملك على وجه الأرض ولا بطنها غير مائة ألف دينار عند الطائي)). فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه، قال له: ((المائة الألف الدينار التي لصاعد عندك، قد بعث إلي يحلف أنه لا يملك غيرها)). فقال له: ((وهي بمدينة السلام، فينظرني الأمير مسافة الطريق، وأنا أستسلف له ما تيسر منها من التجار هاهنا؟)) فقال له: ((اكتب خطك بها)). فكتبه وسلمه إلى الموفق، فسلمه إلى غلام من خاصته، وانصرف الطائي.
فاستقبحت ما صدر مني فيه، وعظم في نفسي لتصديقه صاحبه، وترك معارضته بما يدفع به المرء عن نفسه. فدنوت من الموفق وقلت له: ((أيها الأمير! جميع ما أديته إليك عن صاعد مني تقولته، وقد قبح في عيني، وسيدي مخير بين الصفح عنه والعقوبة عليه)). فقال: ((أحسنت! بارك الله عليك)). ثم أمر برد الطائي، فقال: ((لم لم تتقرب إلي بذكر هذا المال؟)) فقال: ((أيها الأمير! يمنعني من ذلك ما تولاه من اصطناعي)) فقال له: ((ليس يقنعني إلا أن تحلف برأسي على هذا المال، وفي أي وقت دفعه إليك)). فقال: ((يعفيني #29# الأمير من ذلك)). فقال: ((والله لا فعلت)). فقال: ((وحق رأس الأمير ماله عندي درهم واحد فضلا عنه، ولكني لما رأيته قد عاذ بالدعوى علي، تيقنت أنه لم يبق له حيلة في المدافعة عن نفسه، فعملت على تحمل هذا المال، ووالله ما أملكه، ورجوت أن أصل إليه بجاهي ولطيف حيلتي)) فاستحضر الموفق الخط ودفعه إلى الطائي، فقال له: ((خرقه)). ثم تقدم بإعفاء صاعد من المطالبة)).
Bogga 27
16 - وكان نجاح بن سلمة -مع ما يؤثر عنه من زعارة أخلاقه، وقبح تسلطه- يحب التبسط على طعامه، ويحسن المكافأة عليه. فحدثني يعقوب بن إسحاق بن تميم، قال:
أقام إسحاق والدي ببغداد خمسا وعشرين سنة في رفع حسابه، ينقض الكتاب جماعاته ويسلطون الإعنات عليه، قال لي يعقوب، فحدثني أبي: أن أغلظ الكتاب بأسرهم كان عليه، نجاح بن سلمة. قال: فلما أفرط علي سوء تحكمه، جلست في منزلي، فمر به اسمي، فقال: ((قد عزم إسحاق بن تميم على أن يتربص بنا كما كان يتربص بمن كان قبلنا؟)). ثم نظر إلى بعض المضمومين إليه فقال: ((بكر إلى إسحاق بن تميم فأحضره الدار إلى أن أنصرف)). قال: فباكرني فظ من الجند لم أملك نفسي معه حتى صار [بي] إلى دار نجاح، فوجدناه قد ركب.
فحصلني على الباب وجلس معي، وتعالى النهار واشتد جوعي، فقلت #30# له: ((امض معي إلى المنزل لنأكل جميعا ونرجع!)) فأبى فقلت لحاجب نجاح -ورأيته متمكنا من داره: -وأصلحك الله، إني قليل الصبر على الجوع، وأخاف أن يتأخر الأستاذ وأضعف عن حجتي في حضوره لغلبة الصفراء علي، وقد سألت هذا الرجل أن يطلق لي الذهاب إلى منزلي لآكل وأرجع فأبى))، قال: ((لم لا تأكل هاهنا؟)). وأجلسني في بشخانة فيها، واستحضر الطعام، فأحضرت مائدة نجاح بن سلمة، ولم يبق حلو ولا حامض ولا حار ولا بارد إلا نقل علينا. حتى إذا بلغت إلى الحلواء من الطعام، دخل الدار نجاح فجلس في المجالس، ورآني في دخوله، ومكاني من البشخانة، فبعث إلي غلاما له [يقول]: ((بحياتي استتم أكلك ولا تتجوز فيه)). فأقمت حتى فرغ الطعام، وجاؤوني بالغسل والبخور، ثم قمت. فلما رآني ضحك إلي وقال: ((من علمك على هذا؟))، قلت: ((التوفيق))، قال: ((أجل!))، ثم قال لي: ((ارفع حسابك كيف شئت واحشه، فقد أمنك الله من اعتراضك بشيء تكرهه)).
قال يعقوب: قال لي أبي: ((فغدوت إليه بحسابي، فوالله ما زاد على التوقيع في الجماعات بإمضائها وتخليدها. ثم قال: ((متى تعزم على بلدك؟))، فقلت: ((يا سيدي إنما أنتظر فيه إذنك، فكل شيء لي مفروغ منه))، فقال: ((اجعله بعد صلاة الجمعة))، قلت: ((أفعل)). ثم قال لي: ((تروح إلي لألقاك في حوائج لي؟))، فقدرت أن يحملني في الحوائج غرم الألف الدينار.
فلما رحت إليه. دخلت وهو خال، فقال لي: ((إنك ترجع إلى بلد قد يئس منك فيه أهله، فأدخل الجار من جيرانك الخشبة في حائطك، والجار في البستان قد تحيف حدودك، فهب لي ما بينك وبينهم)). قلت: ((أفعل)).
قال: ((وترى ببلدك جماعة قد ارتفعوا، أبناء خاملين، فلا تنهرهم بدقة أصولهم، وانصرف عما كان عليه سلفهم، فإنه يزرع لك المقت في قلوبهم)). قلت: ((أفعل)).
قال: ((وأصحاب البريد، فاحذر أن يرد في كتبهم ذكر لك بخير ولا شر)). قلت: ((أفعل)).
ثم أومى إلي يعانقني، قلت: ((يا سيدي! حوائجك؟)). قال: ((هي ما عددته عليك، إنك قد حللت مني بانبساطك محل القرابة الذي أسر بصوابه، ويغمني زلله، فإن حزبك أمر في بلدك فلا تعدل به عني، وأنا أستودعك الله)).
((فانصرفت عنه وأنا على غاية من الشكر)).
Bogga 29
17 - وحدثني محمد بن يزيد -وكان حسن التقشف، سديد الرأي- قال:
أطلق جماعة من حبس أحمد بن طولون كانت قد وقعت بهم ظنة بالتلصص، وكانوا ينزلون كورة أهناس. فإني عند بعض أصحاب الأكسية حتى وافاه غلام أصفر، خبيث المنظر، متمكن من نفسه، من الخارجين من الحبس، فرحب به، وجلس عنده، وهنأه بسلامته. ثم سأل عن حاله، فقال: ((خرجت من الحبس كما تراني، وما معني نفقة تبلغني منزلي)).
فقلت له: ((ما اسمك؟))، فقال: ((مسافر))، فقلت له: ((يا فتى! قدم الله في أمورك ولا تعدل عنه، فإن الراحة في ظله))، فقال لي: ((يا سيدي! الحق فيما قلته، والنفس بالسوء، والتوفيق إلى الله دون خلقه))، فأعجبني جوابه، #32# وقلت له: ((كم يكفيك إلى منزلك؟)) فقال: ((دينار!))، فدفعته إليه وقلت له: ((إذا حدثتك نفسك بإخافة السبيل فابعث إلي حتى أمسك من رمقك، وأكف فاقتك)).
فما مضى شهر حتى اضطربت ناحية أهناس والبهنسا بتسلط رجل من اللصوص -في جمع كثير، على كثير من المواضع، وكبسهم الضياع. وكانت لي أسلاف بسمسطا ونواحيها، فخرجت لقبضها في رفقة من التجار، قد حملوا البز والطيب وما يحتاج إليه للأرياف. فإنا بنواحي المحرقة، حتى لقينا قطعة من اللصوص، فساقتنا بأسرنا إلى موضع منقطع عن المارة، وفيه شاب أصفر راكب فرس، ومعد مقدار خمسة فوارس، فعرضت الجماعة عليه إلى أن بلغني، فتأملته فوجدته ((مسافرا))، فأكب على رأسي وتحفى بي، ثم قال لأصحابه: ((أخطأ والله حزركم، هذه رفقة شيخي وسيدي، ووالله لا دخل إلي منها شيء)). وسار معنا حتى أخرجنا إلى الأمن، ثم قال لي: ((أنا أعلم أنك لا تأكل طعامي، ولا تقبل شيئا مني، وقد والله يا سيدي حببت إلي مجانبة ما أنا بسبيله، فنشدتك الله لما جعلتني طريقك في الرجعة!)). فتضمنت له ذلك.
ودخلنا مدينة أهناس، فشاع خبر ما أولاني في الناس. وكان المتقلد لها رجلا من أصحاب أحمد بن طولون -يعرف بفهم- متقدما عنده أثيرا لديه فبعث إلي، وعرف مذهبي، فقال: ((قد أحفيت المسألة عن هذا الغلام، فرأيته لا يرى القتل، ولا هتك الحريم، وإنما يتعلق بأطراف الأموال ولا يبلغ #33# الاجتياح. وأنا أسألك أن تسفر بيني وبينه، فإن أؤمنه وأكرمه وأقلده سيارة البلد)). فرجعت في حاجة فهم إليه، فألقيته والجماعة بين يديه، فأديت إليه رسالته، وأعلمته أن هذا الرجل صحيح الضمان، فقال: ((يا سيدي! ما بيني وبينه في الأعمال إلا أنس الناس به)). ثم قال لأصحابه: ((من يساعدني على الخروج إلى الله عز وجل؟))، فقالوا بأجمعهم: ((نحن!)). فسار معي حتى إذا قربنا من أهناس، وضع حبلا في عنقه وقال: ((ادخل بي في زي الأسرى وهذه الجماعة))، فدخلوا، والناس يبكون لما اتفق لهم من حسن الهداية، ورأى الناس عجبا من سوق شيخ مثلي ضعيف رجلا قد أعجز خيل السلطان. فطلب فهم أن يقبل له خلعة، فامتنع من ذلك، وأضاف أصحابه إلى فهم، وأقام إلى وقت الحج فخرج إلى مكة راجلا، ثم فقدته)).
Bogga 31
18 - وحدثني أبو حبيب المقري، قال: ((ضاقت أحوالي، فلم يبق لي إلا جارية أحبها، ومنزلا أسكنه. فبعت المنزل بألف دينار، وخرجت إلى مكة بالجارية، فقلت لها: ((يكون هذا المال في وسطك)) فكانت إذا نزلت في منزل حفرت في خيمتها حفيرة، وأودعت المال فيها وطمتها. فإذا نودي بالرحيل أثارته وشدته في وسطها.
قال: فاتفق أن رحلنا عن منهل ونسيت المال في الحفرة، فأخبرتني الجارية بذلك، قال: فحار فكري، وطاش روعي، ولم أدر ما أعمل. ودخلنا مكة، #34# فحدثتني نفسي ببيعها فلم يطعني قلبي. فلما رجعنا ونزلنا المنهل الذي خلفت فيه الكيس، رأيت صحراء، وغلام على رابية يرعى غنيمات له، وأقبلت أدور وأنظر إلى الأرض، فقال لي: ((ويحك! ما تطلب؟))، قلت ((شيئا أودعته أرض هذا المنهل))، فقال لي: ((صفه لي))، قلت: ((كيس أحمر فيه مال))، فقال: ((ومالي فيه إن دللتك عليه؟))، قلت: ((نصفه!)) قال: ((ها هو ذاك في الرابية)). فلما رأى تحيري فيه، قام حتى أخرجه ووضعه بين يدي، فحمدت الله، وقسمت الكيس قسمين وخيرته أحدهما، فقال لي: ((إني أرى قسمي منه كثيرا، وأنا أكتفي بنصف أحد القسمين، فقسمته بقسمين، فقال: ((تقسمه أيضا بقسمين))، ففعلت، فقال: ((ما أعجب أمرك! أتركه كله حراما، ونصفه حلالا، وآخذ منه شيئا! هذا ما لا يكون، انصرف بمالك)). فقلت له: ((يا غلام! أنت حر أو مملوك؟)) فقال: ((مملوك))، فقلت: ((لمن؟))، فقال: ((لشيخ هذا الحي)).
فدخلت الحي فألفيت الشيخ والناس عنده، فقلت له: ((رأيت غلاما في المنهل يرعى غنيمات وأسألك أن تبيعنيه))، فقال: ((اشتريته بعشرة دنانير))، فقلت: ((أنا آخذه بعشرين))، فقال: ((إن لم أبعه؟))، قلت: ((أعطيك به ثلاثين دينارا))، فقال لمن حوله: ((أما تسمعون ما يقول؟ وما يحملك على أن تبذل به هذا الثمن؟))، فقلت: ((جمع علي ضالة، فنذرت أن أعتقه وأبتاع الغنم [التي] يرعاها له، وأملكه إياها))، فقال: ((نذرت أن تفعل به هذا لفعلة واحدة من الجميل أولاكها، ولنا في كل يوم منذ ملكناه حسنة تقتضي أكثر مما نأتيه له. وأنا أشهد الجماعة أنه حر لوجه الله، وأن ما يرعاه له)).
فانصرفت عن الشيخ وقد بلغ بي ما أملته له)).
Bogga 33