إن الخلفاء الرشدين هم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، ففي أيام أبي بكر الصديق الذي توفي سنة 635، وعمر بن الخطاب كان فتح المدن المار ذكرها، وفي آخر خلافة عمر ولى على الشام معاوية بن أبي سفيان، فوجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وبنى مرجها على أميال منها حصنا سماه حصن سفيان، فكتب أهل طرابلس إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم، أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجه إليهم بمراكب كثيرة فهربوا بها، وكان مقتل عمر بن الخطاب سنة 645 قتله رجل اسمه فيروز وكنيته أبو لؤلؤة.
وبويع عثمان بن عفان في الخلافة بعد عمر بن الخطاب، فضم ولاية سورية كلها إلى معاوية والي دمشق، فافتتح معاوية قبرس سنة 50 أو ما بعدها إلى سنة 54، ثم فتح جزيرة أرواد وأخرب مدينتها ... ومما كان في أيامه الاعتماد على نسخة من القرآن كانت مودعة عند حفصة زوجة النبي، وحرق باقي المصاحف التي بأيدي الناس، وفي سنة 656 تألب جماعة على عثمان وحصروه في داره فقتلوه وكان المصحف بيده.
وقام بالخلافة بعد عثمان علي بن أبي طالب ابن عم النبي وصهره زوج ابنته فاطمة، ومما كان بسورية في أيامه أن اتفق عمرو بن العاص ومعاوية والي سورية على قتال علي بن أبي طالب، والتقى جيشهما بجيش علي في محل يسمى صفين في أطراف سوريا قريبا من الفرات سنة 658، وطالت المراسلات بين علي ومعاوية، فلم ينتظر الأمر بينهما فكانت بينهما وقعات كثيرة حتى قيل: إنها تسعون وقعة، وأن عدة القتلى من أهل سورية خمسة وأربعون ألفا، ومن أهل العراق الذين كانوا مع علي خمسة وعشرون ألفا، إلى أن رفع أصحاب معاوية المصاحف على الرماح وقالوا لأعدائهم: «هذا كتاب الله بيننا وبينكم.» فألح أصحاب علي عليه أن ينصبوا حكما ما بين الفريقين يفصل الخلاف بما في كتاب الله، واختار علي أبا موسى الأشعري، واختار معاوية عمرا ابن العاص، فاجتمع الحكمان وقررا أن يخلعا عليا ومعاوية معا، وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين، ثم أقبلا على الناس وقد اجتمعوا فكلف عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري أن يبدأ في الكلام، فقال: «اتفقنا أن نخلع عليا ومعاوية ونولي هذه الأمة من أحبوا.» ثم قام مكانه عمرو بن العاص فقال: «إن أبا موسى قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلعه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية.» فقال له أبو موسى: «ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت.» وفر إلى مكة حياء من الناس، وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، فسلموا عليه بالخلافة، ومن ذلك الوقت أخذ أمر علي بالضعف وأمر معاوية في القوة، وكانت بينهما حروب انتهت سنة 661 بمقتل علي بن أبي طالب بمؤامرة ثلاثة رجال من الخوارج.
ومن بعد مقتل علي بايع أصحابه ابنه الحسن بالخلافة، وقالوا: «إن أبا بكر لما رأى الرسول محتضرا أرسل إليه عليا يقول: لمن الخلافة من بعدك يا رسول الله؟ فقال: للسائل»، فقال أصحاب علي: «إنما السائل من سأل فعلا وهو علي»، وأثبتوا خلافته وأنكروا صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وأن الخليفة بعد موت علي هو ابنه الحسن ثم ابنه الحسين، وسمي هؤلاء الشيعيين ويسمون الآن المتاولة؛ لأنهم توالوا عليا وأهل بيته، وكانت أخص منازلهم في العراق وفارس، وانفصلوا عن معاوية الذي بويع بالخلافة بعد مقتل علي في سورية ومصر وإفريقيا وبلاد العرب وغيرها. (3) في ما كان بسورية في خلافة معاوية
معاوية هو ابن صخر بن حرب بن أمية استعمله عمر بن الخطاب على دمشق، ثم ولاه عثمان على سائر أعمال سورية ثم بويع بالخلافة بعد مقتل علي كما مر، وبه ابتدأت سلسلة خلفاء بني أمية في سورية وعددهم أربعة عشر خليفة ومدة خلافتهم نحو من تسعين سنة، وأهم الأحداث في أيام معاوية تسليم الحسن بن علي الأمر إليه، بعد أن بايعه أصحاب أبيه بالخلافة؛ لأنه رأى رجاله غير كفو لمناوأة معاوية، وفي سنة 669 أرسل جيشا كثيفا مع سفيان بن عوف فحاصر القسطنطينية، وعن ابن خلدون أن هذه الحملة كانت سنة 671، ثم نجده معاوية بعسكر أمر عليه ابنه يزيد فلم يظفروا بفتح القسطنطينية بل عادوا إلى سورية، وكان في أيامه سطو المردة على سواحل سورية من اليهودية إلى جهات أنطاكية، فصالح معاوية ملك الروم على شرط أن يمنع سطو هؤلاء المردة ... وسوف نذكر أمر هؤلاء في الكلام على عبد الملك بن مروان، وتوفي معاوية سنة 675. (4) في ما كان بسورية في أيام يزيد بن معاوية وابنه معاوية الثاني
بويع يزيد بالخلافة لما مات أبوه، وتردد الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير في الإقرار بالخلافة له، وكاتب أهل الكوفة الحسين بن علي بالمسير إليهم ليبايعوه، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل نيابة عنه فبايع الحسين نحو ثلاثين ألفا، وحاصروا عبيد الله الوالي بالكوفة في قصره فانتصر عليهم هذا الوالي وقبض على مسلم المذكور وقتله، وسار الحسين إلى الكوفة ولم يكن معه إلا اثنان وثلاثون فارسا وأربعون رجلا، فقتله عبيد الله وأما عبد الله بن الزبير فاستمر في مكة ممتنعا عن الدخول في طاعة يزيد، فجهز يزيد جيشا أمر عليه مسلما ابن عقبه فقاتل أهل المدينة، وسار إلى مكة فداهمته المنية، فأقام على الجيش مقامه الحصين بن نمير وبقي محاصرا ابن الزبير حتى بلغهم نعي يزيد بن معاوية، فارتحل الحصين راجعا إلى الشام، وكانت وفاة يزيد سنة 684.
وبعد وفاته بويع ابنه معاوية الثاني بالخلافة، ولكن لم تكن مدة خلافته إلا ثلاثة أشهر، وبايع أهل مكة عبد الله بن الزبير، وكان مروان بن الحكم من بني أمية بالمدينة وتوجه إلى الشام، فبايعه الناس بالخلافة، وتابع أهل البصرى والعراق والحجاز واليمن ابن الزبير، وتابعه سرا الضحاك بن قيس والنعمان بن بشير الأنصاري في حمص، فصارت الناس بسورية فرقتين اليمنية مع مروان والقيسية مع الضحاك بن قيس، والتقى الفريقان بمرج راهط في غوطة دمشق واقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الكرة على الضحاك والقيسية، وقتل الضحاك وانهزم محازبوه وأصحابه، فدانت أعمال سورية كلها لمروان، ثم مضى إلى مصر وبايعه أهلها، وبعث ابن الزبير أخاه مصعبا في جيش، فأرسل إليه مروان عمرا ابن سعيد فمنعه عن الدخول إلى سورية، فانهزم بجيشه واستقر مروان بدمشق، واستتب له الأمر في سورية ومصر، وبقي ابن الزبير في العراق والحجاز واليمين، وكان ذلك سنة 685، ولكن لم تكن خلافة مروان إلا تسعة أشهر، وتوفي سنة 685 نفسها. (5) في ما كان بسورية في أيام عبد الملك بن مروان
بويع عبد الملك بالخلافة سنة 685 بعد موت أبيه، وهو أول من ضرب الدنانير والدراهم في سكة الإسلام، وكتب عليها آي القرآن وضرب بمدينة كذا والتاريخ، ومن أهم الأحداث في أيامه عزمه أن يستريح من ابن الزبير الخليفة في مكة، وأن يستبد بالخلافة على الأمة كلها، فتجهز سنة 691 وسار إلى العراق، وكان فيها مصعب بن الزبير أخو الخليفة في مكة فاقتتل الجمعان، وتخلى أهل العراق عن مصعب الذي قاتل حتى قتل هو وولده واستوثق ملك العراقين لعبد الملك، ثم جهز سنة 692 جيشا أمر عليه الحجاج بن يوسف الثقفي لقتال عبد الله بن الزبير في مكة، فكانت وقعات بين الفريقين حتى حصر الحجاج بن الزبير بمكة، ودام الحصار سبعة أشهر حتى قتل ابن الزبير سنة 693، وبعد مقتله بويع لعبد الملك بالحجاز واليمن، واجتمع الناس على طاعته.
وروى توافان المؤرخ الرومي ما تابعه عليه شدرانس وزنرلس، وإنسطاس المكتبي وبولس الشماس وغيرهم، وهو أنه كان في أيام معاوية شعب يسمونه المردة تمردوا على العرب، وتوافرت غزواتهم حول لبنان حتى ضبطوا كل ما كان من الجليل إلى أنطاكية، فاضطر معاوية أن يرسل وفدا إلى قسطنطين اللحياني ملك الروم يطلب الصلح على شريطة أن ملك الروم يمنع المردة عن غزواتهم، ويدفع العرب له كل سنة مبلغا من المال وعددا من الخيل الجياد، فأبرم الصلح إلى ثلاثين سنة، وذكر المؤرخون المذكورون أن المردة المذكورين استمروا على سطوهم، وغزواتهم إلى أيام الخليفة عبد الملك ويوستنيانس الثاني ابن قسطنطين المذكور، فأرسل عبد الملك رسلا إلى يوستنيانس في تجديد الصلح، فاتفقا على كبت المردة، ويدفع العرب إلى الروم في مقابلة ذلك مبالغ من المال وخيلا جيادا وعبيدا، وأرسل يوستنيانس قائدا من قواده، فأبعد اثني عشر ألفا من هؤلاء المردة، وأقامهم في بمفيليا فهذا ما رواه المؤرخون المذكورون.
وقرائن الحال والتقليد العام في طائفتنا الذي أثبته علماؤنا، ولا سيما العلامتان البطريرك الدويهي ويوسف سمعان السمعاني أن ليس هؤلاء المردة إلا الموارنة، الذين كانوا منبثين في تلك الأيام في جبل لبنان، وبعض فلسطين وفي سهول حمص وحماة إلى جبل اللكام وأنطاكية، ووافق علمانا على ذلك كثير من مشاهير المؤلفين الغربيين كبارونيوس ونطاليس إسكندر وغيرهم، بل أيد ذلك ابن العبري العالم الشهير اليعقوبي المخالف للموارنة، وذكره بعض مؤرخي العرب أنفسهم، منهم البلاذري الذي ذكر الصلحين اللذين عقدا بين معاوية وقسطنطين وبين عبد الملك ويوستنيانس ... على أنه سمى هؤلاء المردة جراجمة نسبة إلى جرجومة في جبل اللكام لاشتراك الجراجمة أي: أهل جبل اللكام مع الموارنة في هذه الغزوات؛ لأنهم كانوا على مذهب الموارنة، بل إن القديس يوحنا مارون أول بطريرك على الموارنة كان من سروم في جبل اللكام، وكان له ابن أخت يسمى الأمير إبراهيم، وفي تقليداتنا الموثوق بها أنه جمع جيشا من جبل اللكام، وسار به للمدافعة عن خاله الذي كان مطران البترون، ثم صير بطريركا على الطائفة سنة 685، وعليه فالظاهر بلا تكلف أن الموارنة الذين كانوا في جبل لبنان، ومن كان منهم في جبل اللكام وفي سهول حمص وحماة هم الذين كانوا يبدون الغزوات المذكورة بالاتفاق، حتى ألجئوا الخليفتين معاوية وعبد الملك بن مروان أن يرسلا رسلا إلى ملك الروم يطلبون الصلح، والاتفاق معه على كبت هؤلاء المردة؛ لأنهم كانوا يعتبرونهم أنصارا لملك الروم؛ ولا سيما لأن الخلفاء لم يكونوا استحوذوا على لبنان كما مر، وكانوا يعتبرون سكانه ومناصريهم بمنزلة جنود أو مناصرين لملك الروم.
Bog aan la aqoon