وقبض الأمير علي علم الدين على أصحاب المناصب المعنيين وقتلهم وسلب أموالهم، ودعا الأمراء التنوخيين بأعبية إلى الغداء فغدر بهم، وقتل منهم الأمراء يحيى ومحمود وناصر الدين وسيف الدين، ودهم أبناءهم الصغار في البرج وقتلهم، فانقرضت بهؤلاء سلالة أمراء الغرب التنوخيين ولم يتحمل الأمير ملحم يونس معن هذا الجور، وراسال القيسيين أصحابه، فاجتمع عليه جمع منهم فنهض من عرنه حيث كان مختبئا إلى الشوف، وضوى إليهم أصحابهم من كل جهة، وساروا لقتال الأمير علي علم الدين، والتقى الفريقان في المقيرط فوق مجدل معوش ودارت الدوائر على اليمنية، وارفض جمع الأمير علي علم الدين وقتل منهم نحو ثلاثمائة رجل، وكان مدبر والي دمشق معهم فقتل، واشتد ساعد الأمير ملحم معن، وهرب الأمير علي إلى أطرابلس وسار منها إلى دمشق مستجيرا بواليها كجك أحمد، فأجاره وأصحابه بخمسمائة مقاتل فالتقاهم الأمير ملحم إلى قب إلياس واتقعوا، فاضطر الأمير ملحم أن يرجع إلى الشوف بعد أن خسر نحو أربعمائة رجل، وحينئذ جدد والي دمشق الشكوى على آل معن وقال: إن أحدهم الأمير ملحم ابن أخي الأمير فخر الدين جمع الرجال، وقتل مدبر ولاية دمشق وفتك بالعسكر، وقصد أن يحاصر دمشق، فحنق السلطان مراد خان وأمر بقتل الأمير فخر الدين وأبنائه الأمراء منصور وحيدر وبلك الذين كانوا معه بالأستانة فقتلوا، ولم يبق منهم إلا الأمير حسين الذي كان الصدر الأعظم قد أحضره من حلب إلى الأستانة، وإلا الأمير ملحم المذكور، وولى السلطان آل سيفا على إيالة أطرابلس واليمنية آل علم الدين على الشوف، وفي أيام فخر الدين اعتز النصارى وبنوا الكنائس، وقدم إلى سورية المرسلون الأوروبيون، وكان أكثر عسكره من النصارى، ومدبرو حكومته، وأخص خدامه من الموارنة.
وفي سنة 1634 تولى إيالة أطرابلس قاسم باشا ابن يوسف باشا سيفا، ثم اعتزل وأقام أعيان أطرابلس مكانه ابن أخته الأمير علي محمد سيفا، ونهض لمحاربة الأمير عساف بن يوسف باشا سيفا، فانهزم الأمير علي إلى بيروت لائذا بالأمير علي علم الدين السابق ذكره، فجمع هذا عسكرا سار به ومعه الأمير علي سيفا فاستولى على بلاد جبيل وجبة المنيطرة، فهب الأمير عساف ومعه المشائخ الحمادية لمناصبتهم فأحرق جبة المنيطرة، وقتل بعض أصحابهم وسار الأمير علي سيفا ومعه زين الدين الصواف إلى قرية إيعال بالزاوية، فكبسهما الأمير عساف فانتصرا عليه وقتلا من أتباعه، وعاد الأمير علي إلى ولاية أطرابلس، وضم إليها بلاد جبيل والبترون.
وفي سنة 1635 تولى إيالة أطرابلس مصطفى باشا النيشانجي، وعهد بولاية جبيل والبترون والضنية إلى الأمير علي سيفا سالفه، ونصب على جبة بشري الشيخ أبا كرم يعقوب الحدتي والشيخ أبا جبرائيل يوسف الأهدني، ولما أمر مصطفى باشا أن يتوجه مع العساكر السلطانية لمحاربة شاه العجم جعل وكيله بأطرابلس الأمير عساف سيفا المذكور، فشق ذلك على الأمير علي فكبس قرية أميون ونهبها، وجمع الأمير عساف عسكرا فاتقعا في عرقا، فانهزم الأمير إلى الشوف واستولى الأمير عساف على بلاد جبيل، واستنجد الأمير علي بالأمير علي علم الدين، فنجده برجال وعاد لقتال الأمير عساف ودهمه في قرية عناز بالحصن، فانتصر عليه الأمير عساف وقتل جماعة وافرة من رجاله.
وفي سنة 1636 قصد أحمد الشامي أغا الإنكشارية بالشام قتال الأمير علي علم الدين لعدم أدائه المال السلطاني، ووافقه حاكم صفد ومتسلم بيروت والمقدم مراد اللمعي، والأمير عساف سيفا المذكور، فانهزم الأمير علي علم الدين ورحل معه اليمنية من المتن والجرد والعرقوب والشحار والشويفات بعيالهم، وتوجهوا نحو كسروان فانهزم القيسية فنهب اليمنية بكفيا، وقوي عليهم القيسية في مرحاتا، ثم تواقعوا بالمروج فانهزم اليمنية إلى عكار، وضوى إليهم رجال الأمير علي سيفا بعرقا وقصدوا أطرابلس، وخرج عليهم أهلها إلى النهر البارد فظهر اليمنية عليهم ولحقوهم في جون عكار يقتلون وينهبون، ثم توسط طرموش البدوي الصلح بين الأميرين عساف وعلي سيفا، فاصطلحا في قرية المني قرب أطرابلس وعاد الأميران مع الأمير علي علم الدين إلى بيروت، ولما رأى الأمير ملحم معن انحطاط قوة اليمنية جمع الرجال وهزم الأمير علي علم الدين من الشوف واستحوذ عليه.
وفي السنة المذكورة ولى مصطفى باشا والي أطرابلس الأمير عساف سيفا على عكار، والشيخين عليا وأحمد حمادة على جبيل والبترون وجمع الأمراء الحرافشة العرب والسكمان، وقصدوا استرداد ولايتهم على بعلبك فأرسل عليهم والي دمشق عسكرا، فقتل كثيرين منهم ومن رجالهم، وأرسل الباب العالي واليا على أطرابلس، وأراد مصطفى باشا واليها أن يعارضه، وبعث مدبره وبعض حاشيته فجمعوا آل سيفا وآل حمادة في بقرزلا فلم يذعن آل سيفا لرأيه في المعارضة، ومخالفة الدولة وقتلوا المدبر والحاشية والشيخ أحمد حمادة، ولما بلغ ذلك مصطفى باشا انهزم ليلا من أطرابلس، فدخلها الوالي الجديد ومعه الأميران عساف وعلي سيفا ... وكانت وقعة في أرض أهمج بين المشائخ الحمادية المتولين جبيل والبترون، والأمير إسماعيل الكردي من أمراء رأس نحاش ومحمد بن يوسف أغا، فانتصر هذان الأخيران على الحمادية وتولى محمد بن يوسف أغا على هذه البلاد مكانهم.
وفي سنة 1637 اتفق الأمير عساف سيفا مع الأمير ملحم يونس معن على محاربة الأمير علي سيفا، والأمير علي علم الدين والتقى الفريقان في عكار فطرد الأمير عساف الأمير عليا حتى جبل الكلبينية ، ونصب حينئذ شاهين باشا واليا على أطرابلس، فعاد الأمير ملحم معن إلى الشوف، والأمير عساف سيفا إلى البقيعة، ورفعت الشكوى إلى شاهين باشا بأن آل سيفا خربوا البلاد فدعا الأمير عساف، فأرسله إلى قلعة الحصن، وفي اليوم الثاني شنقه وقتل أتباعه، ولم ينج منهم إلا القليل واستخدم الأمير إسماعيل الكردي، والشيخ علي حمادة في القبض على آل سيفا فقبضوا على بعضهم، واستنزفوا أموالهم وفر الأمير علي سيفا إلى الأمير علي علم الدين، وتشتت آل سيفا من إيالة أطرابلس.
وفي سنة 1638 قدم السلطان مراد خان إلى حلب، فخاف الأمير علي علم الدين ولجأ إلى المتاولة ببلاد بشارة، فجمع الأمير ملحم معن معسكرا ودهم الأمير عليا في قرية أنصار، وقتل كثيرين من جماعته ففر الأمير علي إلى دمشق، فأصحبه واليها بعسكر ففر الأمير ملحم من وجه العسكر، ونشر حينئذ والي دمشق فرمانا سلطانيا بسلخ بلاد جبيل والبترون وجبة بشي عن إيالة أطرابلس واتباعها لولاية دمشق، ونصب أحمد أغا الشمالي حاكما على بيروت، فنهض عليه الأمير علي علم الدين والتقيا في خلدة، فقتل الأمير علي الحاكم المذكور، وتوفي السلطان مراد سنة 1640. (4) في ما كان بسورية في أيام السلطان إبراهيم خان الأول
إن السلطان إبراهيم الأول استوى على أريكة الملك بعد وفاة أخيه السلطان مراد الرابع سنة 1640، وفي هذه السنة كبس والي أطرابلس الشيخ أبا كرم الجدتي شيخ جبة بشري، ففر وقبضوا على أخيه سعد، وضيقوا على القرى والأديار، فلم يتحمل الشيخ أبو كرم هذا التنكيل بأهل بلاده، فاستسلم طائعا إلى والي أطرابلس فرفعه إلى القلعة ثم طوفه راكبا حمارا في شوارع المدينة، وعرض عليه الإسلام فأبى فأماته معلقا على كلاب.
وفي سنة 1641 غضب والي أطرابلس على المشائخ الحمادية، ففروا من وادي علمات وبلاد جبيل وقتل بعضهم، وتولى بلادهم الأمير علي علم الدين، وفي سنة 1642 صدرت الأوامر السلطانية أن تكون بيروت وصيدا تحت ولاية أحمد باشا الأرناءوطي والي أطرابلس، وكبس الأمير علي علم الدين الشيخ سرحال حمادة بقرية غبالة، فنهب القرية وقتل خمسة رجال من أقاربه، وطرد الحمادية من إيالة أطرابلس.
وفي سنة 1644 تولى أطرابلس حسن باشا، وكان مدبره الشيخ أبو رزق البشعلاني، وقد رأينا لزيادة الإضاح أن نستكمل ترجمة هذا الرجل هنا مكان أن نذكر في تاريخ كل سنة شيئا منها، فهذا كان من أعيان الموارنة، ويظهر أن أصله كان من بشعلي إحدى قرى البترون، وقد اختاره والي أطرابلس مدبرا لحكومته كما مر ثم عزل، وفي سنة 1649 استرده والي أطرابلس عمر باشا إلى تدبير حكومته، ونصب أخاه أبا صعب البشعلاني شيخا على جبة بشري، ولما عزل عمر باشا عن أطرابلس وتولاها حسن باشا سنة 1651 سلم تدبير أمور ولايته إلى أبي رزق المذكور، ولكن تقوى عليه ابن الصهيوني، وأخذ منصبه وصادره، وفي سنة 1653 قبض عليه محمد باشا الأرناءوط بحجة أن بعض المشائخ الحبشية قدموا إلى داره، ومعهم جماعة بداعي زواج أحد أولادهم، فنم خصومه للوالي بأن أولئك الرجال أتوا يريدون به سوءا، فقبض على أبي رزق وضيوفه وسجنهم بالقلعة مكبلين، وكانوا تسعين نفسا ونهبوا داره واستباحوا ماله ... ثم ورد الخبر بعزل الوالي المذكور، وتوجه إلى حماة لجبي المال وأخذ معه أبا رزق وضيوفه، واستدعاه للحساب وادعى أن الباقي عليه من المال للخزينة اثنا عشر ألفا، وبلغ الوالي الجديد إلى حماة وأعاد الحساب، فثبت أن الباقي على أبي رزق أربعة آلاف وخمسمائة قرش، دفعها عنه ابن الصهيوني وخلى الوالي الجديد سبيله وسبيل السجنى معه، وأراد أن يعهد إليه بتدبير أمور ولايته، ولكن وصل قبوجي من الباب العالي يطلب رأسه، فأشار عليه الوالي وابن الصهيوني أن يسلم فدية لنفسه، فأذعن مكرها وأرضوا القبوجي فانصرف، ورجع أبو رزق مع الوالي إلى أطرابلس والتزم منه جبلة واللاذقية، وقبل سفره إليهما أوصى أخاه أبا صعب أن يأخذ أولاده، ويسير بهم إلى بلاد ابن معن، فشق ذلك على الوالي، وفي سنة 1654 صير بشير باشا والي حلب وزيرا، وقدمت له الشكوى على أبي رزق أنه ميال إلى ابن معن، وأرسل أولاده إليه مع أخيه، وأن أخاه هذا كان مع ابن معن في وقعة مع رجال الدولة في وادي التيم، فأمر بقتله فقتل في أوائل آذار سنة 1654.
Bog aan la aqoon