توصل الفونيقيون أيضا إلى الأبير وصقلية وجنوبي إيطاليا، وكان لهم في هذه المواضع بيوت تجارة ومستعمرات، وكان لهم في مصر تجارة وسيعة، وكان لهم في منف حي خاص بهم ... وكانت سفن الصيدونيين والبيروتيين تسير على شواطئ إفريقية، وبنوا هناك كمباه حيث بنيت بعدا قرطاجنة وهيبون على مقربة منها.
قوافلهم:
بينما كانت سفن الفونيقيين تمخر البحور كما مر كانت قوافلهم تطوي البيد إلى سائر أنحاء سورية، وبلاد العرب والكلدان وأرمينية، وكانت لهم بيوت تجارية ومستعمرات في حماة، وتبساك على عدوة الفرات وتدمر ونصيبين إلى غيرها. (4) في حالة الفونيقيين السياسية على عهد الصيدونيين
كان الملوك الرعاة يلون مصر وكانوا سوريين، فكان الفونيقيون ناعمي البال لا يخشون سطوا، ولا يحاذرون إغارة عليهم، ولكن لما طرد المصريون الملوك الرعاة طمحت أعينهم إلى سورية، واختشوا أن يعاون أهلها الملوك الرعاة على العود إلى مصر ... فغزا آمون هو تاب الأول جنوبي سورية، وأكمل توتمس الأول إخضاع العشائر السورية حتى بلغ الفرات، وأقام له هناك نصبا، ويظهر أن الصيدونيين ومن تبعهم سالموا الفراعنة، ولم يشتركوا في العداوة لتوتمس الثالث عند غزوته للسوريين، واستسلموا إلى رعمسيس الأول، وإلى ساتي الأول ابنه وإلى رعمسيس الثاني عند محاربتهم للحثيين كما مر مؤثرين راحتهم ونجاح تجارتهم، وهذا بين من الآثار المصرية.
بل يظهر من هذه الآثار أن المصريين كانوا يمقتون البحر، ويعتبرونه نجسا فأقاموا الفونيقيين على سفنهم، وكان لتوتمس الثالث أسطول بحارته من الصيدونيين يجبي الجزيات من الأمصار الشاسعة، وهم كانوا يلون السفن المصرية التي تنقل العساكر إلى بلاد العرب بالبحر الأحمر، والتي تنقل حاصلات الهند وبلاد العرب إلى مصر. (5) تقهقر صيدا وسقوط مهابتها
قد أنبأتنا الآثار المصرية بأحداث كثيرة كانت في القرن الخامس عشر قبل الميلاد؛ منها أن البلاسج قدماء بلاد اليونان أحدثوا سفائن في البحر المتوسط، وتحالفوا مع سكان إيطاليا وصقلية وسردينيا والليبيين في إفريقية، وأبدى المتحالفون تعديات كثيرة أخصها على سفن الصيدونيين في بحر الروم، وهيجوا الوطنيين على النزالة الفونيقيين، ونجدوهم حتى طردوهم من مستعمراتهم من الأرخبيل ولم يبق لهم منها إلا القليل، وعقب ذلك فتح يشوع بن نون أرض الموعد، وتدميره إحدى وثلاثين مملكة وقتل ملوكها، وتمليك أرضهم لبني إسرائيل ... فأثقل الباقون منهم كاهل صيدا، وكانوا وبالا عليهم وضعف جانبها، وكان من أصحاب المحالفة المذكورة أهل كريت، وجزر البحر المتوسط وسواحله فقصدوا مصر ليستحوذوا عليها، فهب رعمسيس الثالث لمقاومتهم وأسر السواد الأعظم منهم وأسكنهم جنوبي فلسطين، ولحقهم أناس من بني جلدتهم، فتقووا هناك وسموا فلسطينيين، وضايقوا بني إسرائيل، وفي سنة 1200 قبل الميلاد حملوا على صيدا على حين غفلة، فافتتحوها عنوة وأبسلوا من وجدوا من أهلها، فكانت بذلك نهاية سؤدد صيدا وذهاب مهابتها. (6) في جعل صور عاصمة للفونيقيين
إن الذين فروا من صيدا اجتمعوا بصور حول هيكل ملكرت الذي كان مركزهم الديني، فزادت الأحداث المذكورة في عداد سكان صور، وجعلتها عاصمة الفونيقيين سياسة ودينا، وسمى إشعيا النبي صور بنت صيدون (ص23 عدد 12)، واستمرت صور رافلة بأطراف مجدها خمسة قرون كما سيجيء، واستحكم حينئذ اتحاد الفونيقيين وتوثقت عرى عهدتهم، وانضم إلى الصوريين كل العشائر الكنعانية التي كانت مساكنها إلى الشمال منها إلى أرواد، وحفظت مدنهم الشهيرة كبيروت وجبيل وغيرهما استقلالها المحلي مع إقرارها بالسيادة لملك صور، وكانت هيئة حكومتها ملكية مقيدة بمجالس عامة مؤلفة من أغنياء الشعب ومرتبطة بمشورة الكهنة والقضاة. (7) مستعمرات الفونيقيين في مدة سيادة صور
لما كان البلاسج أنشئوا سفنا وطردوا الفونيقيين من أكثر مستعمراتهم، فسار الفونيقيون بعد ذلك من وجهة أخرى لا يلقون بها منازعا ولا معارضا، فقصدوا جهة المغرب في إفريقيا حيث كان لهم مستعمرة فزادوا تلك الجهة عمرانا ونجاحا، وأخذت سفنهم تتقدم نحو الغرب حتى جزائر الغرب وفاس إلى أن اكتشفوا إسبانيا، وعمروا قادس مدينتها، وتواترت أسفارهم وتوافرت جالياتهم في تلك البلاد وبنوا ملاكا وسكس وغيرهما، واتصلوا إلى سفح جبال البيراناي، وكان الفونيقيون يجلبون من إسبانيا الذهب والفضة والحديد والرصاص والقصدير، ثم العسل والشمع والزفت، وبهذا المعنى قال حزقيال (فصل 27 عدد 12): «ترشيش (يريد بها إسبانيا) متجرة معك في كل غنى، وبالفضة والحديد والقصدير والرصاص أقامت أسواقك.» وكانت تجارتهم هذه رابحة كثيرا وأصبحت في جلى مهامهم، وكان لا بد لهم من محطة في طريقهم فاختاروا لذلك مالطة، واحتلتها جالية منهم في آخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وتوسعوا في الجزر القريبة إليها ثم قصدوا صقلية، وانتشرت تجارتهم فيها وعمروا فيها مدنا كثيرة منها بالرم، ولما كانت سفنهم التي تسافر إلى إسبانيا لا بد لها من المرور بجانب سردينيا، فعمروا كالياري فيها وجعلوها مستودعا لتجارتهم وذخائرهم، ثم تطرقوا إلى باقي محال هذه الجزيرة، واستحوذوا عليها، ووجد فيها حديثا أثر من أيام ولاية الصوريين عليها يسمى به معبود أهل الجزيرة سردوس باتر وفي الفونيقية أب سردون، ويظهر أنه كان لهم معاهد في سردينيا، وتطرقوا منها إلى جنوبي إيطاليا وتوسكانا، وكانت قوافل تجارتهم تتوغل في أملاك إفرنسة وألمانيا.
وروى إسترابون أنه كان لهم أو لجاليتهم بقرطاجنة مستعمرات في مراكش، وفي ما وراء بوغاز جبل طارق، وقد بقي أثر فونيقي هو خلاصة كتاب جزيل الأهمية كتب في الفونيقية يسمى درج حنون، وخلاصة ترجمته إلى اليونانية يتبين منها: أن أهل قرطاجنة الليبيين الفونيقيين أرسلوا حنون هذا بستين سفينة شاحنة جالية منهم إلى ما وراء بوغاز جبل طارق؛ لتحتل تلك الثغور، فذهب وأخذ يحل كل جماعة في محل مسميا المدن والقرى والجزائر التي توصل إليها؛ فأثبت هذا الدرج وجود مستعمرات للفونيقيين في ما وراء جبل طارق، وروى هيردوت (ك4 ق42) أن نكو ملك مصر سير سفنا ملاحوها من الفونيقيين، فدارت حول قارة إفريقية مبتدأة من البحر الأحمر ، ومنتهية إلى بوغاز جبل طارق ومنه إلى مصر. (8) في اتفاق الفونيقيين وبني إسرائيل
استمرت العداوة بين بني إسرائيل وعشائر الكنعانيين نحوا من ثلاثة قرون، وأخيرا ضايق الفلسطينيون الفريقين معا، وتقوى الآراميون على الكنعانيين واستحوذوا على أملاكهم في حماة وما يليها، وتغلبوا على بني إسرائيل في عبر الأردن، فقضت الضرورة على بني إسرائيل والفونيقيين أن يغادروا ما كان بينهم من الإحن والضغائن، وأن يعمدوا إلى الائتلاف وتشييد مملكة دعائمها الاتحاد الصحيح والمعاهدة المخلصة بين مملكة بني إسرائيل الجبلية ومملكة صور الساحلية، ولما ملك داود في نحو سنة الألف قبل الميلاد أرسل إليه حيرام الأول ملك صور وفدا يوقع على معاهدة الصلح والاتحاد بين المملكتين، وأبرم الوفاق بينهما، وسأل داود حيرام أن يرسل إليه مهندسا لبناء القصر الذي عزم على بنائه في صهيون، وأن يصحبه بعملة ماهرين نجارين ونحاتين، وأن يؤذن بقطع أخشاب من غياض لبنان لزينة قصره، فأتم حيرام كل ما سأل داود، واستمر حيرام مسالما لداود ما حيي ولما توفي خلفه ابنه أبيبعل، فكان على شاكلة أبيه، ثم توفي فخلفه ابنه حيرام الثاني فكان كذلك في موادة داود، ولما توفي داود وخلفه ابنه سليمان أرسل حيرام الثاني يهنئه ويوثق عرى الاتحاد بين المملكتين، وطلب منه سليمان أن يرسل عملة لقطع خشب الأرز في لبنان لبناء الهيكل، فأجابه حيرام إلى ذلك بكل ارتياح، وروى يوسيفوس (في تاريخ اليهود ك8 ف3) أن رسالتي سليمان وحيرام كانتا محفوظتين في خزائن الهيكل إلى أيامه، وروى عن هذه السجلات أيضا أن حيرام أهدى إلى سليمان عند بنائه الهيكل مائة وعشرين وزنة من ذهب، وجزوعا من أفخر الخشب، أمر بقطعها من لبنان، وأهدى سليمان إليه هدايا نفيسة كثيرة، وهذا وارد أيضا في سفر الملوك الثالث (ف9 عدد 15)، وأراد سليمان أن يعطي حيرام عشرين مدينة وقرية متاخمة لصور، فتمنع حيرام من قبولها مخافة أن تكون مندوحة للخصام بين المملكتين، واكتفى بأن يرسل سليمان له كل سنة ما دام البناء في الهيكل عشرين ألف كر زيت، وتزوج سليمان بإحدى بنات حيرام، ثم بإحدى بنات ملك الحثيين فكان زواجه بالامرأتين الكنعانيتين وسيلة لدخول عبادة بعل وعشتروت في أورشليم، وعقد سليمان وحيرام شركة في تسفير السفن إلى أوفير لاستجلاب الذهب، ومات حيرام قبل سليمان نحو سنة 944ق.م، واستمر الوفاق بين المملكتين، فلم نجد الكتاب ذكر حربا بينهما، بل نرى أحاب تزوج بإيزابل بنت إيتوبعل ملك صور، وكان من هذا الزواج ما كان من سوء العواقب. (9) ملوك صور
Bog aan la aqoon