إذ لا بدء لوجوده تعالى، وننفي عنه الحدوث لما ثبت من حاجة المحدث إلى محدث يحدثه، وقد بينا فساد تسلل ذلك إلى مالا غاية له من الفساد في أول كتابنا، فوجب بذلك أنه قديم لا أول لوجوده، ونصفه بأنه باق لا يفنى، لاستحالة الفناء على ما يستحيل عليه الحدوث، لأنه لما كان سبحانه وتعالى موجودا لا بعد عدم بطل عنه أن يكون معدوما بعد وجود، ونصفه بأنه حي عليم حكيم قدير مريد، سميع بصير، لاستحالة وجود الأفعال من الأموات، وبطلان وقوعها من الجاهلين العاجزين، يتعالى ربنا عن صفات النقص علوا كبيرا، فإن قال: أخبروني عن هذه الأشياء التي وصفتموه بها من الحياة، والعلم، والحكمة، والقدرة، والإرادة، والعزة، والسمع، والبصر، أهو شيء لم يزل به أم هو شيء استحدثه لنفسه؟ أم كيف القصة في ذلك؟ قلنا: إن الله تعالى لم يزل موصوفا بما ذكرنا: من الحياة، والعلم، والحكمة، والقدرة، والإرادة، والعزة، والسمع، والبصر، في سائر تلك الصفات، ولا يزال موصوفا بها، من قبل أنه لا تعدو تلك الصفات إذا كانت حادثة إليه وجوها ثلاثة: إما أن تكون حدثت إليه من غير محدث أحدثها، أو حدثت بمحدث أحدثها له، وهو غيره، أو أن يكون استحدثها لنفسه، وبطل أن تكون تحدث من غير محدث، لما بينا من فساد القول بأن شيئا يحدث بلا محدث في غير موضع من كلامنا، وفسد أن يكون غيره أحدثها له، إذ كان ذلك الغير يجب فيه من القول مثل ما يجب في هذا الموصوف، ولا ينفك مما لا ينفك منه هذا الموصوف، فيتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية له، وفسد أن يكون هو الذي أحدثها لنفسه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يكون من قبل أن يستحدثها لنفسه ليس بحي ولا عالم، ولا حكيم، ولا قادر، ولا سميع، ولا بصير، فمن كان بهذه الهيئة لم يقدر على أن يحدث علما، ولا قدرة، ولا شيئا من الأشياء، فلما بطلت هذه الوجوه الثلاثة، واضمحل القول بها لم يبق إلا القول بأنه لم يزل ربنا جل وعلا حيا، عالما، قديرا، سميعا، بصيرا في سائر صفاته، ولا يزال كذلك، والله ولي التوفيق.
ومن سألنا عن عدل الله وحكمته، فقال: أخبروني عن الله حيث زعمتم أنه حكيم، عليم، عادل، فيما وصفتموه به من ذلك، وقلتم: إن جميع أفعاله وأموره لا تقع ولا تأتي إلا على معنى العدل، والحكمة (¬1) ،
¬__________
(¬1) الحكمة: هي الكلام الذي يقل لفظه، ويجل معناه، والجمع حكم، كالأمثال وجوامع الكلم، والحكمي: هو المنسوب إلى الحكم، والحكميون: هم الفلاسفة.
والحكمة الإلهية: علم يبحث في أحوال الموجودات الخارجية المجردة عن المادة، التي لا تتعلق بقدرتنا ولا باختيارنا. راجع بصائر ذوي التمييز.
Bogga 194